محمد الماغوط يبوح بأسراره لصحفي مصري

نحن في حضرة أحد كبار المبدعين في العالم العربي “محمد أحمد عيسى الماغوط” الذي ولد في “سلمية” عام 1934. شاعر وأديب سوري احترف الأدب السياسي الساخر وألف العديد من المسرحيات الناقدة التي لعبت دورًا كبيرًا في تطوير المسرح السياسي في الوطن العربي، وكما كتب المسلسل التلفزيوني والفيلم السينمائي كتب أيضًا الرواية والشعر وامتاز في القصيدة النثرية التي يعتبر واحدًا من روادها.
رحل محمد الماغوط في عام 2006 عن عمر يناهز 72 عامًا بعد صراع امتد لأكثر من عشر سنوات مع الأمراض، وكم كان محزنًا هذا الرحيل ليس فقط لأنه قامة كبيرة بل ما يحزنني أكثر أنه رحل قبل أن يشاهد الثورات العربية. كنت أتمنى أن يرى حلمه الذي فقد الأمل فيه يتحقق لكنها مشيئة الله.

بالتأكيد لم يستقبلني محمد الماغوط  في بيته ولم نجلس سويًا في مكتبه ولم يكن للتسجيل دورًا في هذا الحوار لأنه حوار افتراضي، لكنني استقبلته وجلست معه وشاركته في همومه اليومية من خلال مقالاته وشاهدت مسرحياته واستمعت إلى قصائده في محاولة مني لاكتشاف هذا الرجل من جديد لأننا لم نعرفه بحق – ولا أستثني نفسي حتى بعد هذا الحوار- كآخرين لم تكن معاناتهم مع الحظ مختلفة عن معاناتهم مع الحياة في الوطن العربي.

أقدم لكم محمد الماغوط كما رأيته الماغوط، المتمرد، الأصدق، “شاعر النثريين ونثري الشعراء”، كان ساخرًا من طراز رفيع، اقترب من المواطن العربي كما لم يقترب أحد لأنه كان يملك مأساةً نشترك فيها جميعًا وتعبر الشاعرة الراحلة سنية صالح (زوجة الماغوط) عن هذه المأساة في مقدمتها لأعماله الكاملة فتقول:

“مأساة محمد الماغوط أنه ولد في غرفة مسدلة الستائر اسمها الشرق الأوسط”.

فإلى كل قارئ في الوطن العربي أحب محمد الماغوط أو لم يحبه اتفق معه أو اختلف يتشوق إصداراته أو يعرض عنها إلى من يحبون الأدب الساخر أو يعيشون المأساة بجدية ووقار أقدم لكم هذا الحوار:

س: أنت واحد من الذين أسسوا لقصيدة النثر. فلماذا ألقيت حجرًا في مستنقع اللغة الراكد؟

إعلان

–  لقد مللت الالتزام بآداب المائدة وآداب الجلوس وآداب المحادثة وقواعد المرور وقواعد اللغة.
كم أتمنى نصب الفاعل ورفع المفعول وتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وتعريف النكرة وإنكار المعرفة. لقد مللت الصواب واشتقت للخطأ.

س: ولكن قد يبدو للقارئ هنا أنك لا ترى مشكلةً ما فيما أصاب اللغة العربية من تخريب وما يتعرض له صرفها ونحوها من عبث واستهتار. فهل هذا صحيح؟

– مع احترامنا لكل حرف في لغتنا، ومع تقديرنا لجميع ظروف الزمان والمكان في كل جملة ومرحلة في الوطن العربي لابد أن نسأل:

ما الفائدة من الاسم إذا كان صحيحًا والوطن نفسه معتلًا؟
أو إذا كانت هذه الجملة أو تلك مبنية على الضم أو الفتح، والمستوطنات الإسرائيلية مبنية أمام أعيننا على جثث التلاميذ والمدرسين الفلسطينيين.
ماذا يفعل حرف الجر المسكين أمام حاملة طائرات مثلًا؟
أو الفتحة والضمة أمام مدفع مرتد يتسع لمجمع لغوي؟

وما دام الحوار الوحيد المسموح به في معظم أرجاء الوطن العربي هو حوار العين والمخرز فلن ترتفع إلا الأسعار. ولن تنصب إلا المشانق، ولن تضم إلا الأراضي المحتلة. ولن تجر إلا الشعوب. فقبل احترام اللغة يجب احترام الإنسان الذي ينطق بها.
ثم، لِمَ وجدت اللغة أصلًا في تاريخ أي أمة؟ أليس من أجل الحوار والتفاهم بين أفرادها وجماعاتها؟ فأين مثل هذا الحوار الآن فيما بيننا؟

س: إذًا حينما غاب الحوار غادر الصواب لغتنا، لكن السؤال: هل غاب الحوار نهائيًا وغادر الوطن العربي؟

– لم تعد هناك حاجة لأن تسأل عن أي شيء، أو تجيب على أي شيء. فالأسعار، مثلًا في السينما، مكتوبة في كل بطاقة، وفي المستشفى، فوق كل سرير. وفي المطعم، في كل فاتورة، وكل ما حول المواطن العربي أصبح سعره واضحًا ومعروفًا ومكتوبًا على جميع جوانبه، من الألبسة والأحذية والفاكهة والخضروات والبيوت والبارات والمزارع والعقارات إلى الرياضيين والمطربين والكتاب والصحفيين. ولم يبقَ إلا أن يكتب على الشعوب سعرها ومنشأها ومدى صلاحيتها للاستعمال.
والأهم من كل هذا وذاك: هل هناك حوار بين السلطة والشعب في أي زمان ومكان في هذا الشرق؟

س: هناك من يكتب ليخاطب جيل معين أو سن معين وهناك من يكتب ليخاطب عقل معين أملًا في تغييره، وهناك أيضًا من يكتب ليحقق مجدًا شخصيًا. لمن يكتب محمد الماغوط ؟

– أكتب للآخرين، للأنقياء أكثر من المطر قبل أن يلامس الأرصفة. لمن لا يعرفون إذا كانت ” اللوموند” تصدر في باريس أو في أبو ظبي.
للذين يولودون ويموتون من دون أن يغادر أحدهم قريته، أو يتخلى عن أصدقائه، أو يغير نوع تبغه، أو يبدل طريقة استلقائه على عشب البيادر أو بلاط السجون.

للعامل الذي ينهي فطوره على ظهر دراجته. والخادمة الغبية التي تغطي وسادتها بدموعها كلما أسرت أميرة في مسلسل إذاعي ولا تهنأ بنوم حتى يفرج عنها في الحلقة المقبلة لتعود إلى قصرها ووصيفاتها وهي إلى سطلها وممسحتها. أكتب للفلاح الذي يتبارك بالمطر وينتشي بالبرق ويطرب للرعد.
ولا شيء يضيء وجهه في ظلمات الشيخوخة سوى عقب لفافته.

للذين يموتون ويولدون وهم يقتعدون أرصفة قصر العدل وردهات الدوائر العقارية والكراجات العمومية من دون أن يقابلوا أحدًا غير ظلالهم على الأرصفة.
أكتب للمطر، للحب، للحرية، للربيع، للخريف.
أكتب لأعيش.

س: لقد تساءلت في أحد مقالاتك وقلت: “ماذا فعل المواطن العربي لحكامه خلال الثلاثين سنة حتى يعامل هذه المعاملة؟ فهل بإمكان المتسائل أن يعطينا جزءًا من الإجابة؟

– أعطاهم أولاده للحروب. وعجائزه للدعاء. ونساءه للزغاريد. وكساءه لليافطات. ولقمته للمآدب والمؤتمرات. وشرفاته وموطىء قدميه للمهرجانات والخطابات. وطلب منهم نوعًا واحدًا من الحرية، وهو النوع المتعارف عليه في أبسط الدول المتحضرة. فأعطوه عشرين نوعًا من الحرية لا يوجد لها مثيل لا في الدول المتحضرة ولا في الدول المتوحشة.
وطلب منهم نوعًا واحدًا من الاشتراكية، وهو النوع المعمول به في معظم الدول الاشتراكية. فأعطوه خمسين نوعًا من الاشتراكية إلا النوع المعمول به في الدول الاشتراكية.

أعطاهم سبع دول عام 1949 لتوحيدها. فأعطوه بعد ثلاثين سنة 22 دولةً لا يستطيع 22 بسمارك أن يوحد أنظمة السير فيها.
ومنذ ثلاثين سنة أيضًا أعطاهم قضيةً ظريفةً خفيفةً كالفلة، تتمنى معظم الدول والشعوب في ذلك الحين أن يكون عندها قضية مثلها. وهي قضية فلسطين. فأعطوه بالإضافة إليها:

قضية لومومبا، وقضية المالكي، وقضية فرج الله الحلو، وقضية الشوّاف، وقضية البرازاني، وقضية بن بركة، وقضية بن بللا، وقضية بن عاشور، وقضية عبد الحكيم عامر، وقضية برلنتي عبد الحميد، وقضية علي صبري، وقضية خزنة عبد الناصر، وقضية موسى الصدر، وقضية جنبلاط، وقضية سعد حداد، وقضية أحمد الخطيب، وقضية الخميني، وأخيرًا قضية السادات.

فماذا يتحمل هذا الإنسان ليتحمّل؟
بمعنى أن ينام المواطن العربي على هم قديم. هذا لا يجوز. وأمر لا ترضاه لا أنظمة الحكم العربية، ولا دول عدم الانحياز، ولا منظمة الوحدة الآسيوية الإفريقية، ولا منظمة الصحة العالمية.
المفروض كل يوم جديد، هم جديد. وأن يعود المواطن إلى بيته في المساء وهو لا يحمل لعائلته وأطفاله أكلةً جديدة أو ثيابًا جديدة، بل قضية جديدة.

س: ما وجه الشبه بين ساعة المستقبل والمواطن العربي؟

– تقول إعلانات الدعاية أن ساعة أوريس التي تتحمل الصدمات هي ساعة المستقبل. قسمًا بالله ألف ساعة أوريس لا تتحمل في ثلاث سنوات الصدمات التي يتحمّلها المواطن العربي في ثلاث دقائق – ولذلك كل ما يلزمه هو قشاط جلد من عند الرأس والقدمين ليلفّه الطيارون ورجال الأعمال حول معاصمهم، باعتباره هو لا أحد سواه ساعة المستقبل.

س: محمد الماغوط الذي كان أبوه فلاحًا بسيطًا عمل أجيرًا في أراضي الآخرين والذي انتسب إلى المدرسة الزراعية في “سلمية” حيث أتم فيها دراسته الإعدادية. لماذا ترك الزراعة واتجه إلى الشعر؟

– أحسست أنه ليس اختصاصي الحشرات الزراعية، بل الحشرات البشرية.

س: تكتب قاسيًا كمطرقة تهبط على مسمار. فلماذا تكتب بغزارة والمسمار ليس صلبًا؟

– حتي أنا يُدهشني ذلك، لا يوجد يوم إلا وأكتب فيه جديداً، أنا أمتلك خيالًا أسطوريًا، ومُتمكن من اللغة ومن السخرية، وعندي موروث من الهزائم يلف الكرة الأرضية بكاملها، ولولا الشعر لفقدنا القدرة على الحياة.

تتنافس الدول والحكومات والشركات بامتلاك مخازن احتياطية من النفط، وأنا امتلك احتياطيًا من الرعب يكفي لممارسة حق الكتابة.

س: ماذا تفعل في هذا الوطن بعد أن ابيضّ شعرك تحت سمائه وانحنى ظهرك فوق أرصفته، ماذا تنتظر منه بعد أن تحدد فيه مستقبلك ومستقبل غيرك في السياسة؟

– أحزم حقائبي وأسافر، في الذهاب أتمنى أن يكون مقعدي في غرفة القيادة على ركبة الطيار أوالمضيفة لتبتعد بأقصى سرعة عن هذا الوطن. وفي الإياب أتمنى أن يكون مقعدي في مقدمة الطائرة على غطاء المحرك لأعود بأقصى سرعة إلى هذا الوطن.

آخر مرة كانت إلى تونس. أربعة آلاف كيلومتر فوق البحار والقارات وأنا احدق من نافذة الطائرة كما يحدق اليتيم في واجهات الحوانيت في الأعياد، كانت الغيوم هاربةً من العرب، الأمواج هاربة من العرب، الأسماك هاربة من العرب، التلوث هارب من العرب، العروبة هاربة من العرب. وبعد أسبوع كنت أهرول عائدًا إليهم وحزام الأمان ما زال حول خصري.

ثم إنني أحب هذا الوطن من محيطه إلى خليجه.  فأينما كنت، ما إن أقرأ اسمه في جريدة، أو أسمعه في إذاعة حتى أتجمد كنهر سيبيري، كعريف في حضرة جنرال، إنني أحبه، قدروا ظروفي وعواطفي.

فيه قرأت أول قصة لياسين رفاعية، وسمعت أول أغنية لفهد بلن، وقرأت أول افتتاحية ترد على كل المخططات الأجنبية في المنطقة، تبدأ ببيت للفرزدق وتنتهي ببيتين للأصمعي. فيه سمعت لأول مرة اسم: قضية فلسطين، عائدون، حرب التحرير الشعبية، حرف الاستنزاف، الكيلومتر 101، مرسيدس 220 امبريالية، استعمار انسبستر، ديبون، فيزون، بيار كاردان، جنرال الكتريك، جنرال سيلسفيو.

س: ما الشيء الذي يملكه العرب وتخاف منه إسرائيل ؟

– إسرائيل لا تخاف ضحكاتنا بل دموعنا، ولا بناءً من عشرة طوابق بل شاعرًا يكتب في قبو، ولا تخشى وحدة بين مصرفين بل بين جائعين، ولا اتحادًا بين نظامين بل بين شعبين، ولا القمم العالية بل ما يتجمع حولها في الوديان.

س: في أي زمان عاش محمد الماغوط الأحلام أم الأوهام؟

– قد يكون هذا الزمان هو زمان التشييع والتطبيع والتركيع، زمن الأرقام لا الأوهام والأحلام. ولكنه ليس زماني. سأمحو ركبتيّ بالممحاة، سآكلهما حتى لا أجثو لعصر أو لتيار أو مرحلة. ثم أنا الذي لم أركع وأنا في الابتدائية أمام جدار من أجل جدول الضرب وأنا على خطأ. فهل أركع لبيغن أو لسواه أمام العالم أجمع بعد هذه السنين، وأنا على حق؟

إنني لست مخلصًا لوطني وعروبتي وأناشيدي المدرسية وحسب بل إنني مخلصٌ حتى لسعالي.

ولن أيأس، ولن أستسلم ما دام هناك عربي واحد يقول: “لا” في هذه المرحلة ولو لزوجته.

س: ما هي مأساة الكاتب العربي؟

– أنه يقضي زهرة شبابه وكهولته، وشيخوخته، وهو يقفز لهثًا مذعورًا من الصحافة، إلى المسرح، إلى الشعر، إلى القصة، إلى الصفحة الأولى، إلى الصفحة الأخيرة. وفي نهاية العمر، لا يجد ما يتبلغ به سوى دمه، وحطام أظافره.

س: لقد طلبت من القارئ العربي التخلي عن شعر المناهج المدرسية وعن الشعر القديم. والسؤال: لماذا تقف في وجه المتنبي وعنترة وقيس وأبو نواس وتطلب من القارئ التخلي عن ماضيه؟

– نعم لا تأخذوا فقط بشعر المناهج المدرسية، ولا تصدقوا ما يقوله حملة جوائزه التقديرية والتموينية. لأن الشعر القديم الذي تدرسون أصوله وتستشهدون بنماذجه هو فقط الذي حظي بموافقة الحاكم في ذلك الزمان، والذي أمر الحضور بطرف سيفه بتداوله وتناقله من لسان إلى لسان حتى وصل الى زماننا، لأن كل خليفة أو أمير أو رئيس عشيرة في ماضينا التليد كان له أيضًا وزير إعلامه ورقابته الخاصة ومخابراته العامة والظروف الحاسمة التي تمر بها قبيلته أو عشيرته، ولو من أجل بعير ضائع أو محظية متمنعة.

فالشعر ليس نظاماً بل فوضى. وليس وليد هذا الزمان أو ذلك، بل لقيط العصور كلها. إنه عزلة المتنبي لا فخره. حزن أبي نواس لا طرائفه. جنون قيس لا حبه. غربة عنترة لا شجاعته. خريف فولين لا ربيع البحتري. موت رامبو وجبران ونجيب سرور وكمال ناصر وكمال خير بك وأمل دنقل، وانتحار لوتريامون وخليل حاوي وتيسير سبول وعبد الباسط الصوفي في ميعة الصبا، لا شيخوخة صالح جودت وأحمد رامي وميخائيل نعيمة.

الشعر هو الذي لا يقودك إلى الثابت والمكان المعهود والمسلسل المشوِّق بين أفراد عائلتك، بل إلى المعتقلات النائية والمناقشات البائسة والصيدليات المناوبة ومستشفى المجانين  الى مخاطبة الأحذية في مكاتب الاستخدام. والنعاس القاتل في مراكز الحدود. إلى الصحافة اليومية.

إلى الصحراء بعيدًا عن أهلك ووطنك والزغب الناعم على خدود أطفالك، هناك حيث لا تستطيع أن تسعد أحدًا أو تبعد الأذى عن أحد.

ولكي تكون شاعرًا عظيمًا، يجب أن تكون صادقًا. وكي تكون صادقًا يجب أن تكون حرًا. ولكي تكون حرًا يجب أن تعيش. ولكي تعيش يجب أن تخرس.

س: هل قرأت “خريف الغضب” للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل؟

محمد الماغوط – لا . لم أقرأه، ولن أقرأه، ولن ألمسه لأن الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل تحول، والحمد لله، إلى تاجر جثث لا أكثر ولا أقل.
فمنذ عشر سنوات ونصف وضع قبر صديقه الروحي عبد الناصر في كيس، وحمله على كتفه، وراح يدور به من مكان إلى مكان يبيعه يوميًا للصحف الأسبوعية، وبالجملة لدور النشر. وعلى ماذا؟ وكل ما فيه:
قال لي عبد الناصر على الغداء، وهمس لي على العشاء، واستدعاني إلى استراحته، ولاحقني إلى البيت بتلفوناته، بحيث يختلط الأمر على القارئ ويظن أن هيكل كان رئيسًا للجمهورية العربية المتحدة، وعبد الناصر رئيسًا لتحرير جريدة “الأهرام”.

وها هو الآن يضع قبر السادات في الكيس نفسه، ويحمله على الكتف نفسها، ويبيعه بالطريقة نفسها بانتظار الجثة الثالثة، بحجة أنه يزيح الستار عن أسرار كثيرة تتعلق باتفاقية كامب دايفيد ، وما جرته على المنطقة من مصائب وويلات.
والحقيقة أنه لا يزيح شيئًا من كل هذا، وكل دموعه المدرارة على الثورة المصرية وغضبته على أمريكا وتحذيراته من حرب عالمية ثالثة لأن السادات أزاحه من منصبه في جريدة “الأهرام”.
ولا يستغربنَّ أحدٌ أنّ كاتًبا كبيرًا مثل محمد حسنين هيكل قد يفكر على هذا النحو، إذ ليس كالعربي من يحول القضايا الشخصية إلى قضايا عامة، والقضايا العامة إلى قضايا شخصية.

والدليل على مصداقية دموعه على الثورة المصرية وغضبته العارمة من المؤامرات الأمريكية عليها أنه لا يقبض ثمن أي كلمة يكتبها عنها أو عن رجالاتها إلا بالدولار.

لا، لم أقرأ “خريف الغضب” ولن أقرأه ولن ألمسه. ففي ظروف الطغيان ليست البطولة أن تجلس على ظهور الدبابات بل أن تقف أمامها.

س: محمد الماغوط الهائم في البحار العربية كبقعة الزيت العائمة، كل الشواطئ ترفضها ومعظم الدول تطاردها وتتعقب آثارها. كيف يتحدث إلى فلسطين؟

– فلسطين، ليس لي أطفال، أنت طفلتي. ليس لي أصدقاء، أنت صديقتي وليس لي تاريخ، أنت تاريخي.  ليس لي مستقبل، أنت مستقبلي. أنت المشيمة التي تربطني بما تبقى من سحر الوطن والعروبة، ومن متعة النوم والاستيقاظ، والتدخين والمناقشة. ولكن، كيف أراكِ وقد سملوا عينيّ؟ كيف أصل إليك وقد بتروا قدميّ، كيف أشم رائحتك وقد جدعوا أنفي؟ وكيف أعانقك وقد أوثقوا يديَّ؟ كيف أنطق باسمك وأكياس الرمل حول فمي؟ يا إلهي! امنحني قوة الفولاذ ورقة الفراشة. جمود الحجر ومرونة الراقصة لأعبر يومي بسلام. امنحني عقل آينشتاين لأستوعب ما يجري على الساحة العربية. وجسد سميرة توفيق لأتحمل ما يجري. امنحني غباء الإوزة لأصدق ما أرى. وبراءة جان دارك لأؤمن بما أسمع وأرى. امنحني أرجل العنكبوت لأتعلق أنا وكل أطفال الشرق بسقف الوطن لتمر هذه المرحلة.

س: وكيف تتحدث إلى “سلمية” القرية الفقيرة الصغيرة التي إحتضنتك في الصغر؟

– أيتها القرية البعيدة المجنونة العاقة. ألم تشتاقي لابنك الضال العجوز؟ أنا لم أعد أحتمل. منذ سنين وسنين وأنا أحلم بأن أغمض عينًا وأفتح أخرى لأجد نفسي محدودبًا أمام ذلك الباب الخشبي العتيق، أو حتى في قن الدجاج القديم نفسه. ولكن ما أخشاه أن تفاجأ بي أمي في الصباح، وألا تتعرف على ملامحي وبحة صوتي بعد هذا الغياب الطويل، وتسحبني من فتحة القن وأنا أرفرف بقصائدي وأوراقي وتعدني للغداء أو للعشاء. ثم:

في القرية يقولون لي مكانك ليس هنا. وبالمدينة يقولون لي مكانك ليس هنا. في الوطن يقولون لي مكانك ليس هنا. وفي المنفى يقولون لي مكانك ليس هنا. أين مكاني إذًا؟ في الفضاء!

في مرحلة الفطام، وأنا أحبو باكيًا، وراء أمي المنصرفة عني، وراء الكنس والمسح ونفض الغبار، كنت آكل كل ما تطوله أظافري الغضة من تراب العتبة والشارع وفسحة الدار. ويبدو أنني أكلت حصتي من الوطن منذ ذلك الحين.

س: كثيرًا ما كنت مثيرًا للجدل. لكن أليس غريبًا اعترافك بأن معظم مواقفك كرتونية؟ 

– هل الإنسان المثالي هو الذي يخفي عيوبه الفكرية والجسدية تحت الأحزمة والمشدات، مثل الارتيست قبل النزول إلى الشوارع؟
وهل إذا رسمت دولة ما حمامةً مرفرفةً على أبواب سجونها، أقنعت نفسها ومواطنيها بوجود الحرية في أراضيها؟

س: رغم أنه ليس من واجبي الجلوس فى وضع المجيب أو المستضاف لكنه من واجبي وضع علامات الاستفهام في وجهه ولما لا علامات من التعجب ولكن لا ضرر حينما نتبادل المواقع قليلًا لأجيب سؤالك الهارب وتلك إجابتي: وهل الإنسان المثالي هو الذي يبرر عيوبه الفكرية والجسدية باعتراف كهذا؟

– أولًا: أنا لست فخورًا بذلك.
ثانيًا: منذ أن أكلت أول (بوكس تقدمي) في حياتي قبل سبع وعشرين سنة لم أعد أطمئن إلى أحد، بل منذ ذلك الحين أصبح مستقبلي في ملعقتي.

ثالثًا: أستطيع أن أقول إن ذلك هو ضريبة التضحية والنضال في سبيل الشعب، وأستطيع أن أخترع لك تاريخًا نضاليًا لا غبار عليه. في سنة كذا جرحت، وفي المظاهرة الفلانية خرمشت ولكن الحقيقة غير ذلك بتاتًا.
والقصة وما فيها، هي أنني في الثالثة عشرة من عمري كنت وحيدًا فقيرًا في قرية أكثر وحدةً وفقرًا من مواطنيها. وكانت الريح تعصف والمطر ينهمر وأنا أتسكع في زواريبها المظلمة المقفرة لا أعرف كيف أصرف وحدتي وضجري. حاولت تلك الليلة الدخول إلى البيت فكان مغلقًا، حاولت الدخول إلى السينما، فلم أجد نقودًا، فقررت الدخول في أحد الأحزاب. كنت كملايين الفلاحين الفقراء في تلك الحقبة أكثر وحدةً وجفافًا من الوتد، وعليه أن يدق في أرض ما ويُشدّ إليه خيمة ما.

س: لكن لماذا هذا الحزب تحديدًا؟

– كان هناك حزبان جديدان يتنافسان في القرية، وفي طريقي للانتساب إلى أحدهما اتضح لي أن أحدهما بعيد عن الحارة ولا يوجد في مقرّه مدفأة. ولأنني كنت متجمد الأطراف من البرد؛ اخترت الثاني دون تردد لأنه قريب من حارتنا وفي مقرّه مدفأة. وللآن لم أقرأ مبدأ من مبادئه، ومنذ أن انتهت موجة البرد بعد أيام لم أحضر له اجتماعًا، ولم أقم بأي نشاط لصالحه على الإطلاق، باستثناء مرة واحدة كلّفوني بها بجمع تبرعات من إحدى القرى التي كنت أعمل في بساتينها فجمعت التبرعات والاشتراكات، واشتريت “بنطلون” وذاك وجه الضيف.
ومنذ ذلك الحين قال الكريم خذ. ونظراً ليفاعتي أولتني السلطات اهتماماً بالغاً وقرّبتني بسرعة من سن الرجولة والإيمان بالوطن والحرية وصار لي فوراً لحية وشوارب وعمامة من الضمادات.

ومنذ ذلك الحين وأنا أتحاشى أي لابس قبعة حتى لو كان جابي باص أو بائع بوظة.
فماذا تنتظر من مواطن مرّت عليه ولمدة سنوات وسنوات شاحنة محملة بالقيم والشعارات والخطابات، وكل سائق له مزاجه الخاص واتجاهه الخاص؟ وماذا تتوقع أن يخرج من تحتها بعد ذلك؟ ملكًا للكمال الجسماني؟
يا رجل، لو أنني استعملت “عكازًا” لكل عضو محطم في أعماقي لاحتجت إلى “منجرة” قرب بيتي.

س: قلت “لو كنت أعرف كل هذا، ما كان لكل قوات الطوارئ الدولية أن تفكّ الاشتباك بيني وبين “الداية” التي ولدتني.” ما الشيء الذي عرفته وأدى بك إلى هذا القول؟

– عرفت أن التفاهة ستتفوق على النبوغ.
والكراسي المتحركة على أجنحة النسور.
والقردة… على الغزلان.
ونخالة القمح… على لينين.
وجوارب النايلون… على ماوتسي تونغ.
وضجة البورصة على أصابع شوبان.
وأحمد عدوية… على أحمد عرابي.
وبصمة الأمي… على المعلقات السبع.
وأن زكريا تامر سيدور العالم متلمسًا نظارته بيد والجدران بيد… بحثًا عن لقمته ولقمة أطفاله.
وأن ابن الشهيد كمال خير بك سيعرج باكيًا بين جمال الشارقة.
وأن أنسي الحاج سيقضي نصف يومه في تناول المهدئات لينام، ونصفه الآخر في تناول المنبهات ليستيقظ.
وأن عصام محفوظ يهذي في شوارع باريس الخلفية عن ماركس، والمخابرات المركزية، وفتة المقادم.
وأن عبدالوهاب البياتي الذي بنى كل أمجاده الأدبية والسياسية على أساس أن جميع أجهزة الأمن العربية والغربية والشرقية… تطارده، لم يدخل مخفرًا في حياته ولم يعترض طريقه ولو شرطي مرور.
وأن أمة الجاحظ، وابن سينا، وابن رشد، وابن خلدون، وابن المقفع، وأبي العلاء المعري، وأبي الأسود الدؤلي، وأبي العتاهية…
سترتعد فرائصها من المحيط إلى الخليج من قارئ جريدة بالمقلوب عند منعطف أو زاوية مقهى.
وأن العربي في نهاية المطاف، لن يستطيع أن يجابه أي شيء أو يهرب من أي شيء.
وأن انفجار الأدمغة بين صفوف هذا الجيل سيصبح من الحوادث اليومية كانفجار دواليب السيارات.

س: والآن بعد أن عرفت كل شيء، ماذا تفعل ؟

–  إذا كتبت أموت من الخوف. وإذا لم أكتب أموت من الجوع.
يقال أن الصعود إلى قمة الجبل يتطلب بعض الانحناء.
وها أنا أنحني، ولكن لا انحناءة ذل، بل انحناءة تعب.
لقد تعبت من الكتابة والقراءة
من الإقامة والسفر
من الذكريات ومن الأحلام
من التخلف ومن التقدم
من اليمين ومن اليسار
من خلافات المقاومة ومن تماسكها.
من أسمائها الحركية ومن أسمائها الصريحة.
من الاحتلال ومن الاستقلال.
من ثرواتنا القومية، ومن دورنا الحضاري.
ولذلك سأنام على أول سرير أو رصيف يصادفني حتى يأتي من يوقظني بريشته لا بحربته.
ولكن قبل أن أدخل في سباتي الطويل هذا كالحشرة الأفريقية لا بد لي أن أصرخ على مسامع العالم أجمع:
أيها الكتّاب والشعراء والفنانون
يا قراء القصص البوليسية
أيها المخبرون… يا رجال الأنتربول في كل مكان.
عبثًا تبحثون عن الجريمة الكاملة، فما من جريمة كاملة في هذا العصر سوى أن يولد الإنسان عربيًا.

س: كنت ترفض وتهاجم مبادرة السادات. هل أفهم من ذلك أنك مع استمرار الاضطراب في المنطقة، وضد السلام القائم على العدل؟

– اسمع يا ولدي، لا تعذبني وتعذب نفسك وتأكل جوزًا فارغًا من الآن. سلام قائم أو قاعد أو متكئ على العدل أو ستين عدل لن يعيد الاستقرار إلى المنطقة، وإذا كنت تعتقد أنه بمجرد حل قضية فلسطين سوف يتنفس الانسان العربي الصعداء وتعود له حريته ولقمته وطمأنينته فأنتم “مستشرقون” في هذه المنطقة لا من أبنائها، لأنه بمجرد أن تنتهي قضية فلسطين مثلًا، سيجدون له بعد 24 ساعة قضية أخرى، بشعاراتها وصحفييها ومطربيها ومخابراتها وقوانين طوارئها. وليس من الضروري أن تكون قضية سياسية، أبدًا. المهم أن تكون “قضية” يحكم الحاكمون باسمها ويستنفرون الشعب للدفاع عنها، كالنضال مثلًا لاستعادة حقوقنا المهدورة من الثروة المائية، أو لحماية الوطن من الغبار الذري وتلوث البيئة، وبعد سنة أو سنتين من الخطب والأغاني والمهرجانات تصبح قضية، وينقسم حولها العرب، وتتدخل أمريكا وروسيا وتصبح قضيةً معقدةً تأخد لها عشرين أو ثلاثين سنة أخرى.

ولذلك أفضل أن نبقى على قضية فلسطين، فهي على الأقل قضية نعرفها، وتأقلمنا مع شعاراتها وهتافاتنا ومهرجاناتنا، ولم يبقَ لنا من العمر ما يكفي لتجارب جديدة، وقضايا جديدة.

س: كيف استفاد محمد الماغوط من تجربة السجن؟

كنت أدخن الطاطلي سرت والبافرا. وعلى ورق البافرا كتبت مذكراتي في السجن وهربتها في ثيابي الداخلية، واكتشفت لاحقًا أن ما كتبته كان شعرًا، بداياتي الأدبية الحقيقية كانت في السجن. معظم الأشياء التي أحبها أو أشتهيها، وأحلم بها، رأيتها من وراء القضبان: المرآة، الحرية، الأفق.

س: ماذا ستهدي السيدة الوالدة التي أنجبت لنا كاتبًا نجيبًا مثلك في عيدها؟

– فستان سهرة! في حياتها لم تسهر إلا فوق طبق العجين. “سيارة سبور”! في حياتها لم تركب إلا سيارة الإسعاف. ماذا أهديها لأهديها، إنها مجرد شجرة تين، جرداء بعينين زرقاوين خابيتين.

هل تعرف فعلًا ما أتمناه في هذه المناسبة يا صديقي؟ أن أوقظها صباح عيد الأم تمامًا وأساعدها على ارتداء ملابسها وغسل وجهها ويديها المعروقتين ثم ألفها بعكازها وظهرها المحدودب، وفانوس تنقلاتها بورق السيلوفان وآخذها بيدي وأهديها هي إلى أحد أقبية المخابرات؛ ليرفعوا قدميها العجوزين البائستين أمام عيني، حيث آثار روث البقر الجاف ما زالت مدفونةً في شقوقهما العميقة (لقد كان روث البقر الجاف هو أوبيك الفقراء في تلك الأيام) ويجلدوها على قدميها ورأسها وظهرها وتجاعيد وجهها حتى تكل أيديهم؛ لأنها ولدتني في هذه المنطقة.

دعني أطرح بعض التساؤلات التي تدور في ذهني ولتكن الإجابات مختصرةً كلما أمكن ذلك.

س: ما الوصف الذي يليق بالمبدع؟

المبدع كالنهر الجاري، متى استقرّ تعفّن.

س:. ما الجديد في بيتك الشعري؟

بيتي الشعري بلا سقف.

س: ما العاصمة التي ينتمي إليها الإنسان العربي؟

كل ما أعرفه أن للإنسان العربي منذ أن وجد حتى الآن عاصمة واحدة اسمها: الحزن، القهر، الجوع. وكل ما نرجوه ونلتمسه، نحن الفقراء، من المسؤولين العرب ألا يعينوا لها محافظًا أو واليًا في المستقبل.

س: لكل من الكتاب الكبار مدرسة أو تيار. ما المدرسة التي تنتمي إليها كتاباتك؟

بدأت وحيدًا، وانتهيت وحيدًا كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار أو مدرسة.

س: لك الكلمة في النهاية. فهل تنهي هذا الحوار بإحدى قصائدك؟

«قولوا لوطني الصغير والجارح كالنمر/ إنني أرفع سبابتي كتلميذ/ طالبًا الموت أو الرحيل/ ولكن لي بذمته بضعة أناشيد عتيقة/ من أيام الطفولة/ وأريدها الآن/ لن أصعد قطارًا/ ولن أقول وداعًا/ ما لم يُعِدْها إلي حرفًا حرفًا/ ونقطة نقطة./ وإذا كان لايريد أن يراني/ أو يأنف من مجادلتي أمام المارة/ فليخاطبني من وراء جدار/ ليضعها في صُرَّة عتيقة أمام عتبة/ أو وراء شجرة ما/ وأنا أهرع لألتقطها كالكلب/ مادامت كلمة الحرية في لغتي/ على هيئة كرسي صغير للإعدام./ قولوا لهذا التابوت الممدد حتى شواطئ الأطلسي/ إنني لا أملك ثمن المنديل لأرثيه/ من ساحات الرجم في مكة/ إلى قاعات الرقص في غرناطة/ جراح مكسوّة بشعر الصدر/ وأوسمة لم يبقَ منها سوى الخطافات/ الصحارى خالية من الغربان/ البساتين خالية من الزهور/ السجون خالية من الاستغاثات/ الأزقة خالية من المارة/ لا شيء غير الغبار/ يعلو ويهبط كثدي المصارع/ فاهربي أيتها الغيوم/ فأرصفة الوطن/ لم تعد جديرة حتى بالوحل».

في الحقيقة لم أكن أريد لهذا الحوارأن ينتهي حتى لو كان افتراضيًا. لم أكن أريد أن يصمت محمد الماغوط أو يسكن الثرى لكن هذه هي النهاية دائمًا وربما ما يخفف من قسوة هذه النهاية أن الماغوط في غيابه “أقل موتًا منا وأكثر منا حياة!”.

وبالتأكيد لم يفرغ الغمد بعد من سيوف الأسئلة. فما زالت التساؤلات تحاصرني ولروح محمد الماغوط أهدي أهم سؤالين كنت أريد أن أستمع لإجابته فيهما:

1- “الفرح ليس مهنتي” كيف اخترت هذا العنوان رغم أنك كاتب ساخر من الطراز الأول؟

2- “سأخون وطني” لأول مرة يؤلف أديب كتابًا يكرسه للإنذار بأنه يعتزم أن يخون وطنه. كيف ساعدتك الجرأة في اختيار هذا العنوان الصادم؟ وأي وطن هذا الذي ستخونه علنًا وبفخر؟

وأريد أن أوضح مرة أخرى أن محمد الماغوط توفاه الله فى عام 2006 أي أن كل هذه الثورية لم تخرج لتواكب الثورات العربية بل خرجت قبلها جميعًا وكانت أحد المحرّضين عليها وهنا تكمن أحد أهم عبقريات الساخر محمد الماغوط .

وإن أمكن تلخيص مسيرة الماغوط فإنها تتلخص فيما كتبه محمود درويش عند رحيله:
“رحل الماغوط، ونقص الشعر. لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون من مجايليه الذين صانوا سلطتهم الشعرية في حياتهم بحرّاس النقد والأحزاب. فهذا الوحيد الخالي من أية حراسة نظرية وتنظيم إعلامي، لم يراهن إلا على شعريته وحريته، وعلى قارئه المجهول الذي وجد في قصيدته صدى صوته وملامح صورته، بعدما أقامت كلماته المكتوبة بالجمر جسر اللقاء بين الذات والموضوع، وبين الذات وما تزدحم به من آخرين.
وهو، هو الذي جاء من الهامش واختار هامش الصعلوك، كان نجمًا دون أن يدري ويريد. فالنجومية هي ما يحيط بالاسم من فضائح. وشعره هو فضيحتنا العامة، فضيحة الزمن العربي الذي يهرب منه الحاضر كحفنة رمل في قبضة يد ترتجف خوفًا من الحاكم ومن التاريخ. حاضر يقضمه ماضٍ لا يمضي وغَد لا يصل. كم أخشى القول أن الزمن الذي هجاه الماغوط ربما كان أفضل من الزمن الذي ودّعه.”

وإلى هنا ينتهي هذا الحوار الذي أتمنى أن أكون قدمت فيه ما يليق بروح محمد الماغوط وبالقارئ أيضًا.

المصادر:
1-سأخون وطني" محمد الماغوط الطبعة السابعة 2012 عن دار المدى.
2-كتاب "شعراء سلمية" محمد عزوز سنة. 2009 
3-دراسة عن الماغوط تحت عنوان "الماغوط وفن القول الجديد"  د.فاطمة المحسن نشرت في جريدة الرياض عام 2006.
4-"حيرة العائد"  محمود درويش الطبعة الأولى يونيو 2007 عن دار رياض الريس.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: بشري عبد المؤمن

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا