فن الأمومة: حوار صحفيّ مع ثلاث أمهات كاتبات

الأمومة هي النداء الأعلى للتضحية. إننا إذ نلحظ قدرة الأم على إضفاء الألوان لحياة طفلها، وتشكيل مشاعره ونسج ميوله، يتبدّى لنا أن الأم، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فنانةٌ عظمى.

الأمومة ضربٌ من ضروب الفن، وليس ذلك على سبيل الاستعارة أو المجاز، فكما يتسلّم غوغان لوحةً بيضاء كالثلج، فيصنع منها قطعةً فنيةً خالدة، يكتنف رحم الأم نطفةً لا حول لها ولا قوة، فتصوغ الأم منها إنسانًا، إنسانًا يحمل في وجدانه اختلاجاتٌ ونزعاتٌ ليس بوسع غوغان ولا غيره الإلمام بها كلّها.

ولإيماننا بالأمومة كفن، بادرنا بالتواصل مع أمهاتٍ مارسن فنونًا أخرى، الفنون الكتابية تحديدًا، وطلبنا منهن أن يحدِّثنا عن تجربتهن في المزج بين نوعين من أسمى أنواع الفنون: الأمومة، والكتابة.

رولا رشوان، أم لطفلين، زياد ذو الخمس سنوات، وعبدالرحمن ذو العشر. تعمل في الترجمة وكتابة المحتوى باللغات الثلاث: عربي، إنجليزي، وروسي. حاصلة على ليسانس الألسن قسم اللغة الروسية. صدر كتابها المترجم الأول “بابا ياجا: حكايات شعبية روسية” عن دار كتوبيا، والحائز على جائزة أفضل كتاب مترجم ـ مصنف أدب الطفل في معرض الكتاب، الجائزة المقدمة من الهيئة العامة للكتاب وبرعاية المركز القومي للترجمة. تعمل كاتبة صحفية في موقع المنصة، ومترجمة في كلٍ من مجلتي روز اليوسف والمحطة.

إعلان

يقولون أن بداخل كل امرأة “حريمٌ صغيرات” ينشأ بينهن تعارضٌ وتوتر، فهل وجدتي تعارضًا بين الأنثى الكاتبة والأنثى الأم في داخلك؟

لا تعارض بين الصفتين فيما أرى، على العكس، فُطرنا جميعًا علي حكايات الجدات، فالمرأة حكاءة بطبعها، تملك خيالًا متشعبًا، ذاك الخيال الذي يساعدني على الكتابة والترجمة، هو نفسه الذي يبدع إجابات وتفسيرات لأسئلة يطرحها أطفالي بما يتناسب مع مرحلتهم العمرية أو توعّي فيهم مبدأ أو تُرسي قاعدة.

كأم، فإنك تحظين بامتياز مراقبة الإنسان من بزوغه وحتى نُضجه، فهل أفادك هذا الامتياز ككاتبة؟ وبماذا أفادتك الأمومة ككاتبة في غير هذا؟

أعتقد أنَّ الإفادة الأكبر في هذه الناحية، كانت في ملاحظة أطوار التغيير التي يمر بها الإنسان، من طفل يعتمد بالكامل على أمه، إلى استقلالية تنمو وتنمو حتي تصير عنادًا محببًا ـ أحيانًا. عندما أصبحت أمًا، تغيرت نظرتي حول ردود أفعال والديّ التي ظننتها ـ بينما كنت طفلة ـ زيادة في العناية، أو آراء كان عليّ مواجهتها، والآن حين يتكرر الأمر مع أطفالي أجد أن ردود أفعالي لا تختلف كثيرًا، من ناحية الحرص الشديد ومحاولات توعية وتنبيه ومجادلات لا تنتهي. علمتني الأمومة ألا أفسر الأشياء من منظور أحادي، وأن الإنسان يتغير بتغير موقفه ودوافعه.

رغم ما في أدب دوستويفيسكي من تعقيد، وما يحمله من تأويلات، فإننا نجده أكثر الكتّاب الروس رواجًا بين المراهقين في مصر. كمترجمة أدبٍ روسي، ما أسباب ذلك؟ وهل بوسع هذه الأذهان المذكورة هضمه بشكلٍ كافٍ؟

الأدب الروسي يبحث في النفس البشرية، وهذه آفة البشر جميعًا: محاولة التعرف علي ذواتهم ومهادنة أرواحهم الحائرة، وخاصة هؤلاء علي مشارف الاستقلالية: المراهقين. كلنا نبحث عمّن يفسّر دوافعنا وتصرفاتنا. أما عن أهم الأسباب، فيعود ذلك للترجمة البديعة الراقية التي أوصلت الحس الأدبي والفني للأعمال الروسية؛ سامي الدروبي وأبو بكر يوسف مثلًا.

كنت قد قرأت مرة أن “قراءة الشعر بلغةٍ غير تلك التي كُتب بها كأن تأخذ حمامًا ساخنًا بينما تلبس معطفًا من الصوف”. كيف يتفادى المُترجم خطأ استئصال مواطن البلاغة من النص؟

راودتني نفس الفكرة مؤخرًا جدًا، بينما كنت أحاول ترجمة بعض أبيات الشعر الصوفي، ففي المرة الأولى تترجم النص كما أُنزل، ثم تعيد قراءته فتكتشف ما وراء النص، ثم تبدأ في تأويله والبحث عن روحه ومواطن بلاغته، وبالتالي، هذه إحدى مخاطر المهنة في رأيي. إن تحدثنا مثلًا عن لون أدبي كالشعر أو القصة القصيرة التي تنحو بعض اتجاهاتها إلى فكرة “الرمز”، قد يختلف تفسير القارئ للبيت الشعري أو الرمز في القصة، كل على حسب خلفيته ورؤيته وتذوقه، بينما قراءة العمل المترجم تُخضِع القارئ لتأويل المترجم نفسه للنص، ومن هنا ظهرت المقولة الشهيرة: “المترجم خائن”. فلكل نص وحدته وتفرده وبلاغته في لغته الأصلية، ولذلك كل عملٍ مترجَمٍ هو مخاطرةٌ قد يستطيع المترجم فيها إيصال روح النص ورسالته، أو تغريبه.

“الست مكانها بيتها وعيالها” عرفٌ دارج في مصر، بل يكاد يكون في العالم العربي بأسره، فهل هو صحيح أم خاطئ؟

لا أعتقد أن الأمر أصبح دارجًا كما البداية، المعارف تطورت ـ قليلًا ـ وأثبتت النساء جدارتها كل في مجالها. ناهيك عن أن الموضوع لا يتعلق بمن ينظر إليّ أو ينصفني باعتباري كذا وكذا، المهم كيف أصنف أنا نفسي، كيف أتميز في مجالي ـ لنفسي قبل الآخرين. المُلتفت لا يصل.

قسّم سورين كيركيجارد المجد إلى قسمين: مجد البطل، وهو مجدٌ خاص يخلقه الفرد بنفسه، ومجد الشاعر، وهو مجدٌ يظفر به الشاعر بالتغنّي بمجد البطل إذ يتوحد معه. فهل ترين الأم كشاعرة تتغنى بمجد أبطالها أم كبطلةٍ تخلق المجد خلقًا؟ أم أنها تحظى بالمجدين؟

الإنسان صنيعة نفسه ومعتقداته أولًا ثم بيئته والعقول التي ساعدت في نشأته، وبالتالي لا أظنه عيبًا أن أفتخر بتنشئة إنسان سوى خلّاق مثقف أو على الأقل – في ظل الظرف الاجتماعي الحالي- عاقل بما يكفي لمنع أذاه عن البشر. وإجابة على السؤال، أظنني أتمنى أن أحظى بالمجدين، على أن يقرر أطفالي في المستقبل منحي دور البطلة احتفاءً بما آلت إليه شخصياتهم أو لا.

 

هبة رفاعي، أمٌ لطفلين، كريم ذو السبع سنوات، وتميم ذو السنتين. كاتبة صحفية، كاتبة في موقع نون، ومحررة قسم الأم والطفل وقسم الزواج في مجلة نواعم.

تقول فنانة هوليوود جيسيكا لانج، أن المرأة إذ تُصبح أمًا، لا تعود هي محور كونها، وإنما تغيّر مسارها لتدور في فلك صغارها. كيف ترين هذه المقولة؟

هناك مرحلة في حياة الطفل، تكون الأم هي كل عالمه، خلال هذه المرحلة يكون طفلي هو محور حياتي، ولكنها فترة مؤقتة، لهذا في تجربتي لم أتخلَ عن أحلامي، إنما اضطررت لتأجيلها أحيانًا، وأجريت تعديلات في أحيانٍ أخرى لتناسب كوني أمًا، يمكن أن أقول أن مرحلة الدوران في فلك أطفالي ستمر، وسأعود مرة أخرى أنا محور حياتي، ولكنهم سيظلون للأبد محورًا رئيسيًا في خططي.

تجربة الأمومة حافلة بالهزّات الوجدانية: آلام الحمل، اكتئاب ما بعد الولادة، والمسؤولية الجمّة للروح الغضّة التي تنتظر منكِ أن تهديها السبيل. فكيف استلهمتِ هذه الهزّات؟ وما أشدهم إلهامًا لكِ؟ وكيف ساعدتك الكتابة على تجاوز هذه الأوقات العصيبة؟

خلال تجربة إنجابي الثاني، أصبت باكتئاب الحمل، وما بعد الولادة أيضًا، أحد أشد اللحظات إيلامًا كانت بعد ولادتي بأربعة أيام، لم أتمكن من الذهاب مع طفلي الأول إلى مقابلته الأولى في المدرسة، شعرت أنني تخليت عنه بشكل أو بآخر، لا شيء ساعدني على اجتياز هذه المشاعر السلبية أكثر من الكتابة، بشكل عام، الكتابة تساعدني على اجتياز الصعوبات في كل جوانب حياتي.

العنف الأسري يرسي أساساتٍ مضطربةٍ تنبئ بطفلٍ “آيل للسقوط”. كأمٍ وكاتبة، كيف ترين العنف الأسري؟ وما أسبابه؟ وبماذا تنصحين الأم التي تمارس العنف على أطفالها؟

العنف الأسري ثقافة مجتمع للأسف، وهي نابعة من فكرة امتلاك الأبناء، فأغلب الآباء والأمهات لديهم اعتقاد خاطئ بأن أبنائهم ملكٌ لهم، وبالتالي “أنا حر في ولادي!”. ولأن هذه ثقافة كما سبق وأشرت، فإن الحل من وجهة نظري هي قوانين رادعة، تعمل على تطبيقها جهة مستقلة، أحيانًا تتغير الثقافات خوفًا من القانون وحسب.

الكتابة علاج نفسي ذاتي. حينما يضيق العالم بالأم، وتثقّل كاهلها المسؤوليات، فهل يجدر بها أن تلوذ بالكتابة؟ حتى وإن لم يكن الأمر بشكل احترافي، ككتابة المذكرات مثلًا؟

لكل شخص طرق خاصة تساعده نفسيًا، بالنسبة لي كانت الكتابة، ولكنني لا أنصح بها الجميع، فقط أنصح بأن يحاول كل شخص اكتشاف الشيء الذي يمكن أن يساعده، سواء كان الموسيقى، الرسم، أو الكتابة طبعًا.

هل لكِ أن تعدي للقرّاء ثلاثة دروسٍ علمتها لكِ الأمومة؟ وثلاثةٌ أخرى علمتها لكِ الكتابة؟

الأمومة علمتني: الحب غير المشروط، العطاء، التعاطف، والصبر. بينما علمتني الكتابة: الإصرار، التأمل، التروي والتفكير المتأني قبل إبداء رأي.

ماذا تنتظرين من أطفالك أن يقدموا للعالم؟ وما الذي ترجين من العالم أن يُقدمه لهم؟

أدعوا الله دائمًا أن ينفع البشرية بأبنائي، أيًا كانت الطرق التي سيختاراها. أما العالم، فأرجو ألا يؤذيهما، فقط.

نورا ناجي، أمٌ لطفلة، وهي فاطيما ذات السنوات الست. صحفية وروائية، صدر لها ثلاث روايات: بانا، الجدار، وبنات الباشا. روايتها الأخيرة “بنات الباشا” أُدرجت ضمن القائمة القصيرة لجائزة ساويرس 2019.

هنالك الكثير من السمّات المشتركة بين العطاء الأمومي والعطاء الأدبي، ربما كان أوضح هذه السمّات أن كلا العطائين غير مشروط. فما المقابل الذي تحصلين عليه “كأمٍ وكاتبة” مقابل هذين العطائين؟ وما هي السمّات الأخرى المشتركة بين الأمومة والأدب؟

الأمومة نفسها عملية إبداعية، هذا ما أقوله طوال الوقت، الألم دائمًا هو المصدر الأكبر والأول للإبداع، والأمومة والكتابة يشتركان في الألم والتعب والرغبة في التخلص من حملٍ ثقيلٍ يجثم بالفعل على حجابك الحاجز، لكن الوضع لا يتوقف، تستمر في العطاء حتى آخر نفس في صدرك، المقابل في الحالتين وفي أيّ عملية إبداعية هو السعادة، ثمّة متعة استثنائية وأنت ترى طفلتك تكبر أمام عينيك، وأنت ترى عملك يتطور أمام عينيك.

تلد رأس المرأة آلاف الاحتمالات ووسوسات الـ “ماذا لو؟” في نفس الوقت الذي تلد هي فيه طفلًا، وتحس تقصيرًا في حق نفسها أو كما تقول شافاك: تجعلها في هوسٍ دائمٍ بشأن الدرب الذي أهملت اختياره. فكيف تتجنبين ذلك أو تتعاملين معه؟

أعتقد أن الشعور بالذنب هو شعور دائم وثابت عند الأمهات والفنانين، ولا سبيل لتجاوز ذلك للأسف، ربما يكون هو الدافع الحقيقي وراء استمرارهم في عملياتهم الإبداعية هذه، لكن التخفيف من هذا الشعور مطلوب بالطبع، أعتقد أن الطريقة المثالية هي الحديث الدائم مع النفس، ووضع نظام صارم للحياة والعمل، والتأكد أنني مثلًا أبذل كل جهدي.

لن يكون الأمر وكأنك ستنتزع جزءًا من نفسك وتلقيه بعيدًا، نحن لا نلقي ما في دواخلنا، بل نتقبله. هكذا هي نظرة هاروكي موراكامي للتعامل مع الألم النفسي، كيف أدركت “حياة” بطلة روايتك “الجدار” هذه القاعدة؟ وفي رأيك ما معنى أن “نقبل أنفسنا” أصلًا؟

ساعد الحب حياة في إدراك هذا المعنى، أعتقد أن لحظة التنوير أو التغيير جاءت في اللحظة التي رأت فيها وجه “تيو” وهو غير مهتم بهوسها وما تفعله وحيدة على الجدار، بل كان شعوره الوحيد هو القلق عليها، ثم الحب فقط ولا شيء سواه، بعدها عندما أدركت أن الحياة تستمر مهما حدث، تقبلت نفسها شيئًا فشيئًا وتعاملت مع ألمها لتتمكن من الاستمرار هي أيضًا. نقبل أنفسنا عندما نصل إلى أصل الاضطراب أو العقدة، ونبدأ في تفكيكها شيئًا فشيئًا، نرى الصورة كاملة ومن ثّم ندرك أن الحياة هشة، وأن لا شيء يستحق كل هذا التعقيد.

في روايتك الأخيرة “بنات الباشا” لاحظنا تعددًا مُدهشًا للشخصيات، فكيف يخلق الكاتب كل هذه الشخوص في عقله؟

هذا سؤال ماكر، خلق شخصية مثل خلق عشر شخصيات، نفس الطريقة ونفس التفكير، أعتقد أن الكاتب يجد شخصياته في الواقع وفي تاريخه الشخصي، تكفي نظرة لعابر في الشارع ليكوّن فكرة كاملة عن حياته، نظرة إلى جاره في المواصلات تجعله يستبطن أفكاره وما يشعر به، هذه هي حساسية الفنان وقدرته على التقمّص والملاحظة، الخيال يضفي عليها الكثير، ويبدأ في تكوين تاريخ كامل للشخصية، ثم يراقبها تتطور وكأنه يراقب طفلًا ينمو.

عيد الأم هو أيضًا عيدٌ للمرأة. فهل نالت المرأة العربية حقوقها؟ وما هي اليوتوبيا التي تحلم بها؟

بالتأكيد لا، لكنها قطعت شوطًا كبيرًا. على الأقل صار هنالك حديثٌ جادٌ حول أهمية تجريم الختان، ووُضعت قوانينٌ جديدة للزواج والطلاق، هنالك أحاديثٌ عن قوانين الإرث وبلاد غيّرت منه بالفعل. استقلال المرأة لم يعد شيئًا غريبًا أو غير مألوف. السيدات بتن أكثر ثقة في أخذ قرارات وخطوات وإطلاق صيحات المطالبة بالحقوق. يكفي أنهن توقفن عن السكوت عن المطالبة بحقوقهن في قضايا التحرش.
اليوتوبيا النسائية تحدث عندما تتوقف النظرة الدونية للمرأة، أنها أقل ذكاءً وقوة وأنها مجرد وعاء للرجل. المشكلة أن هذا لن يتحقق بالمطالبة بالحقوق، يتحقق بالتربية في البيوت، أعتقد أن توعية النساء أصلًا هي الخطوة الناقصة من اجل يوتوبيا نسائية.

كل كاتبٍ هو مفكرٌ بالضرورة، ففي رأيك، هل الأمومة منحةٌ غريزية أم شيءٌ مُكتسب؟

الأمر يختلف من أنثى لأخرى، لا يمكن ان أقلل من شأن أمٍ لأنها لا تشعر بالأمومة غريزيًا أو أنها أخذت وقتًا لتتمكن من حب طفلتها مثلًا، فهناك عوامل كثيرة تتحكم في الموضوع على رأسها اكتئاب الولادة. ثم إن هناك ملايين الأمهات اللاتي لم ينجبن، الأمر بالفعل ليس ثابتًا، الشيء الوحيد الثابت هو التفهم، تفهّم وضع كل أم وسيدة، واستيعاب أن القصص تختلف، والتوقف عن إصدار الأحكام.

 

إعلان

اترك تعليقا