“Extraction” كيف تصنع مُتعة سينمائيَّة؟
نسبة المشاهدات الهائلة التي حصدها فيلم (Extraction) لمْ تأتِ من فراغ؛ فما يقترب من مئة مليون مرة مشاهدة على منصَّة البث “نتفلكس” أتى من وعد قطعَهُ الفيلم على نفسه. يعدك هذا الفيلم بقضاء ساعتَيْن إلا الثلث من المتعة السينمائيَّة الخالصة دون أنْ يتركك تظنُّ أنَّه يقدّم لك فكرة لطيفة، أو أنَّه يعرض دراما ملحميَّة، أو أنَّه يؤيد اتجاهًا سياسيًّا أو يناصر رأيًا من الآراء؛ لمْ يتركك الفيلم تظنُّ هذا، بل قدَّم نفسه على أنَّه مغامرة واضحة المعالم يخوضها بطل الفيلم من أوَّل دقائقه إلى آخرها. وهذا وحده كان العنصر الحاسم في نجاح هذه التجربة، أمَّا العناصر المساعدة فكانت توليفة نقيَّة من أرقى أنواع المتعة السينمائيَّة.
فيلم (Extraction) أو الإجلاء فيلم من إنتاج 2020، من تأليف جو روسو، مُستندًا على قصة المؤلف نفسه وآخرين. ومن إخراج مؤدِّي المشاهد العنيفة سام هارجريف ومن بطولة كريس هيمسوورث (بطل سلسلة Thor وأحد فريق سلسلة المنتقمون الشهيرة)، جولشفتي فرحاني، ديفيد هاربر، رانديب هودا، والطفل رودهركش جيسوال. الموسيقى للمؤلف الموسيقيّ هنري جاكمان، والتصوير نيوتن سيجل. الفيلم من تصنيف إثارة، مغامرة، حركة. تعدَّتْ ميزانيته 65 مليون دولار أمريكيّ، ويحقق عوائد مشاهدات ضخمة للغاية.
يبدأ فيلم extraction في الهند حيث نرى الصبيّ “أوفي ماهاجان” ذي الأربعة عشر ربيعًا، ابن أحد أكبر تجار المُخدِّرات في الهند كلها، والذي نجده في السجن يقضي عقوبة. يعيش حياة صبيّ مُراهق، لكنَّه خجول. يغريه أصدقاؤه بالسهر معهم كما يفعل المراهقون دومًا. وكان عائق الصبيّ نحو السهر هو “ساجو” مساعد أبيه ومدير أعماله، والضابط في القوات الخاصة الهنديَّة سابقًا. لكنْ ينجح أوفي في الإفلات من قبضة رقيبه الأُسريّ ويذهب إلى الملهى، وهناك يتمّ اختطافه من أعوان شخصيتنا الثانية بعد الصبيّ.
“أمير عاصف” التاجر الأشدّ نفوذًا في دولة “بنجلاديش”، يمتلك ملهى ليليًّا في “دكا” عاصمة الدولة. وهو بالغ النفوذ في دولته، وذو أعوان لا حصر لهم، فضلاً عن أنَّ الشرطة كلَّها تعاونه وتخدمه. للدرجة التي شُبِّه فيها بتاجر المخدرات الأشهر “بابلو إسكوبار”، وأمير لديه عداوة مع والد أوفي؛ لذلك اختطف ابنه.
وهنا نأتي للطرف الثالث والأخير هو “تايلور ريك” وهو المقاتل السابق في الجيش الأمريكيّ. يعمل بعد تقاعده مُرتزِقًا حُرًّا ينفذ عمليَّات خاصة بالأجر. يعيش وحيدًا منفيًّا بإرادته مُحطَّمًا في أستراليا بعد أن فقد أسرته، وابنه الصغير بسبب مرض السرطان. وهو كعادة أبطال الأفلام يمتاز بالعديد من المهارات التي لا يتميَّز بها أحد.
بعد أن تكوَّن لدينا المشهد الشامل عن الفيلم نجد أن والد الصبيّ جعل حياة ابنه رهنًا بحياة ابن “ساجو” مساعده. والذي كلَّف بدوره مجموعة تواصل لتعيد إليه ابنه؛ والتي بدورها استعانت ببطلنا لتنسج لنا عناصر القصة.
كل ما ذُكر في الفقرات السابقة لا يُمثِّل من الفيلم شيئًا، بل إنَّ الإعلان التشويقيّ للفيلم يكشف أكثر منه، وعملية حكي الأحداث غير مُفيدة في فيلم كهذا؛ لسبب واضح أنَّ مُتعته لا تكون إلا بالمُعاينة لا بالرواية فهو ليس فيلم أفكار وصراعات يحتاج لتحليل، بل فيلم إمتاع. والحقّ أنَّه يعطي درسًا عن كيفيَّة صناعة فيلم ممتع، لكنَّ المُتعة تحليلها أصعب من مجرد عرض الأفكار التي قد تكون واضحة، ولا يعني هذا أنَّ الفيلم ليس به معانٍ؛ فهناك بعض المعاني التي قد لا تُقصد لنفسها بل أتت فقط لدعم القصة وامتداد الفيلم الزمنيّ.
ولعلَّ ألطف معنى جاء في الفيلم كان عن الخبرة الإنسانيَّة في لمحات من علاقة تاجر المخدرات “أمير عاصف” بالشاب اليافع “فوراد” الذي التقاه مصادفةً في حادث أوَّلَ الفيلم. حينها أمره بأنْ يقطع إصبعين من أصابعه، ثم قابله مرةً أخرى في منتصفه ليجد أنَّ الشاب من نفسه قطع إصبعًا لإخفاقه في أنْ يوقع بـ”تايلر”. عندها غضب التاجر في هدوء ووجَّه نصيحة للشابّ أنْ يحتفظ بإصبعه الآخر، وألَّا يظنّ أنَّه صلب كفايةً لمواجهة الدنيا؛ فدائمًا هناك مَن هو أصلب. وهنا نرى فارق الخبرة في الممارسة الحياتيَّة التي استدعتْ من المُجرِّب الهدوء وهو المُتضرِّر، وجلبت على غيره الأذى مع أنَّه لا ناقة له ولا جمل في الأمر كلّه. التاجر يقولها وكأنَّه يقول للشاب: ليس في كل وقت يجب أنْ تكون شُجاعًا؛ فللنذالة أيضًا فوائد.
وبالقطع يبقى الفيلم مُخلِصًا لأسطورة البطل الأمريكيّ الذي يهزم الجميع من دون منافس، حتى لو كان هناك شخص خارق مثله من أيَّة جنسيَّة أخرى كـ”ساجو” إلا أنَّ الأمريكيّ لا بُدَّ أنْ يقف وحده بطلاً حتى النهاية. وهذا الأمر وإنْ كان سمة عامَّة للأفلام الأمريكيَّة من هذا النوع إلا أنَّه سمة أيضًا لمستوى من الإرضاء الجماهيريّ من صُنَّاع الأفلام. فمثلاً في سينمانا المصريَّة نجد أنَّ البطل المصريّ هو أيضًا من يتفوق في النهاية ليُصفِّق الجمهور ويسعد، وينتشر الفيلم ويكسب صنَّاعه، على خلاف أفلام من كل سينمات العالَم أخلصتْ للفكرة ولمْ تخلص للجنس، وصُنعت على مبدأ موضوعيّ لا على مبدأ الشخصانيَّة.
كما في فيلم extraction أيضًا أحد أصنام السينما الأمريكيَّة الشعبيَّة وهي الصورة النمطيَّة للشعوب الأخرى؛ فلا بُدَّ أن تكون صورة بالغة السوء، أو في أحسن تصوراتها صورة أقلّ من صورة الشعب الأمريكيّ. فمثلاً -والأدقّ أنْ يُقال خاصةً- إذا صورت العرب فلا بُدَّ أنْ يكونوا لابسين لباس البدو! وهناك أفلام كثيرة تصدر حتى الآن تدور في مصر وفي بلدان العرب -مثل الجزء الأخير من جون ويك، وفيلم اكس مين نهاية العالم 2016- وكلَّها تدور حول الناقة والجمل، وتصوِّر الشعب ساذجًا لا قيمة له؛ وكأنَّه في محلّ “الكومبارس”. وكذلك فعلوا في هذا الفيلم.
أمَّا عن الإمتاع في فيلم extraction فحدِّثْ ولا حرج؛ الفيلم شريط من المتعة الخالصة. ساعد عليها أنَّها أتتْ في سياق قصَّة محدودة الزمن والمعالم؛ فكما نرى القصة هنا ليست إلا سياقًا للمتعة ليست مُنشئة للمتعة كما هو الأصل. فأوَّل المتعة قصة بسيطة، وروح المغامرة الطاغية على كل دقيقة في الفيلم، وكذلك بعض العلاقات الإنسانيَّة التي كان أهمها علاقة البطل بالصبيّ أوفي. فمنذ المشاهد الأولى التي تصنع لك تشويقًا مناسبًا، وغموضًا بعض الشيء تجاه أبطالنا ومصائرهم تبدأ القصة المحدودة في لعب دورها التأطيريّ -أيْ صنع الإطار- لمتعة الفيلم، فما عناصر المتعة في الفيلم؟
عنصر الحركة (الأكشن) في الفيلم؛ سواءً كانت الحركة حركة جسديَّة بالاشتباك الجسديّ المباشر أم غير المباشر، أم حركة بالأسلحة. ويكاد الفيلم يكون مواجهتين طويلتين داميتين بينهما أحداث، ليست أهميتها إلا إطالة زمن الفيلم وصُنع المُبررات التي تؤدي لهاتين المواجهتين. فأوَّل عناصر المتعة في الفيلم أنَّه حقق هدفه من إعطاء المُشاهد جرعات واسعة المدى من الحركة. وثاني ما في عنصر الحركة هو الإكمال في المَوجة الجديدة التي بدأتها سلسلة “جون ويك” من حيث نوعيَّة الحركة الجسديَّة والالتحام، وكيفيَّة التعامل مع الأسلحة وتلقيمها بالذخيرة وتهيئتها للإطلاق. وظاهر كل الظهور التأثر البالغ بالسلسة التي كانت ثورة في عالم أفلام الحركة، وحدًّا فاصلاً من حدودها.
ثاني عنصر في هذه المتعة هي الصوت؛ وقد شهد الفيلم بناء غاية في التماسك والجودة من حيث الهندسة الصوتيَّة؛ على صعيد المونتاج الصوتيّ الذي كان بارزًا أشدَّ البروز (وهي سمة أيّ فيلم حركة ناجح) أو على صعيد الميكساج الصوتيّ ودمج الأصوات. وفي الفيلم ثراء صوتيّ واضح كلَّ الوضوح؛ فيكفي أن نذكر أصوات التلاحم البشريّ، وأصوات الأسلحة كافّة، وأصوات السيارات والحافلات، وأصوات الآذان (بنجلاديش دولة مسلمة) وكلَّها دخلت في التكوين الصوتيّ للفيلم، ونجح الفيلم في استيعابها جميعًا ليُخرج شريطًا صوتيًّا ناجحًا أشدَّ النجاح.
ثالثها هو التصوير الذي يشهد هو الآخر مشيًا وراء الخط الجديد الذي بدأه الأخوان روسو، ودعَّمتْه موجات أفلام شركة “مارفل”. ويكفي أن يشاهد المُشاهد الكريم المواجهة الطويلة الأولى التي تبدأ في الدقيقة الخامسة والثلاثين ومطاردة السيارات التي بها؛ ليكتشف وحده مدى البراعة التي تميَّز بها تصوير الفيلم. وكذلك ساعده المونتاج في سيولة المشهد بصورة لا تُصدَّق، وانظر كيف ينخدع بصرك لتظنّ أن المشهد مستمرّ مع أنَّه منقطع، لكنَّها المهارة الشديدة في سيولة الكاميرا والمشاهد.
ولا بُدَّ أن تلحظ ما يمتاز به الفيلم من مُعالجة لونيَّة بارعة، أسهم فيها وجود مشاهد طبيعيَّة كثيرة -حيث صُوِّر الفيلم في بنجلاديش وتايلاند- وبالقطع كل الأشياء المُصوَّرة تخضع للمعالجة اللونيَّة، لكنَّ مشاهد الطبيعة الآسرة حتى لو صوِّرت بكاميرا هاتف لا بُدَّ أن تكون أشدّ تأثيرًا إذا أضيف لها الكثير من التعديل اللونيّ، ويكفي أن يشهد أحد لقطات الافتتاح حتى يعلم عن أيّ مستوى نتحدث من معالجة الألوان وإتقانها ولمستها الجماليَّة.
ولا شكَّ أن الإخراج الذي من الممكن وصفه بالبهلوانيّ هو الذي اختار كل هذه المؤثرات العينيَّة والسمعيَّة، ولعل وصف “البهلوان” ليس غريبًا عن أصحابه فجميع المخرجين الذين بدأوا هذا الاتجاه الإخراجيّ هم في الأصل مُؤدون للمشاهد الصعبة (دوبلير)، فكأنَّهم نقلوا مهنتهم المُصغَّرة بسمتها المميَّزة إلى الإخراج الواسع الفسيح؛ فصار هناك اتجاه جديد في الإخراج الفيلميّ يستهدف أشدّ ما يستهدف أنْ يخطف عينَيْك مسحورتَيْن لا أن يبقيهما في مكانهما مُتيقظتَيْن. ولعلَّنا نسأل إلى أيّ اتجاه وتشكيل سيأخذنا هذا الاتجاه الجديد؟
سادس هذه العناصر هي الموسيقى والشريط الموسيقيّ للفيلم آسر للغاية صُنع بمنتهى الرهافة والحسّ الفنيّ العميق، وبمزيج من أصوات آلة الكمان والطبول الدافئة الهادئة لا الحادَّة طالعتنا موسيقى الفيلم منذ بدايته في صدمة سرعان ما تسلب المُشاهد لُبَّه لا سمعه وحسب. والفيلم يمتاز بالدعم الموسيقيّ المستمرّ حتى إنَّك من الممكن أنْ تشغل الفيلم دون أن تراه من ثراء التجربة الصوتيَّة والموسيقيَّة في الفيلم.
وبعد كل عناصر المتعة السينمائيَّة نجد في تجربة المُشاهدة نوعًا من المبالغة، ثم مزيدًا منها، ثم مزيدًا على الرغم من أنَّ الفيلم ليس خياليًّا، لكنْ من الأفضل في هذه التجارب أنْ نتجاهل المبالغة في أحداث الفيلم لصالح المتعة السينمائيَّة. وللمتعة في الفيلم ثمن هو العنف ومثل هذه الأفلام ذات خطر بالغ على نفسيَّة المشاهد الصغير خاصةً والشابّ في زرع العنف بداخله، واستساغته لرؤيته والتعامل معه؛ لذا يجب الحذر من هذا العنصر للتقليل من خطره.
هذه التجربة الفيلميَّة تؤكد أنَّ اتقان عناصر الفيلميَّة وحده قادر على إنتاج المتعة؛ فما بالنا إذا أضفنا إليها الفكرة والهدف أو الدراما المتقنة؟ ومن هنا نكتشف كيف تأسرنا السينما وكيف تستطيع عن طريق بعض الإخلاص والتنبُّه لعناصر الصنعة أنْ تُمتِّع مَن يشاهد وأنْ تؤثّر فيه أيضًا.