الحرب الإسرائيلية على فلسطين: ماذا بعد؟ -حوار مع نعوم تشومسكي- (مترجم) | جهاد الجمل

(أجرت هذا الحوار مؤسسة أرشيف الاحتلال الإسرائيلي IOA في 26/7/2010).


يتطرَّق《نعوم تشومسكي-Naom Chomsky》في هذا الحوار المعنيّ بأرشيف الاحتلال الإسرائيلي لأحداث الشرق الأوسط وللدوافع الهيكلية وراء دعم الولايات المتحدة الأمريكية للسياسات الإسرائيلية وجدوى استراتيجيات المقاطعة.

المحاور: تقرير غولدستون واغتيال عميل الموساد في أبو ظبي و الهجوم على أسطول الحرية في غزة، كلُّ هذه الأسباب أضعفت سمعةَ إسرائيل الدولية بشدّة في أوروبا وتركيا ومصر. كيف تجاوزت العلاقة الأمريكية الإسرائيلية كلَّ هذه العقبات؟ وكيف أثّر ذلك على المشروع الاستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط وصولاته في العراق وأفغانستان؟

تشومسكي: بغضّ النظر عن تقرير غولدستون، أودّ إضافةَ الهجومِ على غزة كسببٍ في حدِّ ذاته. كان الهجوم وحشيًّا لدرجة أنه قد أحدَث تغييرًا جذريًا في اتجاهات عامّة الشعب، إلا أنّ هذا التغيير لم يكن ملموسًا في أوساط النخبة السياسية أو الإعلام، العلاقاتُ الحكومية لم يطرأ عليها أيُّ تغيير، ولا لم يكن من المتوقع حدوثه! دعمت واشنطن الهجومَ على غزة بكل ما أُوتيت من قوّة وتورطت به مباشرة، وقد جرى اختيار توقيت الحادث بدقّة بحيث يستطيع أوباما التمسكَ برأيه المُنافق بأنّه ” لا يوجد سوى رئيس واحد، لذا سأمتنع عن التعليق“. لقد انتهى كلُّ شيء بمجرد توليّه السلطة، وهذه النهاية هي جزءٌ من الخطة بلا شك، حتى يتسّنى له تبنيّ الرأيَ القائل: ”فلنمضِ قٌدمًا ودعنا من الالتفات للماضي“ بشكلٍ يُقنع شركائه في الجريمة.

على حدِّ علمي، تهرَّب الإعلام والمعلّقون على الأحداث بالإجماع من الحقيقة التي ترتكز عليها الحرب: لا تكمن الأزمة فيما إذا كان لإسرائيل الحقُّ في حماية نفسها من الصواريخ، بل هل لها الحقُّ في فعل ذلك باستخدام القوة؟ بالطبع لم يجرِ الأمر بهذا الشكل، لأن كلًا من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تعلمان أنَّ الطرقَ السلمية كانت متاحةً ولكنّهم رفضوا اتباعها: رفضوا قبول عرض حماس لتجديد الهدنة- والذي التزمت به حماس على الرغم من أنّ إسرائيل لم تنفذ إلا جزءًا منه- وذلك يكفي ليُقرّ إجرامية الهجوم، فعدم التكافؤ في استخدام القوةّ لا يُعدُّ إلا جريمةً طفيفة بالمقارنة. ولم يكن للأحداث الأخرى التي ذكرتها إلا تأثيرًا طفيفًا على الولايات المتحدة باستثناء حالة واحدة: حيث تنتاب الجيشَ والمخابرات الأمريكيان الآن بعضُ المخاوف بأن يؤول دعم الجرائم والمواقف المتعنتة الإسرائيلية إلى الإضرار بالعمليات العسكرية في الميدان. تراجع الجنرال ديفيد بترايوس فورًا عن آرائه المتعلقة بهذا التخوّف، لكن الآخرين لا يزالون يعبؤون بذلك ومن بينهم بروس رايدل – وهو مسؤولٌ استخباراتي رفيع ذو نفوذ وباعٍ طويل ومستشارٌ رئاسي. تعي المخابرات الإسرائيلية هذه المسألة جيدًا، فقد حذّر رئيس جهاز الموساد مائير داغان الكنيست الإسرائيلي من أن يدفعهم هذا السبب إلى مخاطرة غير محسوبة، وربما يكون لذلك دلالة سياسية هامة.

إعلان

المحاور: أعلنت إدارة أوباما إطلاق مبادرة لتحقيق السلام في الشرق الأوسط بعد خطابه الرئاسيّ في شهر يونيو من عام 2009 في القاهرة. كيف تقيّم هذه المبادرة وما هي النوايا الحقيقية وراء إطلاقها وإلى ماذا تؤول؟ وفي أي من جوانبها سوف تختلف عن سياسات الإدارة الأمريكية السابقة؟

تشومسكي: أكد أوباما بصورة أساسية على شروط خارطة الطريق والتي تمنع توسّع المستوطنات الإسرائيلية- مع غمزة مخادعة – حيث أبلغ المتحدثُ الرسمي باسمه الصحافةَ بأنَّ مطالبه كانت ”رمزيةً“ بحتة وأنّه على العكس من بوش الأول لن يُوقع العقوبات في حال رفضت إسرائيلُ المطالب، لأنها بالطبع قد فعلت ذلك بطريقة ما علنيةً كانت أو ملتوية. يُعدُّ جورج ميتشل خيارًا مناسبًا لتولّي المفاوضات، لكن عند ترشيحه كان أوباما قد أوضح عدم جديّته في إجراء تسوية سياسية مُجدية مما جعل أيدي ميتشل مكبّلة، و لقد كتبتُ عن هذا الموضوع ذات مرة، ولن أعيد تناوله.

المحاور: تُبقي الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية على التزامها بمبادرة الجامعة العربية للسلام. هل تتماشى التسوية بهذه البنود – حلّ الدولتين وفقًا للحدود المُقررة في 1967- مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة؟ إن كانت الإجابة نعم، ما الذي يمنع الولايات المتحدة الأمريكية من ممارسة الضغط الفعليّ على إسرائيل وليس فقط عَقد محادثات السلام؟

تشومسكي: تُعيد المبادرة العربية التأكيد على الإجماع الدوليّ الراسخ وتتجاوز ذلك إلى ما هو أبعد مُطالبةً أيضًا بتطبيع العلاقات. جرى قبول ذلك من دول العالم أجمع تقريبًا بما فيها إيران. هل يتماشى ذلك مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية؟ يعتمد ذلك على المنظور الذي نرى من خلاله جملة ”المصالح الأمريكية“، يُفضَّل أن نضع في اعتبارنا أنّ تعريف مصطلح ”المصلحة القومية“ يُعدُّ غامضًا بعض الشيء. هناك بعض المصالح المشتركة بين الشعوب: ألا تُدمرهم الأسلحة النووية على سبيل المثال، لكنّ المصالح تختلف بشدة في القضايا الكبرى، فمصالح الرئيس التنفيذي تختلف عن مصالح السيّدة التي تُنظِّف مكتبه، وتختلف مصالح شريحة كبيرة من الصهاينة المسيحيين أو مناصري لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية الأمريكية AIPAC اختلافًا كبيرًا عن مصالحي ومصالحك.

و من المفترض ألاّ يكون التحكم الهائل لروّاد الاقتصاد المحلي في ”المصلحة القومية“ التنفيذية محلّ إثارة للجدل، فهي ملاحظة قديمة قِدم آدم سميث وجرى التأكيد عليها جليًّا منذ ذلك الحين. لقد كانوا راضيين تمامًا عن رفض الولايات المتحدة الأمريكية. كانت ”وول ستريت“ هي الجريدة الأكثر اتقادًا بالحماس للدفاع عن إسرائيل بين وسائل الإعلام، وهي الجريدة المُمثِّلة لعالم الأعمال التجارية. وعلى الرغم من أن اليهود غالبًا ما يصوِّتون للديمقراطيين ويموّلونهم، إلا أنّ الحزب الجمهوري يُعدُّ أكثر تطرفًا من الديموقراطيين في دعم العمليات الإسرائيلية بل وأقرب لمجتمع رجال الأعمال.

تحظى شركات التكنولوجيا الحديثة بروابط وثيقة مع نظرائها الإسرائيليين ولا زالت حركة الاستثمار باقية. فإسرائيل تُعدّ منجمًا ثريًا للصناعات العسكرية: إنها تبيع الأسلحة لإسرائيل (هدية دافعي الضرائب الأمريكيين) مما يدفع المملكة العربية السعودية وإمارات الخليج لشراء سَيلٍ من الأسلحة الأقل تطورًا لدعم إعادة تدوير عائدات النفط والمساهمة في الأرباح. تعود هذه العلاقات الوثيقة إلى الخمسينات، ولا يبدو أن هنالك أيّة قوّة محليّة تضغط على واشنطن لمجاراة الموقف العالميّ بخصوص تلك القضيّة. يُمكن للحراك الشعبي أن يُحدث الفارق، لكنّ معطيات الوقت الحاضر تُشير إلى كَون هذا الحراك أضعفَ وأكثر تفككًا من أن يتمكن من تحقيق التوازن، وتكمُن مهمتنا الأساسية في تغيير ذلك.

المحاور: تُشير أحدث الشائعات بشأن محاولات نتانياهو خداع الولايات المتحدة الأمريكية وعرقلة ”عملية السلام“ الناتجة عن أوسلو إلى التزامه بإيقاف ”عملية السلام“ لا إلى ” قلة التزامه في تحقيقها“. إلى أي مدى يُمكن لإسرائيل أن تحارب مواقف الولايات المتحدة الأمريكية المُعلَنة على الملأ قبل أن تُعلن إدارة أوباما عن استيائها واتخاذها بعض الإجراءات التزامًا بموقفها؟ هل تعتقد أن واشنطن ترغب أو تجرؤ على منع الجهود الإسرائيلية المبذولة لإيقاف ”عملية السلام“؟

تشومسكي: لم تُظهر واشنطن حتى الآن أية علامة تدلّ على نيّة أو جهد ملموس لتغيير موقفها.

المحاور: دفع استمرار برنامج نتنياهو الاستيطاني السلّطةَ الفلسطينية إلى تعليق المفاوضات مع إسرائيل. الفلسطينيون الآن في مأزق: فتنازلهم عن الإيقاف الكليّ لبناء المستوطنات يعني انخراطهم في المفاوضات في الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل بتدمير مستقبلهم، في حين أن رفض المفاوضات يسمح لإسرائيل بمواصلة تقويض مستقبلهم. في ظلّ تعنّت نتنياهو، كيف سيتسنّى لأية سلطة فلسطينية حالية أو مستقبلية إنقاذ نفسها من هذا المأزق؟ وكيف يمكن للحِراك الشعبي الفلسطيني دفع القيادة إلى اتخاذ الموقف الصحيح؟

تشومسكي: مما لا شك فيه أنّ إسرائيل وحلفاءها الأمريكيين يفضّلون شلّ حركة السلطة الفلسطينية وإغراقها في مفاوضات لا تنتهي بينما تواصل الصهيونية الأعمال الاستيطانية المعتادة منذ قرن من الزمان. لكنّ السلطة الفلسطينية لا زالت تمتلك بعض الحلول المقنعة لهم بشكل ما، ومن بين الحلول: مقاطعة المستوطنات وإقامة التظاهرات السلمية في بلعين والشيخ جراح وكل مكان، والبناء والتطوير في المنطقة C (وهي المنطقة الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية)، وإعادة بناء ما تدمّره إسرائيل بهدف مواجهة المخطط الأمريكي الإسرائيلي المُتّبَع منذ اتفاقية أوسلو لفصل الضفة الغربية عن غزّة وإيجاد الحلول لإجراء المصالحة بين الفصائل المتنازعة وتصعيد القضية عالميًا بقوّة خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تلعب دورًا حاسمًا في تشكيل مستقبلهم القريب.

تدفعنا هذه الجهود الأخيرة إلى حقيقة هامّة يجب أن يُسلِّم بها البعض منّا في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أننا لا نملك الحقّ ولسنا جديرين بمسؤولية تقديم النصائح للقيادة الفلسطينية عمّا يجب أن تفعله، فهذه المسألة تقع على عاتق الفلسطينيين وحدهم، بينما يقع على عاتقنا صبّ اهتمامنا على ما نستطيع أن نفعله. من المهمِّ للغاية أن نُثقّف الشعب الأمريكي ونُنظِّم صفوفه لننمّي جهود القوى الشعبية في مواجهة الدعاية المهيمنة الداعمة للسياسات الأمريكية والإضرار بالحقوق الفلسطينية، وهنا تتعدد المهام، وما ذكرته من أمثلة موجزة هي توضيح لذلك. يقتصر الوعي العام بهذه القضايا على أوساطٍ محدودة للغاية، حتى أن المبدأ العبثيّ القائل بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية تقوم بدور ”الوسيط الأمين“ ساعية بشدّة لمصالحة خصمين متعنتين يُكَرَّر على الآذان يوميًا دون وجود أي تحدٍّ حقيقي. لذلك رحبّت الولايات المتحدة بإجراء ”محادثات غير مباشرة“ بين نتنياهو وعباس، وانطلاقًا من أساطير مذهبية، يجب أن تجري بعض الكيانات المحايدة محادثات غير مباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية والعالم حول الحقائق الأولية الأقرب إلى الغموض في الولايات المتحدة الأمريكية وغالبية دول الغرب، كما هو الحال بالنسبة لقضايا معينة. إن اتخذنا من احتلال غزّة مثالاً على ذلك، فمن المفهوم ضمنياً أنّ هذا الاحتلال أمريكيّ إسرائيليّ. علاوة على ذلك، لا يوجد اعتراف فعليّ بحقيقة هامّة للغاية، ألا وهي أن لبّ المسألة لا يكمُن في نظرية عدم التكافؤ أو جرائم مُعينة ارتُكبت خلال العمليات العسكرية، بل تكمُن في المقام الأول في حقّ استخدام القوة والذي كان في الحقيقة منعدمًا كما ذكرت. وإلى جانب المسألة الأساسية، أَعطت جميع البيانات تقريبًا وحتى التحقيقات المتعلقة بحقوق الإنسان ”صكّ براءة“ للحِلف الأمريكي الإسرائيلي حاصرةً الانتقادات في مسائل هامشية للغاية بالنسبة للجريمة الكبرى، فالحركات المناصرة لفلسطين قد فشلت فشلًا ذريعًا حين تركت تلك الأفكار المغلوطة تترسخ على أرض الواقع.

يتعيّن علينا معالجة العديد من المهامِّ التعليمية والتنظيمية المتعلقة بهذا الشأن وغيره من الشؤون بجديّة لتوجيه السياسات الأمريكية لاتخاذ خطوات عملية تركّز على أهداف قصيرة المدى: إنهاء الحصار الوحشيّ الإجرامي على غزّة وهدم ” الجدار العازل“ غير القانونيّ والذي يضمّ الأراضي بحكم الأمر الواقع حاليًا، وانسحاب القوات الإسرائيلية من مرتفعات الجولان المُستولى عليها بشكل غير قانوني ومن الضفة الغربية (بما يشمل القدس الكبرى) والذي ربما يتبعه إخلاء أغلب المستوطنات، كل تلك التي في القدسَ الشرقية وامتدادها (والتي تم نقلها بصورة غير قانونية وقد دُعم ذلك النقل بشكل كبير) كما اعترفت اسرائيل منذ 1967، وإيقاف كل أعمال البناء الإسرائيلية وغيرها من الإجراءات التي تجري في المناطق المحتلة. يجب أن يعمل الحراك الشعبيّ في أمريكا على إيقاف أي تورط أمريكيّ في تلك الأعمال الإجرامية والذي من شأنه إيقاف تلك الجرائم بصورة فعلية. يُمكننا النجاح في ذلك فقط إن ارتفع مستوى الوعي العام مقارنةً بما هو عليه اليوم، ولا تُعد تلك المُهمة هي الأكثر تعقيدًا بالنسبة لما واجهه الحراك الشعبيّ بشيء من النجاح في الماضي. في الحقيقة، إنها تُعد بمثابة إصرار على التزامنا بالتصرف وفقًا للقوانين المحلية والدولية، وأنّنا نتبنى ثقافة ”الاحترام اللائق لآراء البشر“ الذي جرت المُطالبة به في إعلان الاستقلال. لا يرقى ذلك لأن يكون موقفًا راديكاليًا أو ضمن تلك المواقف التي يصعُب مواجهة العامة بها دون عناء. لا يُجدي ذلك سوى باستنزاف القوةّ التي يجب تسخيرها للمسائل التي يجب أن تشغلنا بأي حال من الأحوال، والتي تشمل الظروف البائسة التي يعيشها اللاجئون خارج فلسطين خاصة في لبنان. أصبحت محاولة التخفيف من حدٍّة هذه الظروف مهمّةً عاجلة على الرغم من قلّة حيلتنا بصدد هذه الحالة، فلدينا ما يكفي من المهام العاجلة لننشغل بحلّها.

المحاور: فضلًا عن الحراك داخل الولايات المتحدة، كيف ترى الأساليب التي يتبعها مناهضو الاحتلال عالميًا؟ ما هو موقفك من أنشطة حركة مقاطعة إسرائيل BDS بأشكالها المختلفة؟ فقد تأثر موقفك من تلك الحركة في بعض الأوقات بسبب النشطاء المناهضين للاحتلال. هل تغيّر موقفك منهم بمرور الوقت؟ وهل من الأنسب إقامة نشاطات الحركة في أوروبا بدلًا من الولايات المتحدة الأمريكية؟ وما هي الاستراتيجيات والأساليب التي تعتقد أنّ على مناهضي الاحتلال التركيز عليها؟

تشومسكي: أعتقد أنّني قد ألممتُ بأكثر المهام أهمية في حديثي الآني خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أوروبا أيضًا حيثُ الشائعات المُنتشرة وواسعة النطاق. هناك العديد من الاستراتيجيات والأساليب المعروفة التي يُمكن اتباعها لملاحقة هذه الأهداف المصيرية، ويمكن استكمالها بأشكال متنوعة من العمل المباشر مثل ما يُعرف الآن بحركة مقاطعة إسرائيل ”BDS“، والتي لا تُعد إلا غيضًا من فيض الخيارات التكتيكية. فقط على سبيل الذكر، يُمكن أن تُجدي إقامة المظاهرات عند مقار الشركات نفعًا ولا سيّما إن جرى تنسيقها في العديد من الدول، كما أنّ هناك العديد من الخيارات التي اكتسبناها من أعوام طويلة من النضال.

وبالنسبة لحركة مقاطعة إسرائيل فلم يتغير رأيي بها منذُ انخرطت بهذا النشاط بقوّة قبل أن تتبلور جهود الحركة، ولم أكُن مُلمًّا بالتحديات التي يواجهونها باستثناء الخصومة التي لم يكن هناك مفرّ منها في مسائل محددة مشوبة بالغموض. حركة مقاطعة إسرائيل هي واحدة من وسائل عديدة وليست عقيدة إيمانية، وإنّ حالها كحال بقية الوسائل التي يجب أن تُقيّم الإجراءات المحددة المتعلقة بها وفق معايير معروفة، والأهمّ بين تلك المعايير هي النتائج المحتمل وقوعها على الضحايا. ولعل أولئك الذين تورطوا بعمق في الحرب ضد الهند الصينية يتذكرون كيف كان الفيتناميون معارضون لأساليب منظمة ”Weathermen“ والتي كانت مفهومة في ظلّ الجرائم الفظيعة لكنها كانت خاطئة حقًا، وكان من المتوقع أن ذلك من شأنه أن ينمّي دعم عنف الدولة. دعا الفيتناميون إلى تبنّي الأساليب السلمية التي من شأنها توعية الرأي العام وتعزيز المعارضة الشعبية للحروب، ولم يعبؤوا ما إن كانت أفعالهم تروق للمعارضين أم لا. ظهرت العديد من القضايا المشابهة في حالة حركة مقاطعة إسرائيل أيضًا، اتُخذت إجراءات بناءة للغاية سواءً بهدف توعية العامة هنا – وهي أولوية قصوى دائمًا- أو رفع تكلفة التورّط في الجرائم الحالية، وتُعتبر مقاطعة منتجات المستوطنات والشركات الأمريكية الداعمة للاحتلال ضمن الأمثلة المُجدية. مثل هذه الأنشطة من شأنها أن تفرض أثمانًا وتُسهم في توعية العامة هنا من خلال التأكيد على ما يجب أن يكون شُغلنا الشاغل: وهو دورنا الحاسم في التصدي لهذه الجرائم والذي نأمل أن يكون مؤثرًا. وسيكون من المنطقي أن نتخذ خطوات أبعد: على سبيل المثال، أنّ نضم صوتنا إلى مناشدات منظمة العدل الدولية لإيقاف الدعم العسكري لإسرائيل والذي ينتهك القانون الدولي والتزامات منظمة العفو الدولية والقوانين المحلية أيضًا. مع الأسف، صبّت بعض المبادرات التي تساهلنا في صياغتها مباشرةً في مصلحة المتشددين الذين رحبّوا بها بالطبع. من السهل أن نفنّد بعض الأمثلة، فعلينا على الأقل أن نستفيد من الخبرات الحافلة، فضلًا عن استيعاب دواعي التجارب المختلفة.

في بعض الأحيان لا يكون تقييم الخيارات التكتيكية دقيقًا باعتبارها ”مفتقرةً إلى المبدأ“، وهذا خطأ جسيم من شأنه أن يصبح هدية أخرى لمناصري العنف والقهر المتشددين، فالخيارات التكتيكيّة تقود للعواقب الإنسانية. غالبًا ما يكون تقييم الخيارات مهمة شاقّة، وقد تتفاوت أحكام العقلاء من الناس على قضايا بعينِها، لكن لا ينبغي أن يصبح مبدأ انتقاء الخيارات التكتيكية المناصرة للضحايا والمُتصدية للمعتدين عليهم مسألةً خلافية بين المعنيين بدعم الفلسطينيين. ولا ينبغي أيضًا أن يصير الاختلاف في قضايا بعينها عائقًا أمام الاتحاد لتحقيق الغاية المشتركة ألا وهي مساعدة الضحايا، كما ينبغي تجنب التوجهات التخريبية التي أحيانًا ما تظهر في الحركات الشعبية محاولةً فرض اتجاه حزبيّ على الجميع الالتزام به. وقد حذّر نورمان فينكلشتاين مؤخرًا من أنّ حركة مقاطعة إسرائيل تأخذ في اكتساب نزعة مقدّسة وهي أحد الاتجاهات المقوّضة للحركات الشعبية، مما يجعل تحذيراته في محلّها.

يجب أنّ تختلف الأولويات التكتيكية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية بشكل ما نظرًا لأدوارها المتباينة، فالموقف الأمريكي يُمثلُّ عاملًا حاسمًا في تنفيذ السياسات الإسرائيلية، ولذلك يجب أن تهدف هذه التكتيكات إلى إبراز الدور الأمريكي الذي يأمل النشطاء أن يترك أثرًا بالغ الفاعلية. بينما يجب أن تُوجه التكتيكات في أوروبا إلى ما يجب أن يدركه الأوروبيون ومساحة تأثيرهم المباشرة: أي دورهم في إطالة أمد الجرائم المُرتكبة بحقّ الفلسطينيين.

المحاور: في النهاية، ما هي الاحتمالات التي تنتظر الفلسطينيين القابعين تحت الاحتلال في الضفّة الغربية وتحت الحصار في غزّة؟

تشومسكي: وعلى غرار ما ذكرتُ سابقًا، يجب على جيش الاحتلال الإسرائيلي إخلاء المناطق المحتلَّة وإنهاء الحصار على غزّة ومحاولاتِ فصلِها عن الضفّة الغربية.. إلخ. قد يؤدي ذلك إلى بعض التغييرات في الإجماع الدولي على حلّ الدولتين، ربما وفقًا لما توصلت إليه مفاوضات طابا التي عُقدت في يناير 2001 (والتي ألغتها إسرائيل مبكرًا وهي مسألة خطيرة تتجاهلها حملات الدعاية هنا) أو وفق اتفاق جنيف الذي جرى تقديمه في ديسمبر 2003 الذي رحّبت به غالبية دول العالم ورفضته إسرائيل، بينما تجاهلته واشنطن.

تجري العديد من النقاشات حول أنّ الحلّ الذي سيُطرح غالبًا بدلًا من حلّ الدولتين هو :”تسليم مفاتيح“ المنطقة إلى إسرائيل، ثم خوض حرب للدفاع عن الحقوق المدنية و مناهضة الفصل العنصري داخل فلسطين بأكملها. لكن ليس هنالك ما يدفعنا لافتراض أنّ الحلف الأمريكي الإسرائيلي سيقبل هذه المفاتيح، وذلك لأنهم يملكون بديلًا آخر لن يورّطهم في ”مشكلة ديموغرافية“: وهو استمرار المشروع الإسرائيلي المدعوم أمريكيًا للسيطرة على ثروات المناطق المحتلة تاركين الفلسطينيين في مقاطعات غير قابلة للحياة بينما تقع جزيرة مليئة بالرفاهية النخبوية في رام الله اعتمادًا على خطة شارون (خطة التقارب التي اقترحها أولمرت عام 2006 بصورة أساسية) والنصيحة التي أسداها أرباب الصناعة الإسرائيليون منذ أعوام طويلة بالتحوّل من السياسة الاستعمارية إلى الاستعمارية الجديدة. الأُطر الأساسية معروفة، وقد سيطرت إسرائيل على أكثر من 40% من الضفة الغربية عازلةً إياها عن غزّة باستخدام الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي والأيديولوجي الحاسم على الدوام.


مصدر الترجمة: 

Israel’s War against Palestine — Now What?, interviewed by Israeli Occupation Archive (chomsky.info)

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: ريم

ترجمة: جهاد الجمل

اترك تعليقا