ماذا لو اختفت الحيوانات والأشياء والمفاهيم وبقي الإنسان؟
كثيرًا ما أتحدّث إلى النّباتات أمام شرفتي: “صباح الخير سوسو، تبدين رشيقة اليوم !”. وأُريد بذلك أن أُعبّر عن إعجابي بجمال نبتة زرعتها ولا تزال حيّة. “هل اشتقتِ لي؟ “ما هي مشكلتكِ ؟” أسأل سيّارتي عن سبب توقّفها عن العمل، وفي الحقيقة إنّي لم أستعملها منذ أشهر طويلة.
الإنسانيّة قابلة للانتقال إلى الأجسام أو المفاهيم غير الإنسانيّة
من أجهزة الكمبيوتر إلى السّيارات إلى الهواتف المحمولة، يتفاعل المُستهلكون مع الأشياء غير الحيّة يوميًّا. وعلى الرّغم من كونها آلات بلا عقل، يميل الإنسان -وبشكل روتينيّ- إلى أن ينسب القدرات العقليّة البشريّة والنّوايا والمُعتقدات والمواقف والمعرفة لكلّ ما هو غير بشريّ كالحيوانات والأشياء والمفاهيم على السّواء. وهذا ما يُسمّى “بالتّجسيم”، وهي ترجمة لمصطلح “Anthropomorphism”، ولعلّ التّرجمة الأقرب إلى دلالة هذا المُصطلح هي “الأَنْسَنَةُ”.
وتجدر الإشارة إلى أنّ المصطلح الإنجليزيّ، مشتقّ من اللّغة اليونانية القديمة وهو يتألّف من جزأين، الجزء الأوّل (Antro-) مأخوذ من كلمة (Anthropos)، والّتي تعني “الإنسان”، والجزء الثاني (Morph) من (Morphe) وتعني الهيئة أو الشكل.
وفي الواقع، إنّ عمليّة “الأنسنة” هي عمليّة ذهنيّة استخدمها الإنسان منذ القِدَم، في الفلسفة والدّين والأدب والرّسم والنّحت… ففي الدّين، ولأجل مُقاربة مفهوم الألوهة أو “اللّوغوس”، سعى الإنسان إلى إظهار الكينونة الإلهيّة -هذا المفهوم الميتافيزيقيّ- في صورة إنسانيّة، فجعلها كينونة ناطقة وواعية تمتلك أحاسيس ومشاعر. ولذلك نرى في الأساطير القديمة آلهةً وأنصاف آلهة تتكلّم وتغضب وتُمارس حتّى الجنس… .
في اللّاهوت، يبدو من المُستحيل التّفكير في الله، من دون أن ينسب إليه بعض الصِّفات الإنسانيّة. ونرى في الأديان السّماويّة، على سبيل المثال، يتمتّع الله بخصائصَ فيزيائيّة وعواطفَ إنسانيّة، ولكن في الوقت نفسه يُفهم أنّه مُتسامٍ. وفي هذا المجال، لا بدّ أن نُشير إلى الفيلسوف “لودفيغ فويرباخ”، الّذي يُعدّ واحدًا من أهمّ الفلاسفة الأنثروبولوجيّين، من خلال طرحه لنظريّة “تقليص اللّاهوت لصالح الأنثروبولوجيا” – وهي تتطابق مع مفهوم “الأنسنة” – يقول في كتابه “جوهر المسيحيّة”: “في الصّلاة، يُخاطب الإنسان الإله بلفظ العاطفة الحميمة ـ أنت؛ هكذا يُعلن بوضوح أنّ الإله هو أناه الأُخرى Alter Ego؛ إنّه يعرف الله، بوصفه الكينونة الأقرب إليه، أفكاره الأكثر سرّيّة، رغباته الأعمق […]، كيف كان بإمكانه أن يُطبّق هذا على كينونة ما لم تمتلك أذنًا لشكواه؟ وهكذا فما هي الصّلاة غير رغبة القلب المُعبّر عنها بثقة من تحقّقها. ماذا يُمكن أن تكون الكينونة الّتي تُحقّق هذه الرّغبات غير عاطفة الإنسان، النّفس البشريّة، الّتي تُصغي بالسّمع لذاتها تُصادق على ذاتها، تُؤكد ذاتها دونما تردّد؟”
وفي الأدب عمومًا، وفي عالم الرّسوم المُتحرّكة خصوصًا، مئاتُ من الأمثلة على عمليّة “الأنسنة”. فيُعدّ مثلًا، كتاب “كليلة ودمنة” خير مثال على تلك العمليّة الذّهنيّة، إنّه كتاب يحتوي على مجموعة من القصص الأخلاقيّة، وُضِعت على ألسنة الحيوانات والطّيور من مثل الأسد والّذي يرمز إلى الملك، والثّور والّذي يرمز إلى خادمه. والكتاب يضمّ العديد من النّصائح الّتي تُؤدّي إلى تحسين الأخلاق، بالإضافة إلى الطّرق الصّحيحة لتحقيق الإصلاح الاجتماعيّ وحسن الإدارة واتّخاذ التّدابير القضائيّة والسّياسيّة المُناسبة… وما إلى هنالك من أُمور تدخل في صلب حياة البشر.
الأنسنة.. ذكاءٌ أم جنونٌ؟
يقول “نيكولاس إيبلي”، أستاذ العلوم السّلوكيّة في جامعة “شيكاغو”: “من النّاحية التّاريخيّة، نظر المُجتمع إلى موضوع “الأنسنة” باعتباره علامة تدلّ على قلّة النّضوج أو الغباء، ولكنّه في الواقع، نزعة طبيعيّة تجعل البشر أذكياء بشكل فريد على هذا الكوكب، إذ إنّه لا توجد كائنات أخرى على هذه الأرض لديها هذه النّزعة”.
فعلى سبيل المثال، غالبًا ما نُطلق اسمًا على السّيّارات والأدوات والثّياب من بين الأشياء غير الحيّة، لأنّها امتداد لرغباتنا ولهُويّاتنا الخاصّة. ولكن هذه العمليّة تتخطّى التّسمية، فكثيرًا ما نسمع الاقتصاديّين يقولون: إنّ الأسهم العالمية “غاضبة” أو إنّ الأسواق العالميّة “قد تتعافى قريبًا”. وفي يوم باردٍ تتحوّل سيّارتنا إلى “رجل مُسنّ” عندما لا يعمل محرّك السيّارة، بالشّكل الّذي اعتدنا عليه. هذه النّزعة إذًا، هي مُجرّد نتيجة لعقل الإنسان الذي يميل إلى إدراك كلّ شيء على أنّه يتمتّع بذكاء بشريّ.
تقول أستاذة الألسنيّة التّطبيقيّة، في جامعة “ماكري”: “إنّنا نرى سفنًا تحمل أسماء بشريّة لأنّ تسمية السّفينة من قبل صانعها أو من يقودها يدلّ على علاقة تربط بين الاثنين. إنّ البحّار يُريد أن يُصدّق أنّ وجوده في هذه السّفينة بالذّات هو ضمان للحفاظ على سلامته، على الرّغم من أنّ ذلك الأمر غير مضمون على الإطلاق.”
ويبدو أنّ إطلاق بعض الأسماء على ظواهر الطّبيعة، له انعكاسات إيجابيّة، فوفقًا للمُنظّمة العالميّة للأرصاد الجوّيّة “تسميةُ الأعاصير والعواصف بأسماء القدّيسين، أو بأسماء فتيات وبأسماء الشّخصيّات السّياسيّة غير المُحبّبة – تُبسّط وتُسهّل التّواصل الفعّال بين عامّة الشّعب لتعزيز التّأهب العامّ، والتّبادل الفعّال للمعلومات لتجنّب خطر هذه الظّواهر.”
ومن جهة أخرى، عندما يقوم الأطفال بتسمية ألعابهم والتّحدّث مع الأشياء غير الحيّة، فنحن كبالغين، نفرح كثيرًا إذ نلحظ توجّههم إلى بناء علاقات تُؤدّي إلى اكتشاف هُويّاتهم. ولكنّ العكس هو الصّحيح بالنسبة إلى البالغين؛ تميل القواعد الاجتماعيّة إلى اعتبار “أنسنة” الأجسام غير البشريّة، نزعة يجب أن نقاومها، فهي تختصّ بعمليّة البلوغ، فأولئك الّذين لا يزالون يتحدّثون إلى ألعابهم أو إلى شخصيّات خياليّة يعتبرون غير ناضجين – إن لم يكونوا مجانين! .
وفي حياتنا اليوميّة، تُطرح “الأنسنة” في النّقاشات حول مسألة الإجهاض أو الرّفق بالحيوان، إذ يتساءل الإنسان: “هل للجنين مشاعر؟” أو “هل تشعر الحيوانات بالعذاب إذا ما وُضِعت في أقفاص؟”. يُسمّي إيبيلي الكينونات الّتي تُثير مشاعرنا وتجعلنا نطرح هذه التّساؤلات “بالعقول الرّماديّة”، ويقصد بها كلّ كينونة حيّة تُشبه الإنسان بطريقة أو بأخرى.
وتتجلّى هذه الظّاهرة في سلوكنا الرّوتينيّ مع حيواناتنا الأليفة، فكثيرًا ما يستخدم النّاس المفاهيم البشريّة عند وصف الحيوانات الأليفة. على الرّغم من أنّه من الواضح أنّ للحيوانات بعض العواطف، إلّا أنّها قد لا تكون مشاعر إنسانيّة بالضّبط. فأنْ تُلبس كلبك كنزةً صوفيّةً، أو أنْ تنسب له المشاعر البشريّة قد يصل أحيانًا إلى حدّ المُبالغة، ولكنّ الأبحاث تُظهر أنّ درجة “أنسنة” الإنسان للأشياء والحيوانات لها نتائج وانعكاسات مُهمّة على حياته؛ فالولد الّذي يهتمّ بقطّته، ويميل إلى التّعامل معها على أساس أنّها تمتلك مشاعر بشريّة، يشعر أنّه ناضج ويتمتّع بالمسؤولية تجاه الحيوانات. وتاليًا يُؤدّي سلوكه إلى الحفاظ على البيئة بشكل أفضل. إلّا أنّه من المُزعج للغاية، بالنّسبة إلى هؤلاء الأطفال الصّغار، رؤية قطّتهم المحبوبة تأكل طائرًا أو تصطاد حيوانًا آخر.
إنّ خطر “أنسنة” الحيوانات الأليفة، هو تجاهلنا لصفاتها الغريزيّة من خلال الاعتقاد “بإنسانيّتها”. بشكل عام، إنّ الأنسنة هي سبيل لتوضيح المفاهيم، أو لتسهيل إدراكنا للأشياء التي تبدو غريبة وهي سلوك طبيعيّ تُثيره رؤيتنا لأشياء غير بشريّة تُشبه الوجوه البشريّة، وهي في أغلب الأحيان، حيلة بشريّة نستخدمها لتفسير الأمور الّتي تبدو لا معقولة أو لا منطقيّة. ومع ذلك، فإنّ مُشاهدة العالم من منظور “الأنسنة” كليًّا، قد تجعل الإنسان يظنّ أنّ كلّ الأشياء تدور حوله وأنّه له الحقّ باستباحة كلّ شيء، وهذا السّلوك الّذي يرتكز على “الأنا البشريّة”، قد يُؤدّي إلى تدمير العالم.
يرى علماء النّفس السّلوكيّ، أنّ نزعة “الأنسنة”، في حال استمرارها بشكل مُفرط، فهي دليل على ضعف إدراك الإنسان لذاته. وقد تكون إحدى أعراض التّماهي الإسقاطيّ بسبب التّعلّق المرضيّ بشيء ما أو بحيوان أو بمكان، حتّى إذا ضاع هذا الشّيء أو مات الحيوان أو انتقل الإنسان من هذا المكان الحميم إلى مكان آخر، انعكس ذلك سلبًا على حياته الاجتماعيّة ما قد يدفعه إلى الانعزال أو التوحّد أو الجنون وصولًا إلى الانتحار في الحالات المُتطوّرة من التّعلّق المرضيّ.
خلاصة القول…
إنّ التّفكير في كيان غير إنسانيّ بطرق إنسانيّة أو “الأنسنة”، تجعل الإنسان أكثر وعيًا بوجوده وأكثر فهمًا لتصرّفاته ومشاعره وتاليًا أكثر تمسّكًا بالنّظم الأخلاقيّة… إنّ هذه العمليّة الذّهنيّة، لم تعد أسيرة العقل البشريّ؛ فمع تطوّر التّقنيّات أصبح للإنسان القدرة على اختراع آلات تتمتّع بذكاء اصطناعيّ يُشبه ذكاء البشر كالرّوبوتات مثلًا، بهدف توفير مزيد من الرّاحة. ولكن حيال هذا التطوّر، بدأت تلوح في الأفق البعيد بعض المخاوف، هي مخاوف من سيطرة هذه الرّوبوتات على عالم البشر واتّخاذ أماكنهم فيما يتعلّق بالأعمال، الأمر الّذي سيُؤدّي إلى مزيد من البطالة على أقلّ تقدير، أو إلى خوف من أنْ تُمارس هذه الآلات على الإنسان “نقيض الأنسنة” أي مفهوم “التّجريد من الإنسانيّة” الّذي ينتهي “بفناء البشر” على النّحو الّذي شاهدناه في فيلم الخيال العلميّ “I, Robot” للمخرج الأستراليّ “أليكس بروياس”.
المراجع - Oxford English Dictionary, 1st ed. "anthropomorphism, n." Oxford University Press (Oxford), 1885. - لودفيغ فويرباخ، جوهر المسيحيّة، بيروت: دار الرافدين، ط1، 2017، ص 200. - Is That Car Smiling at Me? Schema Congruity as a Basis for Evaluating Anthropomorphized Products - Epley, Nicholas, Alfred A Knopf, New York, (2014), “Mindwise: Why We Misunderstand What Others Think, Believe, Feel, and Want”, 101-108.