العقل المراقَب: كيف تُخضع السلطة الأفراد باستخدام نموذج البانوبتيكون؟ | عاصم عمرو وزيري

سادت نظرة دائمة في معظم الأوساط العلمية والفلسفية بأنّ الحداثة الغربية هي التي أدخلت السعادة والتقدّم والرقي إلى المجتمعات الانسانية، وأنها خيّره الى حدّ بعيد، وبأنّ معظم المنجزات الحضارية والتكنولوجية كانت هي نتاج الحداثة الغربية، ومن ضمنها بالطبع الدولة القومية الحديثة التي وحَدت الشعوب وقضت على خلافاتهم الدينية والأثنية والعرقية. وبالرغم من صحة هذا الرأي جزئيًا، إلّا انه خاطئ إلى حدٍّ كبير.
فمؤيّدو ذلك الرأي يتناسون حقيقة أنّ الحداثة أنتجت لنا ماكينة سلطوية جهنمية، ودولة ذات بنية اجتماعية قمعية قادرة على إخضاع الأفراد في جميع أرجائها، باستخدام آلياتها المتنوعة للإخضاع، وأجهزتها الإيدولوجية المختلفة. وهو ما دفع العديد من الفلاسفة والمنظّرين السياسيين على تحليل تلك البنية، ومحاولة تفكيك آلياتها، من أجل فهم طريقة عملها ومقاومتها. ومن أجل ذلك، عكف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو على تحليل تلك البنية، وشرح وفهم آلياتها، وذلك من خلال نموذج سجن “البانوبتيكون” الذي صممه الفيلسوف الانجليزي جيريمي بنثام.
والبانوبتيكون هو نوع من أبنية السجون بتصميم مختلف عن السجون التقليدية، فهو مكون من زنازين ذات نوافذ واسعة وعالية على شكل دائرة، ويقع في وسط تلك الدائرة برج مراقبة، يحتوي على نوافذ متعددة، ويوجد بداخلها حارس أو مراقب قادر على مراقبة جميع الزنازين. وترى تلك الزنازين البرج، لكن السجناء لا يعلمون ما إذا كان الحارس بداخله أم لا، وذلك بسبب تصميم البرج المعقد الذي يجعل السجناء غير قادرين على ملاحظة الحارس. وبهذا الشكل يصبح السجناء غير قادرين على إدراك الحارس، ويصبحون من مجرد مراقَبين إلى مراقِبين لأنفسهم، أي يصبحون ذواتًا منضبطة، وبالتالي يصبح السجن بداخل عقل السجناء، بحيث أنهم يضبطون سلوكهم تحرّكاتهم دون أن يعلموا ما إذا كان هناك حارس أم لا، وبهذا تصبح هناك عين داخلية تخضعهم باستمرار حتى ولو خرجوا من السجن. (1)
وعلى هذا النحو، أسقط فوكو بنية ذلك السجن على شكل الدولة الحديثة، التي اتّخذت من سجن البانوبتيكون مرشدًا لها، وبدأت في مراقبة المجتمع بأكمله، فغاية الدولة إخضاع الأفراد، وحثّهم على طاعتها، فهي بذلك تخضع أجساد المحكومين عن طريق عقولهم، وتستعمل سلطاتها وأدواتها من أجهزة تنفيذية وتعليمية ومخابراتية وأمنية، بل وحتى طبية، مثل المدارس والسجون والمستشفيات وغيرها، من أجل إخضاع الأفراد، وحفظ هيمنة طبقة محددة على الحكم، عبر سلطة المعرفة، أي باستخدام المعرفة كوسيلة لإخضاع الأفراد، فالسلطة والمعرفة -من وجهة نظر فوكو- أمران متداخلان، وفي علاقة دائمة ومتشابكة. ناهيك عن استخدم العنف في بعض الأحيان، وحثهم على عدم التمرد لأنهم مراقبون دائمًا. (2)
واليوم، يمكن رؤية البانوبتيكون بشكل واضح وكنموذج فعّال من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فنحن نشعر دائمًا بأننا مراقَبون، حيث تعمل الخوارزميات في مختلف المواقع على جمع البيانات وتوجيهها، وعرض أهم المنتجات والسلع التي تهمك، وتذكيرك بأنك لست وحدك من يعلم ما يهمك أو لا. بل أنّ هناك مراقب دائم لك، لأجل أن يرى ما إذا كنت ستضبط تفكيرك بما يتناسب مع السلطة والمجتمع والنظام الرأسمالي، أم أنه يحتاج إلى توجيهك وخلق اهتمامات جديدة لك، حتى ولو بشكل ضمني وغير ملحوظ، باستخدام نفس الخوارزميات التي ذكرناها سابقًا، أي بأستخدام المعرفة وضبط العقل.
إعلان
وقد يعتقد القارئ، بعد هذا العرض، أنّ تلك الماكينة السلطوية، إذن، لن تسقط أبدًا وأنها ستظلّ مستمرة حتى ولو أبدينا أية مقاومة، فما الحاجة إلى التمرّد أو المقاومة ما دامت السلطة متغلغلة في بنية المجتمع بهذا الشكل؟
ولقد أجاب عن ذلك السؤال ميشيل فوكو، وغيرُه من الباحثين والمفكّرين مثل الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس، والفيلسوفة الأمريكية نانسي فريزر.
فلقد رأوا جميعهم أننا يمكننا مقاومة تلك السلطة وآلياتها بالوعي بطريقة عملها، وبالمعارضة المستمرّة والفعّالة التي تخلق لنا استقلالًا ذاتيًا عن سلطة الدولة ومعرفتها. بل أنّ إعادة تعريف الذات هو جزء من المقاومة، فهو بذلك يكسر القوالب الاجتماعية المفروضة عليه من قبل السلطة. فبدلًا من أن نكون محكومون لخدمة الدولة وطاعتها، فأننا محكومون من أجل أن نضبط آلية عمل الدولة التي ينبغي أن تعمل لخدمتنا. فكما يقول فوكو “لا توجد علاقات للقوة دون وجود مقاومات فعالة”. (3)
ومن الواضح أيضًا أنً ثورات الربيع العربي كانت أكبر دليل على قدرة الأفراد العاديين على هزيمة تلك الماكينة واسقاطها، فعندما اكتسبت الشعوب العربية الوعي بمساوئ السلطة وتجبرها، قاموا باحتلال الميادين والسيطرة عليها، في إشارة واضحة إلى أنهم يحتلون البرج الذي ظل يراقبوهم لسنوات عديدة. ولكنهم مع الأسف لم يدمّروا ذلك البرج، ولم يغيّروا علاقات السلطة في المجتمع. بل إنّ بعض المجتمعات العربية قامت بإعادة بناء ذلك البرج بشكل أقوى وقامت بتجديده، معتقدة بذلك أنها تقوم بهندسته ليكون في صالحها، لكنها في الحقيقة تدمر نفسها بنفسها وفقًا لمبدأ مراقبة الذات. وبذلك لم تنفك تلك المجتماعات عن سيطرة البانوبتيكون.
وبالرغم من أنّ فوكو يرى أنّ وسائل المقاومة التقليدية مثل الثورات الكلاسيكية، غير فعّالة، إلّا أنها أثبتت في بعض الحالات، من وجهة نظري، قدرتها على إسقاط بنية السلطة وإعادة تشكيلها، كما حدث ذلك في إيران. فلقد قام الخميني بتغير بنية الدولة من علمانية إلى دينية. وبالرغم من أن آليات الدولة القمعية لم تتغير بشكل كبير، إلا أنه نجح في تغيير بنية النظام الحاكم، والطبقة الحاكمة.
ومع ذلك، يبقى التغيّر الحقيقي الذي يجب أن يتم في عقول الأفراد والجماهير، فالسلطة وبنيتها لا تتغير بين يوم وليلة، ولا من مجرد ثورة تغيرية لحظية، بل أنها تتغير بتغير علاقات القوة في المجتمع، وبطريقة تفكير الأفراد والعامة، والتي إذا غيرناها، سنغير واقعنا إلى الأفضل وإلى مستقبل مشرق.
1- محمد صفار، “الأصوليات”، (القاهرة، مدارات للأبحاث والنشر، 2015)، ص33.
2 – محمد صفار، “علاقات السلطة والقوة والعنف في المجتمع المصري”، فصل من كتاب الثورة والدولة والديمقراطية، محمد العربي (مُحرر)، (الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، 2012)، ص19.
3 – Foucault and Feminism,” Internet Encyclopedia of Philosophy, accessed March 2, 2025, https://iep.utm.edu/foucfem/.
إعلان