سياسيات أندلسيات (1) الأميرة صبح البشكنجية
احتلت المرأة الأندلسية مكانة عظيمة في المجتمع، وكانت تتمتع بالقوة والنفوذ، فقد ساهمت في السلطة إلى جانب زوجها، وتصرفت بملء حريتها في ثروته الخاصة وأملاكه.
وفي تاريخ الأندلس جوانب كثيرة أتاحت الفرص لبروز عدة نساء، ويعود ذلك إلى اتصافهن بالحكمة، ولم تكن مكانتهن هذه تستمد قوتها من مقامهن السياسي فحسب، بل كانت تستمدها من كفاءتهن واقتدارهن، مما أفسح لهن مجالات للظهور.
وقد كانت المرأة، حرة أو جارية، تجاري الرجل في حسن تدبير الأمور؛ فالزلفاء زوجة المنصور محمد بن أبي عامر مثلًا، كانت من الحرائر اللواتي أدَّين دورًا في الحياة السياسية، كانت امرأة ذكية قوية العزم، كثيرة المال والوجاهة، وتمتعت بنفوذ عظيم في بلاط ابنها عبد الملك الظفر (392-398 هـ/ 1001 – 1007م)، وكان المنصور برغم قوته وشدة بطشه يسترشد برأيها ويعمل بموجبه؛ لأنها امرأة كثيرة التجارب، وعظيمة الحنكة شديدة الثقة بنفسها[1]. على أننا سنتناول في هذا المقال حياة امرأة ساهمت في وصول نجم المنصور نفسه إلى قمة الدولة، تلك المرأة التي لبثت ردحًا طويلًا من الزمن، تسيطر بسحرها ونفوذها، على خلافة قرطبة، وتشترك في تدبير شؤونها، في السلام والحرب، مع أعظم رجالات الأندلس. وتصفها التواريخ الإفرنجية بـ “السلطانة أو الأميرة صبح” [2]
أصلها ونشأتها
لم يرد في المصادر معلومات كثيرة عن نشأتها وأصلها، عدا أنها كانت جارية بشكنجية الأصل من إقليم نافار، ولا يعرف هل كانت رقيقة بالأصل أو أنها استرقّت بالأسر، أما اسمها “صبح” فقد ترجم من الكلمة الإفرنجية “Aurora” التي تعني الفجر أو الصبح الباكر.
مكانتها
ظهرت صبح كجارية في بلاط الخلافة في أوائل عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وقد شغف بها الحكم واستأثرت لديه بالنفوذ والرأي، فكانت في أول أمرها صاحبة السلطان المطلق على عقل الخليفة وقلبه، ثم أصبحت بعد ذلك بفطنتها وذكائها تملك روحه، وما زالت تتدرج في مراتب الكمال حتى صارت الملكة النافذة في كل بلاد الأندلس[3]، خاصة بعد أن رزق الخليفة منها بولده الأول عبد الرحمن ثم ولده الآخر هشام وذلك بعد أن كبر سنه[4]، عندها لم تعد مجرد حظية بل غدت زوجة الخليفة “السيدة صبح أم هشام المؤيد”. [5]
بروزها
أخذت الأميرة صبح تشارك زوجها الحَكم في إدارة الحكومة، ولم يمض على ذلك زمن طويل، حتى كانت تشغل مركزًا ساميًا في ميدان السياسة والإدارة، وتمكنت من إظهار ذكائها الفطري، وقدرتها على ممارسة الأحكام بشكل أدهش رجال الدولة. وقد عرف عن الخليفة الحكم أنه يقدر الأشياء على قدرها، ويقيم للأمور أوزانها، ففطن إلى مزايا زوجته في مسائل الحكم والإدارة وأشركها في الحكم علنًا ووسع المجال لدائرة نفوذها وتأثيرها.[6]
وبعد وفاة المستنصر اتّسع نطاق عمل صبح؛ فراحت تؤدي دورها العملي بكل جدية؛ تنظر في قرارات المجلس الأعلى، وتبحث عن الوسائل المؤدية لاستتباب الأمر في ربوع الأندلس، وقد عملت على تخفيض الضرائب الباهظة التي أثقلت كاهل الشعب، فلاقى عملها تأييدًا كبيرًا لدى العامة وقبولًا لدى الخاصة؛ لأن رجال الدولة لم يقع اختيارهم عليها كوصية عبثًا بل عن قناعة؛ فهي مشهورة بذكائها، معروفة بحسن درايتها في سياسة البلاد.[7]
غير أن هذا لم يمنع قلقها على مصير ابنها بسبب منافسة عمّه ابن الناصر له، فعملت مع محمد بن أبي عامر وشخص آخر على التخلص من المغيرة بن الناصر، بعد ثلاثة أيام من وفاة الحكم لتصبح هي الوصية على ولدها. ثم استمرت هذه العلاقة التي قامت على المصالح المتبادلة، بينها وبين ابن أبي عامر، في السنوات الأولى من عهد الخليفة هشام المؤيد، لكن لم يكن لهذا التعاون أن يستمر نظرًا لطموح ابن أبي عامر في السيطرة على الدولة من جهة، ورغبة صبح في أن يصير ابنها الحاكم من جهة أخرى.
بداية النهاية
منذ سنة 370هـ، عمد ابن أبي عامر إلى الانتقال إلى مدينة الزاهرة مع حرسه وأمواله، مما جعل قصر مدينة الزهراء شبه خاوٍ، ذاك الذي تسكنه صبح وابنها الخليفة، كما أحكم إغلاق أبواب القصر ليقطع أية صلة لهشام وحاشيته مع الخارج[8].
هنا، أدركت الأميرة صبح خطورة الموقف على ولدها وعلى الخلافة، وأحست بأنها كانت السبب وراء ذلك بتقريبها لابن أبي عامر، ومع تزايد قوة هذا الأخير، فكرت في إسقاطه بالتعاون مع حاكم المغرب آنذاك “زيري بن عطية” فعرضت عليه إرسال أموال له، مقابل قيامه بحملة عسكرية ضد ابن أبي عامر.
كان المنصور صبح رجلًا يقظًا، فقد أحس بالمؤامرة التي تحاك ضده، فحجر على جميع أموال القصر ونقلها إلى الزاهرة، ثم أرسل الجيوش للقاء زيري وهزمه شرّ هزيمة[9]
وفاة الأميرة صبح
أمام قوة المنصور وصلابته، لم يكن لصبح خيار آخر غير الاستسلام واللجوء إلى العزلة، وقد وصف سيمون حايك حالتها تلك بأسلوب أدبيّ قائلًا أنها عاشت “عزلة اضطرارية، حنينها إلى العزّ يعاودها، وتنفر الدمعة من عينيها على ماضٍ حافل بالأمجاد وحاضر خامل، فلا المنصور يعبأ بأمرها، ولا ابنها الخليفة يصغي لنصائحها وإرشاداتها كما كان يصغي الحكم أبوه، وأنصارها تفرقوا عنها.. فهي عاجزة.. نخرت جسمها العلة، ولم يعد لها ما يحببها إلى البقاء.. وصارت تتمنى النجاة من هذه الحياة التي لم يعد لها فيها مأرب”[10]
وقد ظلت على هذه الحال حتى وافتها المنية سنة 388هـ. ويذكر أن المنصور بن أبي عامر مشى في جنازتها حافيًا وشيعها، وتصدق على قبرها بخمسمائة دينار[11].
قد يعجبك أيضًا: أديبات من الأندلس
[1] عائدة محمد خالد : المرأة في الأندلس، ص 239 [2] محمد عبد الله عنان : الخلافة الأموية والدولة العامرية ص 520 [3] قدرية حسين : شهيرات النساء في العالم الإسلامي ص 230. [4] ابن الخطيب، أعمال الأعلام، 2/43 [5] المقري، نفح الطيب 3/353 [6] قدرية حسين : شهيرات النساء في العالم الإسلامي ص 230. [7] المصدر السابق ص 239 [8] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس 2/539 [9] ابن عذارى، البيان المغرب 2/303 [10] جاسم ياسين الدرويش، أعلام نساء الأندلس ص 180-181، نقلا عن "صبح البشكنجية، ص 220 [11] المصدر السابق نقلا عن مؤلف مجهول، تاريخ الأندلس، ص 225-226