ماذا يحدث لعقلك عند تعلم لغة جديدة؟

هل فكّرت من قبل كيف يعالج عقلك كل هذا الكم من المعلومات يوميًا؟ الأشد ذهولة هو طريقة عمل الدماغ في معالجة المعلومات الجديدة، وأحد الأشياء التي تعتبر شي أساسي للتواصل بيننا في المجتمعات البشرية هي اللغة. تشكّل اللغة عالمًا ووسيلة لنتمكّن من التعبير والتواصل من خلاله، وفي وقتنا الحالي تتواجد أكثر من 7000 لغة مستخدمة حول العالم.
ويمثّل تعلّم اللغة حلّ لغز أو فكّ شفرة معقّدة، هنالك العديد من الدراسات والأبحاث التي اختبرت عمل الدماغ وطريقة تفسيره للغة الجديدة بالنسبة الى لغته الأصلية ووُجدت تحوّلات مذهلة قام العلماء برصدها. حيث تم التمثيل بها كعملية فكّ شفرة معقّدة -مثلما ذكرت سالفًا-. وكيف يمكن للغة أن تُحدث فرقًا بشكل فعلي في الطريقة التي يعمل بها عقلك، بالتالي إحداث فرق فعلي في حياتك وطريقة تفكيرك بشكل عام.
تعلّم لغة جديدة يفتح لك العديد من الأبواب منها التعرّف على الثقافات والتواصل مع الآخرين من حول العالم، أيضًا فإنّ تعلم لغة جديدة يمكن أن يتوسّع لعالم أكبر داخل عقولنا.
المناطق المسؤولة عن اللغة والتواصل
يشكّل الدماغ نظام شبكة معقّد يعملان معًا في آن واحد، فتُرسل آلاف الإشارات في لحظات ليقوم المخ بمعالجتها حتى تتمكّن جميع الوظائف من العمل في الوقت ذاته، مثل المناطق المسؤولة عن فهم اللغة في الدماغ والتي تقع على يسار نصف الكرة المخية وهما منطقة بروكا ومنطقة فيرنيك الذين هم مسؤولين على تحليل ما نسمعه عادةً، هاتين المنطقتين يشكّلان معًا نظام تنفيذ اللغة.
يمثّل الجزء الأيسر من الدماغ الجزء الرئيسي المسؤول عن اكتساب اللغة الذي يتكوّن من منطقة بروكا التي تلعب دورًا هامًا في إنتاج الحديث والتي هي مسؤولة عن الوظائف الحركية مثل الكلام حتى تتيح للعقل إنتاج الحديث الخاص به.
إعلان
في حال سماعك محادثة طبيعية فإنّ هذه المحادثة تنتقل من القشرة السمعية إلى منطقة فيرنيك التي تقوم باستقبال الإشارات عند سماع الكلام وتقوم بتفسيرها لنستطيع فهمها فيما بعد لينتج عنه الحديث أو الردّ الخاص بنا فيما بعد.
مرحلة التعلّم
عندما يكبر الطفل ثنائي اللغة، فإنّ تعلّمه للغتين يُعالج في المنطقة ذاتها. أما عند تعلّم البالغين للغة ثانية فإنها تعالج في منطقة قريبة من المنطقة الأولى، وهذا ما يفسّر صعوبة تعلّمها لمن هم أكبر سنًا.
على سبيل المثال فإنً عند تعلّم المتحدّثين الإنجليزيين للغة اليابانية فإنهم لا يستطعون التمييز بين الحرفين “L” و “R” لعدم وجود أحرف مماثلة لها في اللغة الإنجليزية والصوت الياباني القريب منهما شبيه بحرفي “L” و”R”. لذا عند سماعهم لهذين الحرفين فإنّ أدمغتهم تنشط الصوتين في المنطقة ذاتها. على عكس المتحدّثين الأصليين للغة الإنجليزية فإن الأصوات تنشط في مناطق مميزة.
هل اللغة الأولى تُنسى؟
في الحقيقة، هناك دراسة أُقيمت عن تجارِب اللاوعي في مقالة تحت عنوان “رسم خريطة لِحفاظ العقل اللاوعي على لغة الأم المفقودة” . في جامعة ماكجيل، كندا أجريت التحاليل عن طريق تصوير الرنين المغناطيسي لـ48 فتاة بين 9 و17عامًا. لـ ثلاثة مجموعات . المجموعة الأولى كانت قد ولدت وكبرت أحادية اللغة في عائلة ناطقة باللغة الفرنسية. المجموعة الثانية كانوا أطفال صينيين تم تبنيهم وهم رُضع فيمَا أصبح أحاديّي اللغة ناطقين بالفرنسية. أما المجموعة الثالثة فكان ثنائيي اللغة يتحدّثون الفرنسية والصينية بطلاقة.
أظهرت نتائج الدراسة فعالية مُبهرة، لتطابق تام لدى الصينيين المتبنون الذين نسوا أو توقّفوا عن استخدام اللغة الصينية تمامًا مع المجموعة الذي استمرّت في التحدّث بالصينية منذ الولادة. مما يفسّر دور عقل اللاوعي في تذكّر اللغة التي اعتاد سماعها في الأشهر الأولى من الحياة. حيث كانت قد خلقت اللغة الأم أنماطًا عصبية احتفظ بها الدماغ اللاواعي سنوات.
تعدّد اللغات
بينما يبدو الجزء الأيسر هو المسؤول الرئيسي عن اكتساب اللغة فإنّ الجزء الأيمن أيضًا يؤدّي دورًا هامًا حيث يساعد المتعلّمين في تمييز أبسط الأصوات المرتبطة، كأنك تحلّ أُحجِيَّة.
كانت الدراسات قد قامت على متعدّدي اللغات لتفسير طريقة عمل الدماغ بشكل مختلف عند استخدام لغات مختلفة بشكلٍ رائع، لذا من السهل القيام بكل المقارنات مع أصحاب اللغات المتعدّدة الذين قاموا باستخدامها لفترة طويلة للتواصل لنستطيع أن نرى كيف ينظّم الدماغ الاستجابة على أساس مستوى الطلاقة.
كما وجدت هذه الدراسات أيضًا أنه عند استماع متعدّدي اللغات إلى اللغات التي لا يتحدّثونها كانت قد أظهرت شبكة الدماغ ترابط عند استماعهم للغات المرتبطة باللغة التي يستطيعون فهمها مقارنة مع تلك اللغات التي ليست مألوفة لديهم تمامًا.
أظهرت النتائج كذلك شبكة دماغ متعدّدي اللغات نشاطًا واضح عند استماعهم إلى اللغات التي لا يتحدّثونها ولكن يستطيعون فهمها.
الذاكرة والتعلّم
تنقسم الذاكرة بشكلٍ عام إلى أفعال نقوم بها بوعي منا أو دون وعي. فمثلًا عندما تتذكّر تفاصيل شخصية تعرضت لها أو أحداث مررت بها ضمن سياق زمني محدّد، تلك الأفعال تُخزن في الذاكرة التصريحية أو الواعية.
أما الأفعال الإعتيادية أو العادات التي قمنا بها لوقت طويل، فإنّ تلك تُخزن في الذاكرة غير تصريحية، عند تعلّمك للغة أجنبية بكفاءة في الذاكرة التصريحية مع مرور الوقت الطويل في استخدامها لتنتقل فيما بعد الى الذاكرة غير التصريحية وتُستخدم بدون وعي.
كما يحفّز التعلّمُ الخلايا الجذعية في الدماغ لإنشاء خلايا جديدة، ويُطلق عليها مصطلح «المرونة العصبية – Neuroplasticity» التي تمكّن المتعلّمين من التغلّب على العوائق التي يمكن أن تواجههم عند تعلّم لغة جديدة حتى عند سن البلوغ. كما أكد الباحثون أنّ تمكين الدماغ من تكوين خلايا عصبية جديدة يُحفز القدرة على التعلّم. خاصة عند اتباع أساليب تعلّم فعالة مثل التركيز على المهارات اللغوية الأربع “القراءة، الكتابة، التحدث والاستماع».
أيضًا في تجربة قام بها العلماء لاختبار حجم الحصين “Hippocampus” وأداء الذاكرة العرضية، كان المتقدمين من كبار السن والذين كانوا قد قضوا مدة طويلة في استخدام اللغة الثانية، كشفت النتائج عن حجم أكبر للحصين يتناسب مع درجة استخدامهم للغة الثانية. مما يؤكد على أن استخدام لغة أجنبية يمكن أن يُحدث تأثيرات عصبية وقائية على المدى البعيد.
المراحل المبكرة لتطوير اللغة
في طور نمو الدماغ حيث يتم تكوين إحدى أهم مهارات التواصل لدى الطفل وهي اللغة، حيث يبدأ الدماغ في تنشيط نقاط الاشتباك العصبي التي تساعد من هم في سن الرضاعة على تمييز أبسط الأصوات في جميع اللغات. حيث عندما يسمع الطفل أصواتًا خاصة تتكوّن أنماط عصبية جديدة تستجيب لها الخلايا العصبية في القشرة السمعية في الدماغ لكل صوت. تعدّ قدرة الرُّضَّع على سماع اللغة احدى الفرص التي تأتي في وقتٍ مبكّر جدًا من الحياة.
وبحلول بلوغ الطفل الست أشهر تكون قد تكوّنت بالفعل لديه الأنماط العصبية الخاصة بلغته الأم وسيكون من الصعب عليه التعرّف على أصوات جديدة فيما بعد.
ويكون العقل في هذه المرحلة المبكرة جدًا من الحياة على أتم الاستعداد لبناء وتكوين الخلايا العصبية وعند بلوغ الطفل السادسة من العمر سيكون من الصعب عليه اكتساب المهارات النحوية بينما فرصة اكتساب مرادفات جديدة لاتتوقف وتنعدم. لذا لن يكون من الصعب على أحد تعلم لغة جديدة بالكامل ولكن بمضاعفة الوقت والجهد ليستطيع بلوغ مرحلة الطلاقة.
كيف يحسِّن تعلم لغات جديدة العقل و الإدراك؟
في حين نعلم جميعنا الفوائد المحتملة عند تعلمنا للغة جديدة، ومع ذلك فإن المنافع العصبية والعقلية التي تكتسبها يمكن أن تؤثر في المهارات الناعمة لدينا من دون ملاحظتنا ومن ضمنها:
· تقوية الذاكرة.
· بناء مهارات تعدد المهام.
· زيادة الثقة بالنفس.
· تحسن من مهارات اتخاذ القرارات.
· تأخير الزهايمر.
· زيادة المرونة العصبية.
· تعزيز الأداء في مجالات اكاديمية أخرى.
في النهاية، عند تعلّمنا للغة جديدة فإنّ الأمر لا يقتصر على مفرداتنا او ثقافتنا، انما هو عملية تُعيد تشكيل بنية الدماغ نفسه، مما يُحدث تغيرات تعزّز مهاراتنا الإدراكية بسبب زيادة المرونة العصبية عند تحدّثنا بلغات متعددة خلال حياتنا.
المراجع:
إعلان