الجزار – قصة قصيرة
1
مأمأة الخروف والطفل الذي كنته يلتفّ حوله ويصيح ويضحك ويبتسم، يربط طرحة أمّه حول عيون الخروف ويقلّد بيده حركة حدّ السكّين، لا دماء ولا حشرجة ولا انقباض. بخفّة حركة أقدام الطفل، يمتطي ظهر الخروف العريض، ويمسك قرنيه كلجام ويلكزه في جنبه ليتحرّك، مثلما كان أبوه يفعل مع الحمير والبغال في قريتهم البعيدة قبل مَقدَمِهم لتلك المدينة.
يقول الطفل أشياء لا يعرف لها معنى، لكنّ الأمر كلّه يسعده، والحياة حلم مستمرّ.
فسحةٌ أمام باب البيت الجديد في مدينة لا تشبه شيئًا في الذاكرة، ثمرةٌ هو أوّل من يقطفها في العالم. فسحةٌ لَعِب فيها الولد حتى ضاقت به، وفسحةٌ في القلب كانت في اتّساع حضنِ الأم، يشمل الدنيا لو أراد، وتضاءلت هي الأخرى حتى باتت لا تَسَعُ الحلم بقُبلة شغوفة بالحنين.
كبّر الرجل ذو الصوت الهادئ، يبدأ من بعيد وينتهي في أذني فأحسّ بأنّه يكلّمني وحدي. أبي بجواري وقامته تعلو والجذع المستطيل يكاد يضرب داخل قماش السّماء فيشقّه ويقبض على الشمس، كبّرنا مرّةً أخرى ومرّة وأنا أسمع وشيش موج البحر وأريد الالتفات لأراه، ولا أعرف هل يشبه ترعة بلدنا أم أكبر؟
البحر مزّق قلبه، الولد، من طفولته وحتى اشتداد دبة القدم فوق أديم الرمال وسيلان الدم. دم يسيل، من يوم الخروف صديق الأيام الأولى في المدينة الغريبة وحتى يوم فكّ طلسم كتب التاريخ فذاب داخلها.
نيرون لم يكن مجنونًا، كان فنانًا، أكل في آنية الرصاص والرصاص أصابه بالجنون. ملعون الرصاص والولد الذي كان جالسًا بجواري في التخت، كان ولدًا ساخطًا دومًا.
نيرون لم يكن مجنونًا، الولد الذي استلم جانب الممرّ من التخت ولزقني بالحائط هو الذي كان، سدّد لكمة لأنفي فسال الدم وطارت النظّارات بعيدًا، جريت أبحث عنها على رمال البحر بين أقدام المصلين وأبي لازال واقفًا يقاطع يديه على صدره..
سلّم الرجل ذو الصوت البعيد، وسلّمنا بعده، احتضنتُ جسد أبي في جلابيته البيضاء الجديدة ورأيته يسلّم على مجاوريه في الصفّ، الكفّ في الكفّ.
أعطاني رجل كيسًا به بسكويت وملبس وقال لي “كلّ سنة وأنت طيب”، فنظرت لأبي وأنا لا أفهم ولا أعرف ماذا أفعل؟
قال لي أبي “خذها”، فأخذتها.
عدنا للبيت. البيت جديد ونحن أوّل ساكنيه. رأيت أمي تقف بجوار الخروف في الفسحة أمام العمارة وأختي على ذراعها تنظر للخروف ولي وتبكي قليلًا، فألاطفها، فتهدأ وتشدّ الطاقية من على رأسي، وتزجرني أمي وتأمرني بألا ألعب مع الخروف لئلا أوسّخ الجلابية الجديدة.
الدّم سال، سنّ الجزار الذي سكن في عمارتنا بعد كرّ الأيام سكّينَهُ ورقّد الخروف على جنبه وهتف “الله أكبر”، فصكّت أذني وراعني المشهد وأحطتُ رقبتي بيدي وأصابعي ترتجف.
هتف الجزار قائلًا “يا دبايحك يا زمن”. له عيون صغيرة تكاد تختفي لو ابتسم، عيون صغيرة لكن فيها يرزح ثِقَل ووجوم دائمين.
ابنه الذي صادقني من وحشة الطفولة تلك، عندما رآني أبكي على مقتل الخروف، سيظلّ يطلب مني نسيان الكتب قليلًا والخروج معه، كان يحب الكورنيش والبنات والنارجيلة، وأنا كنت أحب الكتب.
يعمل مع والده في المحلّ، أذهب لأجلس معه وأراقبه وهو يهوي بالسكاكين والسواطير فوق قطع اللحم الكبيرة وهو يحكي لي عن ليلته أمس، كان يبدأ الحكي دائمًا بجملة واحدة “أسكت فاتك نص عمرك”، ويتلو من ورائها سفر جديد من أسفار الحكاية. كانت الحياة لديه احتفالًا أبديًا وحبالًا من حكايات معقودة في بعضها لا تنتهي، وكانت روحه مرحة بصدقٍ نادر يناقض الغضب الذي يبديه وهو يزوم العمّال ويوبّخهم متقمصًا شخصية أبيه.
سأنتظره ليطلب مني قضاء الليل معه، لن يأتي، لأنّ سكينًا قد أخذته مني في شجار نشب في الشارع بين طرفين ليس هو أحدهما، لكنه أراد التخليص وإنهاء الشجار. بنفس الرّوح التي سدّد بها لكمة لأنف الولد الساخط الذي أدمى أنفي وأطار نظاراتي، تلك الروح التي جعلته صديقًا لي كلّ تلك السنوات على الرغم من اختلاف عالمَينا، قام من محلّه ليوقف شجارًا بين اثنين لا يعرفهما، سدّد واحد منهما ضربة نافذة لقلبه فوقع ميتًا. هتف أبوه “يا دبايحك يا زمن”.
2
استسلامًا للخطوات التي أرتقي بها المذبح أو أضع رأسي على الأرومة ليكون هناك قصّاص مني، لزمت صحبة الأب والسّهر معه كابن له ودعوته “الحاج” كما بتّ أدعو أبي بعد شيبته في المرات القليلة التي عادَنا فيها، لكنّ الجزار كان صاحبًا أكثر منه أبًا ودعاني للتحشيش معه، كان قد فات على وفاة الابن بضعة أشهر لم نقرب فيها الحشيش، طقس جديد للحِداد لم نعتده.
جالسته في المحلّ أو في بيته أو في الغرزة، ازداد كآبة مع الوقت عكس كافّة النظريات التي تقول أنّ الحزن يخفّ ويصبح معتادًا عند كرّه على بكرة الأيام، وكانت كلماته تُحال لهمهمات أغلب الوقت. كان دائم الإقامة في مملكة غريبة أظنّه كان مواطنها الوحيد.
تركني في أحد الليالي أبيت لديه في سرير المرحوم بعدما أثقل الدخان رأسي، أخذني النوم والسّطل للمكان الذي أخافه ورأيت نفسي أجلس في مدرّج رومانيّ ضخم بجوار الإمبراطور نيرون وهو يحتضنني ويضحك تارة ويغني أخرى ويسألني عن أحوالي، ينعتني بصديقه، ويقدمني لسيناتورات ملتحفين حوله. وبدا لي أنّ كلّ ذلك حقيقي، وأنني صديق لنيرون، وشربت معه نبيذًا كان معدًّا لنا خصيصًا، أحمرًا برّاقًا كالدم. ثمّ قال أنه قد جهّز لي عرضًا خاصًا، وأشار بيده ففتحت أبواب من جانبين، خرج من أحدها ابن الجزار وهو يرتدي زيّ مصارعٍ رومانيّ ومعه سيف ودرع وخرج من الأخرى ذئبان.
نظر لي ابن الجزار نظرة من يعرف أننا يجب أن نلتقي بعد أن ينتهي كلّ هذا الهراء، ابتسمت وأكملت حديثًا مع الإمبراطور الذي خرج من كتب التاريخ ليكون صديقًا لي في مدرج روماني أشاهد في ساحته صراع صديق عمري مع ذئاب الإمبراطور. خاض ابن الجزار قتالًا شرسًا، هزم في نهايته وأنشب الذئبين أنيابهما في لحمه، سال دمه وأنا سالت دموعي وأحطت رقبتي بيدي.
هتف الإمبراطور قائلًا “يا دبايحك يا زمن” بصوت عالٍ جدًا.
صرخت وأيقظت صرختي الجزار الذي بات عجوزًا.
قلت “كابوس” ولم أحكِ شيئًا، تجنّبت الحديث عن الابن ولم أتفوّه باسمه حتى، ونحن نتناول إفطارنا ذكّرته بحادثة قتل الخروف وكيف كرهته وخفت منه وقتها. كان العجوز ينظر لي بعيونٍ من فرط لمعانها حسبتها تحوّرت لزجاج. أغمضهما، وقال إنه يذكر شكل يديّ وهما يحيطان برقبتي خوفًا، بينما كان المرحوم يساعده في شقّ بطن الذبيحة. أغمض عينيه وهتف قائلاً “يا دبايحك يا زمن”، وانخرط في وصلة بكاء ترجرج معها الجسد الخفيف حتى أسند جبهته لعكّازه الذي لزمه من يوم الجنازة.
أبي عاد من الخليج وعلم بالحادث ورآني ملازمًا جانب الأب الجزار، غير مكترثٍ لعودته بعد غيبة، ضجر وبرم ونبّه أمي للتكلم معي. قلت “له أولاد هناك في البلد التي عاد منها يستحقون الخوف عليهم أكثر مني”، وقلت لأمي”الحقّ أن تسخطي أنت عليه، لا هو علينا”. تركتُها وصعدت للرجل الذي أرى الموت واقفًا على عتبته في كل مرة أدخل فيها وأرى أنّ هناك احتمالاً لشهود نهاية الرجل فأحسب ذلك تعويضًا للمرحوم عن غيابي وأفقد السيطرة فأبكي.
3
عاد العيد، لو أنّني شاعر كنت سأكتب بيتًا يشبه “بأيّ حال عدت يا عيد”، لكنني للأسف لم أحظَ بدرجة الجنون التي تمكّنني من مخاطبة يوم عاديّ نتخذه علامة في جثّة الزمن، تشير مواعيد ظهورها أننا نكبر وهذا كل ما نستطيعه.
بعد التكبير والتسليم، بعد صلاة العيد، بعد أن أتمّت الشمس رقصة الصباح، أعطاني شاب كيسًا به بسكويت وملبس، لم يكن أبي بجواري لأقرّر، آخذها أم لا.
عدت للمنزل، صعدتُ لبيت الرجل الذي ذبح خروفي في يومٍ مثل هذا وأنا أمسك ألبومًا للصور. أريته الصورة التي التقطوها لي في يوم مجزرة الخروف، كنت أرتدي جلابية وعباءة وأمسك في يدي لاي النارجيلة.
قلت له ” فاتت خمسة عشرة سنة ”
قال “تزوّج”
وأمسكني من الياقة بقوة ورجاني ويده ترتجف. قال، “المرحوم لم يكن له صبر على الزواج”
قلت “المرحوم كان يحب النساء والأطفال والأفراح الشعبية”
ردّ عليّ الجزار العجوز وهو يقاوم دموعه وتنهيداته “المرحوم كان يحبك ويعدّك أخوه”
أخذت الألبوم وتركت للرجل صورتي وأنا أدخّن النارجيلة بعد طلبه.
نزلت للبيت وأنا أعرف أن هذا هو أخر يوم له، رأيت الموت الواقف على عتبة البيت من يوم وفاة المرحوم يبتسم لي ويدخل.
في اليوم التالي شيّعت جنازته، عرفت أنه وصّى لي بالمحلّ شرط الاحتفاظ بنشاطه.
بعد انتهاء أيام الحداد الثلاثة قطعت أول فخد من أول عجل يذبح بعد وفاة الأب الجزار. هويت على الفخذ وأنا أهتف “يا دبايحك يا زمن”.