ثنائية السلطة والمعرفة عبر القوميات | باسل أبو العز

تأثير العلاقة التبادلية بين المعرفة والسلطة لم تكن يومًا أسيرة صراع المجتمع والدولة فقط، بل امتدت لتشمل العلاقة بين الدول، والأمم وبعضها لبعض، حيث أن سقوط الأمم ونهوضها يكمن في التجارب المعرفية التي تمر بها، فالمعرفة -التي تحتوي على الثقافة والخبرة الدينية والأخلاقيات- عندما تصبح هي الركيزة الأساسية في المجتمع، وتكون نابعة من هويتها وتجربتها الحضارية؛ تؤدي إلى نمو تلك الأمة وازدهارها، بخلاف عندما تخفت المعرفة وتضمحل، أو تشوه في المجتمع؛ تصبح الأمة في موضع ضعف وتفكك، وهذا ما صكه مالك بن نبي في نظريته عن عالم الأفكار.
فنجد مالك بن نبي يشرح كيف يقوم الاستعمار بالتوغّل داخل المجتمعات المسلمة، ويقوم بتفكيكها من الداخل ليس عن طريق الاحتلال العسكري فقط، بل عن طريق التلاعب بعالم الأفكار الخاص بها، حيث يقول متحدّثًا عن الاستعمار:
ولكنه لكي يحافظ على احتكاره للأفكار قد مكن على وجه الدقة في العالم: جهاز كامل من المراقب التي تستكشف الأفكار، وتتبع تحركاتها باهتمام بالغ. واهتمامه بها اهتمام عملي محض لأن الأمر ينحصر بالنسبة إليه في حماية ذلك الاحتكار لنفسه.
(1)
هنا يوضّح مالك بن نبي كيف تؤثر قيام الدول الاستعمارية الإنتاج المعرفي في العالم بشكل عام والدول المُستعمَرة بشكل خاص؛ لكي تستطيع أن توجد لها سلطة فيما بعض تواليها ولا تعارضها، ويكمل قائلًا:
والاستعمار لا يقنع بمجرد الاستعلام عن حركة الأفكار فهذا شأن الفيلسوف، إلا أن للاستعمار فلسفته الخاصة التي تتمثل في التخلص من الأفكار التي تضايقه، وفي الانحراف عن مراميها، بتوجيهها خارج المدار الذي أراد أصحابها استبقاءها فيه.
(2)
فالاستعمار عند دخوله البلدان الإسلامية اعتمد على ترويج الخرافة وتقديسها، ومحاربة العلماء، وتأميم الأوقاف الخيرية التي كانت تساهم في انتاج معرفة تحررية تقاوم الاستعمار الخارجي والاستبداد المحلي، وقام باعتماد لغته الأم كلغة أساسية في بلاد المُستعمَرة وتغيير النظام القانوني من خلال استبدال الشريعة الإسلامية بالقانون الفرنسي أو الأنجلوسكسوني، وبناء منظومة تعليمية علمانية تناهض المنظومة التقليدية الإسلامية التي تجسّدت في الجوامع والكتاتيب الإسلامية.
الأمن الثقافي وخطاب المعرفة الاستعمارية:
وفي الدراسات الأمنية المعاصرة التي تهتم بالكشف عن التهديدات الخارجية والداخلية التي تهدّد أمن المجتمع، يتبلور مفهوم الأمن الثقافي كأحد المفاهيم التي تهتم بالأشكال الثقافية والرمزية للسلطة المحلية والعابرة للقوميات (3)، حيث يركّز منظور الأمن الثقافي على الخطاب الاستعماري المعرفي الذي تواجهه المجتمعات الجنوبية جراء الهيمنة الثقافية الاستعمارية، ويبرز كيف تؤثّر المناهج الدراسية المستورد والأجندة الأكاديمية، والتي لا تخضع للفلتره الثقافية على الاستقرار المجتمعي في تلك البلدان، فتلك المناهج تقوم بتربية أجيال على قيم سياسية واقتصادية مغايرة للبيئة المحلية التي تربوا فيها، مما سيؤثّر فيما بعد في المؤسّسات والهياكل الاجتماعية صاحبة السلطة في إدارة المجتمع وتنميته (4)، حيث قد يؤدّي إلى نتائج تهدد هوية المجتمع، كالتجربة الكمالية في تركيا على سبيل المثال.
إعلان
تلك السياسات الاستعمارية التي قامت بشكل أساسٍي على تغيير المرجعية المعرفية للمجتمع وآليات إنتاج المعرفة فيه؛ أدت فيما بعد إلى بلورة نخب محلية توالٍ الدول الاستعمارية وتعادي مجتمعاتها الداخلية، مما أدّى إلى سيطرة السلطة السياسية الاستعمارية أو الوكيل الاستعماري عنها على عملية إنتاج المعرفة في المجتمع. فعملية إنتاج المعرفة (التدريس، والفتوى، والقضاء) في التجربة الإسلامية كانت تتم إدارتها بعيدًا عن سيطرة السلطة السياسية، فلم يكن هناك المنظومة البيروقراطية الحديثة التي تسيطر سلطة الدولة فيها على كل مؤسّسات المجتمع وتعيد هيكلتها وفقًا لمصالحها ورؤيتها، بل كان للمجتمع قدر كبير من الحرية في مقاومة هيمنة السلطة السياسية على المؤسسات الاجتماعية، حيث كان المسلم يتعلّم في الكتَّاب، ثم في المسجد أو المدرسة، على يد المشايخ الذي يصل سندهم العلمي بمشايخهم حتى جيل الصحابة والتابعين، وكان يتم تدريس كتب المذهب السائد في مجتمعاتهم (5)، وكانت مؤسّسات الأوقاف الخيرية تموّلهم بالأموال استقلالًا عن السلطة السياسية، فكان أقصى ما يمكن للسلطة السياسية أن تفعله وقتها أن تقوم بسجن أحد العلماء أو ترحيله كما حدث في فتنة خلق القرآن -التي شهدت ائتلاف بين رجال الدين المعتزلة والحاكم العباسي المأمون لفرض اعتقاد ديني معين- لكنها لم تكن تستطع أن تصدر قرار بتغيير المناهج الفقهية، أو إغلاق الجوامع وإنشاء مراكز تُدرس الفكر المعتزلي.
إذ كانت هناك موانع أهمها أن عملية إنتاج المعرفة تأتي من أسفل إلى أعلى وليس كما هو الحال الآن في الدولة الحديثة، والتي تقوم بهندسة المجتمع الناتج عن مؤسسات التعليم الحداثية والتي يمر من خلالها الفرد مراحل حياته التعليمية كالمدرسة، والجامعة، والتي تتحكم فيها السلطة السياسية من خلال فرض مناهج معينة بالإضافة إلى تخريج طواقم تدريس تشرف وتدرس تلك المناهج، والتي تكون في العديد من الأحيان لا تلائم البيئة الثقافية الخاصة بالمجتمع وتخدم شبكة المصالح في المجتمع، ولاسيما في عصر الاستعمار والذي لطالما سعى إلى إعادة تشكيل رؤى المجتمع وتغيير مفاهيمه.
إذ يحكي الدكتور أيمن صبري فرج -أحد المصريين الذين عاصروا تجربة الجهاد الافغاني ضد السوفييت في أفغانستان- في مذكراته عن أثر التعليم الغربي الحداثي على تفكيك المجتمع الأفغاني وزرع بذور الهزيمة النفسية والفكرية، إذ يقول: «وقد لفت نظري ظاهرة غريبة جدًا في “أفغانستان” وهي الفرق الشاسع بين التعليم المدني الحكومي والتعليم الديني أو حتى الأمية وقد رأيت بأم عيني نتائج الأثنين؛ فالذين وصلوا إلى المرحلة الثانوية يتسكعون في “باكستان” ويعملون في المؤسسات والمستشفيات، وعندما رقدت بضعة شهور في عدد من المستشفيات أتيحت لي الفرصة لأعرف كيف يفكرون فقد كان كل الممرضين من الأفغان المتعلمين في مدارس حكومية وكان رأيهم أنّ “الاتحاد السوفيتي” (سوبر باور) قوة عظمى لا يمكن أن يهزم، وأن ما يفعله المجاهدون هو عبث وقلة عقل، فإذا سألناهم ولكن المجاهدين هزموا السوفييت بالفعل وانسحب الروس فكانوا يقولون إن أمريكا هي التي هزمت الروس». (6)
يتّضح من كلام دكتور أيمن كيف يؤثر التعليم الحداثي على عملية تشكيل المعرفة وتغيير تصوّرات المجتمع، والمعايير التي يضعها في حسبانه والقيم التي يُعلي من شأنها، فيكمل الدكتور مفسّرًا:
ولم أجد تفسيرًا لهذا المر إلا أن التعليم المدني يبث بطريقة خفية الانبهار بالغرب والشعور بالضعة نحوه، ويقتل النخوة ويجعل هدف الإنسان في حياته المزيد من العَرَض الزائل.
(7)
والأمر ليس مقتصرًا على بنية التعليم الحداثي فقط، بل يتعدى الأمر إلى توغل سلطة المعرفية الأكاديمية الغربية التي تحدد من خلال مناهجها بتحديد ما هو علمي وما هو خرافي، وترتب أولويات الأجندة الأكاديمية، والتي تقوم جامعات دول الجنوب باستعارتها ودراستها دون التحقق من مضمونها العلمي والأخلاقي، فمفهوم مثل “الأصولية” والذي لطالما تداوله الغرب اكاديميًا وإعلاميًا والذي يرتبط بوجه عام بالتصلب والدوجمائية لد الحركات الدينية ذات الأهداف السياسية (8)، وهو مفهوم وُلد في رحم المجتمعات الامريكية بالأساس، وكان يُوجه لوصف الطائفة البروتستانتية. (9)
وجرى استخدامه من قبل الاكاديمية الغربية لوصف الحركات الإسلامية في الشرق الأوسط، ومهاجمتها به سواء من خلال الإعلام أو عن طريق النخب السياسية، ثم قامت الاكاديمية العربية باستيراده دون الوعي بخلفيته الثقافية ومضمونه الاصطلاحي واللغوي في التراث الإسلامي، إذ أُصطلح استخدام لفظ أصولي في التراث الإسلامي للإشارة إلى المشتغل بعلمي أصول الفقه، واًصول الحديث، وأصول الدين، واًصول التفسير، وغيرها. (10) مما أدّى إلى تشويه الحركات الإسلامية بمنظور مختزل ومختل علميًا، لكنه يحمل في طياته سلطة المعرفة الاكاديمية والتي تقوم بتمويل البعثات والمؤتمرات لنشر النظريات والمفاهيم وتدريسها في جامعات دول الجنوب، مما يؤدّي في النهاية إلى تشويه الواقع واختزاله في التصنيفات الغربية الأحادية.
ذلك الخطاب الاستعماري، لم يكن محصورًا بين العالم الإسلامي والغرب فقط، بل اعتمدت الدول الغربية على سياسات الليبرلة الثقافية والأمركة في سبيل الاحتواء الثقافي بعد الحرب العالمية الثانية، ويمكننا ضرب مثالين تجلت فيهم تلك آثار التهجين المعرفي، حيث في المرحلة التي سبقت الحرب العالمية الثانية قامت دول الحلفاء بالتعامل مع الدول المنهزمة بطريقة مغايرة للاحتلال العسكري التقليدي أو الحصار الاقتصادي، إذ ركّزوا بشكل أساسٍ على إعادة تشكيل المعرفة والقيم من خلال إعادة هندسة التعليم في مجتمعاتهم.
حيث في ألمانيا الغربية اعتمدت دول الحلفاء الليبرالية بشكل أساسٍ على هندسة المعرفة في المجتمع الألماني؛ لكي يكون محب للديمقراطية سواء باللين أو بالعنف، حيث تم حظر الجمعيات ذات الأيديولوجيات المخالفة لنهج دول الحلفاء، وحُظر إصدار الصحف، وفي نفس الوقت تم إنشاء جمعيات وصحف أخرى ذات رؤى تبشيرية بالديمقراطية الليبرالية، وتم تفكيك العملية التعليمية من خلال إعادة كتابة المناهج الدراسية بطريقة تجرم أفعال الشعب الألماني وتعيد تأهيله لما يتوافق مع مصالح الدول المنتصرة. (11) إذ من خلال تلك الممارسات نجحت دول الحلفاء فيما بعد لاحتواء الشعب الألماني إيديولوجيًا، وبلورة نخب سياسية أصبحت هي الدرع الحامي للمصالح الأوروبية.
أما اليابان فخضعت لنهج تغييري صارم، حيث أوفدت الولايات المتحدة الأمريكية بعثة إلى اليابان، وركزت تلك البعثة على إعادة تأهيل النظام التعليمي لكي يكون ملائم لمفاهيم الديمقراطية والحياة المدنية (12)، وقامت بإزاحة كل مكوَّن اجتماعي قد يعيق تلك الهندسة المعرفية، ومن أبرز النتائج التي ترتبت على ذلك إذ بعد عقود من الحرب العالمية الثانية تم عمل استطلاع رأي في 2018 حول رأي الشعب الياباني بالولايات المتحدة الامريكية؛ فأتت النتائج بأن 67% من الشعب الياباني ينظر للولايات المتحدة الأمريكية بشكل إيجابي، و75% يثق منهم في سياسات الولايات المتحدة، على الرغم من كم الدمار الذي عانى منه الشعب الياباني نتاج القنبلتين النوويتين، لكن بمرور الوقت استطاعت الولايات المتحدة أمركة الثقافة اليابانية واحتواءها، بخلاف الشعب الصيني والذي مازال متذكر الجرائم التي ارتكبتها سلطة الاحتلال الياباني في اربعينات القرن العشرين، حيث في استطلاع رأي أُجريَّ في عام 2022 -من قبل مؤسسة غيرنون اليابانية ومجموعة النشر الدولية الصينية- أوضح أن 63% من الصينيين مازال لديهم انطباعًا سيئًا عن اليابان. (13)
مما يوضح أثر سلطة المعرفة ومرجعيتها على تشكيل الوعي الجمعي، وتحديد المعايير القيمية التي تعتمد عليها الشعوب في نظرتها إلى العالم، مما يؤدّي إلى غياب استقلالها المعرفي، ثم تشوش عالم أفكارها، ثم سقوطها وتماهيها مع منتج المعرفة وقيمه، فتصل إلى الحالة الخلدونية التي ذكرها في كتابه:
المغلوب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيِّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده. (14)
وفي الختام، يتّضح لنا أن العلاقة بين السلطة والمعرفة لا تقتصر على البنى المحلية فقط، بل تتجاوزها لتتغلغل في قلب العلاقات الدولية والتفاعلات الحضارية. فإنتاج المعرفة ليس مجرد ترف ثقافي، بل هو أداة للهيمنة حين يُوجَّه، وأداة للتحرر حين يُستعاد من منابعه الأصيلة. ومن هنا تبرز أهمية استعادة المجتمعات لهويتها المعرفية الخاصة، بعيدًا عن استيراد المفاهيم دون نقد، أو الانبهار الأعمى بمنظومات فكرية لا تنتمي إلى سياقاتها. فالمعرفة إن لم تكن نابعة من الذات، صارت عبئًا على الوعي، ومعولًا من معاول الهيمنة. ولهذا، فإن معركة الاستقلال المعرفي ليست ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة وجودية لأي أمة تسعى للنهوض واستعادة مكانتها بين الأمم.
مراجع:
1 – مالك بن نبي، فكرة كمنويلث إسلامي، ط2، دار الفكر، دمشق، 2000، ص54_55.
2 – المرجع السابق، ص55
3 – Eugenie A. Samier., the globalization of higher education as a societal and cultural security problem, policy futures in education, Vol. 13(5), 2015. P. 689
4 – Ibid. p. 695-696
5 – سبيل الرشاد، محمد إلهامي
6 – أيمن صبري فرج، ذكريات عربي أفغاني، دار الشروق، القاهرة، ط1، 2002، ص56
7 – المرجع السابق، ص57.
8 – أندرو هيود، مدخل إلى الأيديولوجيات السياسية (ترجمة محمد صفار)، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2020، ص343
9 – العيفة سالمي، المقاربات النظرية في دراسة حركات الإسلام السياسي واتجاهاتها، مركز مجدد للبحوث والدراسات، 2022، متاح على:
https://almojaded.com/2022/04/05/10996/
10 – عامر عبد زيد كاظم، الأصولية، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، للإطلاع:
https://www.iicss.iq/?id=2912
11 – حمد السيد سليم، تطور السياسة الدولية في القرنين التاسع عشر والعشرين، دار الأمين للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2002، ص524.
12 – المرجع السابق، ص521.
13 – أحمد دعدوش، من الشنتوية إلى إلحاد 86%.. كيف أعادت أمريكا تشكيل الشعب الياباني؟، الجزيرة، 2024، متاح على:
https://aja.ws/9x4nm
14 – عبد الرحمن بن خلدون، المقدمة (الجزء الثاني)، دار نهضة مصر، ط9، القاهرة، 2019، ص505.
إعلان