ابن سينا: أعظم مفكري العصر الذهبي الإسلامي (مترجم)
في هذا المقال نستكشف معًا كثيرًا من تجارب «ابن سينا-In Sina»، العَالِم الشَّهير في العصور الوسطى الذي عاش خلال العصر الذهبي الإسلامي.
يُعَدّ ابن سينا، المعروف في الغرب بـ “Avicenna” وفقًا للترجمة العبرية لاسمه، واحدًا من أكثر المفكرين تأثيرًا في العصر الذهبي الإسلامي. وفي هذا المقال نستعرض سيرته، بدءًا من نسبه، مرورًا بتعليمه ومساعيه السياسية، حتى وفاته.
وُلِد ابن سينا في أغسطس من العام 980 ميلاديًا، وتأتي كل معلوماتنا عن طفولته ومراهقته من سيرته الذاتية التي أملاها على أحد تلاميذه، وهي التي ستكون إحدى المصادر الرئيسة للمناقشات كافة حول حياة ابن سينا، على الرغم من أنها لا تتمتع بالموثوقية الكافية، نظرًا لكونها تحتوي فقط على الأوصاف التي كان ابن سينا يرغب في أن توصف بها حياته.
نشأة ابن سينا الكوزموبوليتانية “العالمية”:
وُلِد ابن سينا في قرية كبيرة بالقرب من “بخارى-Bukhara”، التي تُعرَف باسم “خارميثان-Kharmaithan”، والتي تعني “أرض الشمس”. وقد جاء والده أساسًا من “بلخ-Balkh”، التي لُقِّبَت في الأدب الفارسي في العصور الوسطى ب”المتألقة”، كما كانت تُعرَف لدى اليونانيين ب”بكترا-Bactra”، وشكَّلَت مركزًا للحضارة الهللينية في بلاد فارس عبر الكثير من العصور القديمة. وبعد فترة من الاضمحلال، جُدِّدَت كمركز عالمي رئيس متعدد الثقافات “كوزموبوليتاني” خلال فترة حكم السلالات السامانية والغزنوية. ويرى “سهيل. م. أفنان-Soheil M. Afnan” أن بلخ كانت مكانًا كوزموبوليتانيا غير عادي، حيث: «التقت الزرادشتية والبوذية والمانوية والمسيحية النسطورية، وأخيرًا الإسلام. هنا المكان الذي يضم “نوباهار-Nowbahar”، الدير البوذي الشهير الذي كان بمكانة مزارٍ للحُجَّاج القادمين من الصين البعيدة، وعلى رأسهم “بارمك-Barmak”، جد الوزير الأقوى والأكثر قدرة واستنارة في بلاط الخلفاء في بغداد».
وكانت المدن المجاورة لبلخ؛ مثل: بخارى، تحمل أسماء مقابلة للصينية، وكان بها دير بوذي كبير جنبًا إلى جنب مع مدرسة إسلامية كبرى.
أصول ابن سينا:
لا تزال الأصول التي ينحدر منها ابن سينا ملتبسة. فمن ناحية الأم، تحمل والدته اسمًا فارسيًا لا خلاف عليه، “سيتارة-Setareh”، وجاءت من موضع قريب. أما من ناحية الأب، فهناك كثير من الترجيحات، منها أن والده كان فارسيًّا، أو تركيًّا، أو عربيًّا، أو صينيًّا، أو ربما كان مزيجًا من تلك الأعراق.
وأيًّا كانت أصول ابن سينا، فقد كان والده رجلًا نافذًا -من المرجَّح أنه انتقل من بخارى إلى خارميثان القريبة لتولي منصب الحاكم المحلي- لكن في الوقت ذاته كانت له آراء متطرفة؛ إذ يخبرنا ابن سينا بأن:
«كان والدي واحدًا من هؤلاء الذين لبوا دعوة المصريين (الفاطميين) وانخرط في الطائفة الإسماعيلية». تلك الطائفة الإسماعيلية هي طائفة باطنية لا يعترف بها حكَّام بلاد فارس ضمن الطوائف الإيمانية الأصولية. علاوة على ذلك، عُرِفَ عن والده وشقيقه دراساتهما لحقول المعرفة الأخرى؛ مثل: علم الحساب الهندي، والهندسة، والفلسفة، ومع ذلك لم يؤكد ابن سينا أو ينفي مشاركته لهما في ذلك، لكن المؤكد أنه كان حريصًا على النأي بنفسه عن آراء والده الدينية.
التعليم الذي تلقاه ابن سينا:
يبدو أن التعليم الذي تلقاه ابن سينا، في المراحل المبكرة على الأقل، كان انتقائيًّا. فمن بين ما اشتُهِر به ابن سينا وفقًا لما ورد في سيرته، أنه تمكَّن من قراءة وحفظ القرآن بأكمله في سن العاشرة. ولكن من غير المعروف إذا كان ذكر ذلك لتدوين هذه المعلومة عن نفسه فقط، أم أنه استخدمها لتأكيد التزامه بالإسلام.
على أية حال، يبدو أنه أيضًا تعلَّم بعضًا من علم الرياضيات الهندية من أحد البقالين، بينما استقى حججه الدينية من عابد ناسك كبير في السن، أما فلسفته فقد تلقاها عن المعلم الشهير “ناتلي – Nateli». كذلك فقد قرأ لمجموعة واسعة من الترجمات العربية لعديد من المؤلفين اليونانيين، من بينهم: “أرسطوطاليس – Aristotle، وأفلاطون -Plato، وإقليدس – Euclid”. وقد قرأ للفيلسوفين الأول والثاني مستعينًا بالشروح لفلسفتهما، ويبدو أن تلك الشروح كانت بمكانة مصدر للجوانب الفلسفية “ما بعد الأرسطية-Post Aristotelian “، و”الرواقية – Stoic “في فكره. وفي عمر السادسة عشرة فصاعدًا، صار ابن سينا مهووسًا بالمنطق.
ومن بين الحكايات المثيرة للاهتمام، يقول ابن سينا إنه حينما كانت تصادفه مشكلة أو قضية فكرية يستعصي عليه حلها، كان يلجأ إلى الصلاة في المسجد إلى أن يتمكن عقله من الوصول إلى حل لها، أما في حال أصابه ضعفًا بدنيًّا، كان يلجأ إلى شرب كأس من النبيذ حتى يستعيد قواه.
أرسطوطاليس والفارابي:
يقول ابن سينا إنه حين عكف على قراءة “ميتافيزيقا-Metaphysics” -ما بعد الطبيعة- لأرسطوطاليس وجدها مستعصية على الفهم، على الرغم من أنه قرأها نحو أربعين مرة -كما يزعم- إلى أن اشترى مجلدًا من أحد باعة الكتب ليجد أنه تعليقات “الفارابي-Farabi” على نَص أرسطوطاليس، وعندها فقط أصبح المغزى من الأفكار التي عرضها الفيلسوف اليوناني في عمله واضحًا له.
في هذه الفترة كان ابن سينا عاكفًا على دراسة الطب، وحدث أن تعرض الأمير الحاكم في بخارى “نوح بن منصور-Nuh Ibn Mansur” لوعكة صحية؛ واستُدعِيَ ابن سينا لعلاجه، ونجح في مهمته بالفعل، وهو ما مكَّنه من الوصول إلى المكتبة السامانية الشهيرة في بخارى، ويصف ابن سينا ما رآه في تلك المكتبة قائلًا:
«رأيتُ كتبًا لا تزال أسماؤها غير معروفة للعديد من الأعمال التي لم أرها من قبل ولا من بعد. وقد قرأتُ تلك الكتب ودونتُ ملاحظات عن محتوياتها.»
وكانت هذه السلالة الحاكمة مشهورة بالفعل بحبها الكبير للأدب وتبجيلها للتعلم. ولكن لم تمر فترة طويلة منذ زيارة ابن سينا للمكتبة السامانية حتى اندلع فيها حريق عارم أتى على ما فيها، و انبرى أعداء ابن سينا يتهمونه بأنه هو من أحرقها كي يحتفظ بما تعلمه فيها واكتسبه من معارفها لنفسه.
من بخارى إلى جورجان- والمنفى:
انتقل ابن سينا بعد ذلك من بخارى إلى “جورجان-Gurganj”، وأرجع السبب وراء ذلك الانتقال إلى وفاة أبيه. أما إذا كان السبب الحقيقي هو الحاجة إلى كسب العيش، فإن هذا لا يستدعي تغيير الراعي من أمير بخارى إلى سلطان جورجان. ومع ذلك، فقد كانت هذه الأوقات مضطربة؛ إذ كانت قوة الأتراك في تصاعد عبر بلاد فارس، وكانت لديهم شكوك بصدد كل من يحملون معتقدات إسماعيلية أو تربطهم صلة بأصحاب تلك المعتقدات.
وعلى الرغم من الترحيب الكبير الذي قوبل به ابن سينا لدى وصوله إلى جورجان، فإن حياته هناك لم تكن سهلة؛ فقد كان السلطان آنذاك، ويدعى “محمود”، معروفًا بصرامته الدينية، مما اضطر ابن سينا في نهاية المطاف إلى الفرار؛ الأمر الذي أثار استياء السلطان. ومما عرفناه من رواية ابن سينا أنَّ السلطان محمود أمر أحد الرسامين بعد ذلك بـ:
«… رسم صورة لابن سينا وتوزيع نحو أربعين نسخة منها عبر أرجاء البلاد مصحوبة بأوامر مشددة بالقبض عليه حيثما وُجِد وإرساله إلى السلطان تحت الحراسة. في هذه الأثناء كان ابن سينا و “مسيحي-Masihi” (رفيق ابن سينا) يرتحلان من قرية إلى أخرى إلى أن جاء اليوم الرابع محملًا بعاصفة ترابية عنيفة تسببت في أن ضلا طريقهما. ولم يتمكن “مسيحي” من النجاة من حرارة الصحراء الشديدة وانتهى به الأمر أن مات عطشًا، لكنه قبل أن يموت أكد لصاحبه أنَّ “روحيهما سوف تلتقيان في مكان آخر”.
وبعد آلاف من العوائق والصعوبات، تمكن ابن سينا والمرشد المصاحب له من إيجاد الطريق إلى “باورد-Baward “، وبناء عليه، كان الانتقال إلى جورجان بمكانة بداية فترة الارتحال لابن سينا، التي يصفها كما يلي:
«… ثم اضطرتني الحاجة إلى الانتقال إلى” فَسا- Fasa” ثم إلى باورد ومنها إلى “تيس-Tiis” ثم “شوقان- Shaqqan” ، ف “سمنقان-Samanqan”، وبعدها إلى “جاجارم-Jajarm” عند حدود خراسان، وأخيرًا إلى “جرجان- Jurjan”. كان كل ما أسعى إليه هو الوصول إلى الأمير “قابيس-Qabiis”؛ ولكن حدث أنه في تلك الأثناء أُلقِيَ القبض عليه وسُجِنَ في إحدى القلاع حيث مات هناك. وبعد ذلك ذهبت إلى “دهستان”، وهناك داهمني مرض شديد، ثم عدت إلى جورجان حيث أصبح “أبو عبيد الجيزجاني – Abii Ubaid Al Jiizjani” صديقًا لي، وهناك قمت بنظم قصيدة عن حالي من ضمنها بيت أقول فيه : “وحين أصبحت عظينا/ ما عادت مصر تقبلني /وحين علا قدري /ما عاد من أحد يرغب في شرائي”. تلك السطور الأخيرة لا ينبغي أن تؤخذ بمعناها الحرفي، بل هي إشارة إلى محنة “يوسف” النبي في مصر، وتعبير عن الشفقة على الذات وضبط النفس على حد سواء».
السياسة والموت:
في النهاية وجد ابن سينا نفسه وقد احتل موقع قوة سياسية كبيرة في “همدان”، حيث استُدعِيَ في البداية لعلاج حاكم همدان من مغص عصف به، ولما نجح في علاجه رُقِّيّ ليصبح طبيبه الشخصي أولًا، ثم من بعدها صار وزيرًا في بلاطه، وفي هذا المنصب صنع ابن سينا أعداء له، خاصة مع الجيش (وهو أمر يفتقر إلى الحكمة لأي سياسي).
كان ابن سينا كذلك متحررًا من تقاليد وأعراف زمنه، فلم يخفِ حبه للخمر والموسيقى. علاوة على ذلك ، بدأ ابن سينا في مراسلة حاكم أصفهان “علاء الدولة – Ala El Dowleh” ودارت بينهما مراسلات عدة إلى أن اكتُشِفَ الأمر، وحينها اضطر ابن سينا إلى الاختباء، لكنه لم يفلح في النجاة واكتُشِفَ مكانه وسُجِنَ، وهي التجربة التي كتب فيها السطور التالية:
«كان دخولي إليه مؤكدًا كما رأيتَ/ أما خروجي فسيكون موضع شك».
ولكن على عكس نظرته التشاؤمية تلك، أُطلِقَ سراح ابن سينا من سجنه، وفرَّ إلى أصفهان، لتصبح هذه المدينة بمكانة مستقر وموطن له. وعلى الرغم من علاقته الوثيقة بالحاكم، فإنه تجنب الانخراط في السياسة وصب تركيزه على عمله.
ومع ذلك، حتى في أصفهان لم يستطع الهروب من الحرب الأهلية التي كانت تتأجج في معظم أرجاء بلاد فارس، وما كان لموته أن يكون هادئًا تمامًا. وفي نهاية المطاف اضطر ابن سينا، قرب نهاية حياته، إلى الهرب من أصفهان بصحبة علاء الدولة، وكان -ابن سينا- في حالة صحية متدهورة. ومن المعلومات المتوفرة لنا، يظهر أن حتى خدمه كانوا مصدر خطر عليه في ذلك الوقت:
«وكان يتناول عقار “الميثرداتوم” لعلاج الصرع، لكن واحدًا من عبيده وضع في العقار كمية كبيرة من الأفيون، وبالفعل تناول ابن سينا المزيج. وقد فعلوا ذلك لأنهم كانوا قد سرقوا قدرًا كبيرًا من المال من خزانته، وأرادوا التخلص منه للإفلات من عقوبة ما ارتكبوها».
وبعدما استطاع علاء الدولة استعادة أصفهان، زحف إلى همدان وبرفقته ابن سينا. ونجحت الحملة بالفعل، وبعد فترة قصيرة، في المدينة التي لاحقته وسجنته، توفي ابن سينا في صيف عام 1037 عن عمر ناهز الثامنة والخمسين عامًا.