من الرحم البيولوجي إلى النص الروائي _ أربع ولادات لإبراهيم نصر الله
لعلَّ في الخطُّ الفاصل بين الذاكرة والسرد، يمكن تتبّع تكرار ما وصفه الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار بالحلم الذي كلما ذهب بنا بعيدًا جدًا، فهذا يعني أنَّ جذره خصب وأزلي منذ بداية الخلق، وفي ثلاثة من أعمال الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله والتي تمزج بين ما هو سيرة ذاتية وبين ما هو خيال روائي، نجد جذر ذلك الحلم في أربع ولادات نَثَرها نصر الله. ثلاثة منها تحقَّقت على مستوى بيولوجي في رواياته؛ طيور الحذر – طفولتي حتى الآن – وشمس اليوم الثامن، بينما تتحقق الولادة الرابعة في جمعِ شتات تلك النُطف البيولوجية في رحم معرفي.
لعلّ هذا التأريخ المعرفي لحدث الولادة الثلاثي نتج عن قراءة بطيئة استأنستْ برؤية باشلار الذي كان قد أشار إلى ضرورة قراءة النصوص ببطء أكبر من البطء الذي كُتبت فيه، بل ببطء شبيه بالبطء الذي تشكَّل فيه حُلم كتابتها.
هذا ما حدث بعد تعرضي لتلك الأعمال الأدبية، إذ تلبستني حالة من التأمُّل ساعة قرأتها، جعلتني أنتبه إلى أنَّ حدث الولادة البيولوجية هو قصة منثورة على ثلاثة مستويات. وذلك مستوى متقدِّم في القصّ الروائي، إذ يُحيل الروائي إلى نصوصه الأخرى لكي تكتمل الرؤية. هذا البطء جعلني أعيد تأريخ تلك الولادات هُنا عبر ولادة معرفية تقرأ الروايات الثلاث ضمن إطار نقدي واحد ومُتسِّق.
لعلَّ ما يذهب إليه باشلار في قراءة النصوص هي دعوة للتأنّي في ملاحظة الفروقات في الأحداث التي تنطوي عليها تلك النصوص ما يسمح بانكشاف طبقات مغايرة في العمل الأدبي.
مما يجعل من هذه الرؤية مدخلًا نسترشد به في تتبع طريقة إبراهيم نصر الله في سرد أجزاء من سيرته الذاتية في أعماله الثلاثة، ففي روايته التي صدرت مؤخرًا “شمس اليوم الثامن” وطفولةَ الجدِّ، التي أشار إليها في روايته “طفولتي حتى الآن” تتأمَّل بدورها سيرة مؤلِّفها، الحفيد. وبقدر ما ترتبط “شمس اليوم الثامن” برواية “طفولتي حتى الآن” وتستقِّل عنها، بقدر ما ترتبط مع رواية “طيور الحذر” التي لم يُخفِ نصر الله، أنها اتكأت على طفولته، واستلهمتها؛ لذا، ليس غريبًا أن تتكوَّن الطفولة جزءًا جزءًا في زمن ماض غير محدَّد، رزمة غير منتظمة تتشابك فيهـا بداءات غامضة، فنقرأ اسم الأب “عليّ” واسم الأم “عايشة” في روايتَي طفولته، ونعيش معهما أحداثا أخرى ورؤى تتكامل، لتأتي الرواية الثالثة “شمس اليوم الثامن” محقّقة هذا الوصل وموسِّعة له.
عالم المرة الأولى، حلم بالعودة
لعلَّ العبارة التي أشارت إليها رواية “شمس اليوم الثامن” كعنوان فرعي “يُسمح للكبار بقراءتها” كانت تلميحا إلى أنَّ أفضل الحكايات تلك التي تنجح في ملامسة حدود البساطة والبداهة.
وبذلك فإنَّ دخولنا في الحياة، لا يتحقَّق إلَّا من خلال الطفولة، فالطفولة ترى العالم مُصوَّرًا، بألوانه الأولية وبألوانه الحقيقية، وعلى ذلك فإنَّ الماضي البعيد الذي نعيشه من جديد حالّين بذكرياتنا الطفولية هو حقًا عالم المرة الأولى.
وعلى هذا فإنَّ كل طفولة هي عجيبة، ليس لأنها تتأثَّر كما نعتقد على نحوٍ سطحي، بخرافات تُقَص على الطفل ولا تنفع إلَّا لتسلية السلف الذي يَقُص الحكاية. لكن لأنَّ الطفل “وهنا الكاتب لاحقًا” يتفاعل مع هذا القصّ بطريقته الخاصة، فالطفل يجد خرافاته في تأمُّلاته الخاصة، خرافات لا يقُصّها على أحد فتترسَّخ الأشياء القديمة في نفسه مدى الحياة. وتتحول لحلم يقظة يُحيي من جديد ماضياً عائليًا وشباب الأجداد، ومن يقرأ مطلع رواية “طيور الحذر” سيتوقف عند مشهد سريالي قد يكون من الصعب تجاوزه. مشهد من الغرابة ما يدعوك إلى أن تنتقل دون أن تشعر لذهنية جنين يسكن في رحم أمه لم يحن موعد ولادته بعد، يحاول اكتشاف عالمه الخارجي الذي يود العيش فيه. بينما نجد هذا الجنين في “شمس اليوم الثامن” وقد عاد إلى مرحلة تسبق تكوينه، بصحبة طيور ألفها وألفته، فيشعر معها بذلك الاستئناس الذي يتوق لتحقيقه حالما يصبح الانتقال ضرورة أدائية لعالم واقعي قادم. يتبيّن أن حاجةٍ للتأمل تبدو جلية هنا، حيث نذهب مع الإنسان إلى زمن ما قبل الوجود الرحمي.
وبذلك فإنَّ بإمكاننا أن نلمس اتجاه نصرالله نحو القيم اللاواعية ضمن صور العودة إلى الولادة، حيث يكون مسكن الولادة هذا شاهد على الحماية المبكرة التي اعتبرها التحليل النفسي الكلاسيكي العودة إلى الوطن الأم، مع حمولة الحُلم التي تقوّيها بمثابة عودة إلى الأم، سيظلّ يُنشدها.
وإذا ذهبنا إلى افتراض أنَّ التجربة الحلمية بالنسبة لوعي الجنين في الرحم تماثل التجربة الحلمية لوعي النائم، فهل هذا يعني أن الرحم منطقة مَعرِفة حيث الوجود داخل حيزه يتراوح بين الوعي واللاوعي، ما بين الوجود واللاوجود. فهل تدعونا الأحلام لنعرف وندرك في هذا الحيز جدوى وجودنا وأهمية ما يحدث حولنا من حياة سابقة وقادمة نريد المشاركة بها وباختيارات قد لا نجرؤ على التفكير بها كثيرا بعد ولادتنا قد تمتد لرغبة دفينة باختيار الأم والأب (شمس اليوم الثامن).
كل ما يتطلَّبه الأمر أن ننتظر صحوتنا، أو استيقاظنا، أو ولادتنا!
ما حدث للطفل في “شمس اليوم الثامن” وقبلها “طيور الحذر” من انتقال من حالة وجود رحمي إلى الانطلاق للعالم عن طريق الطبيعة، من حالة انطواء إلى حالة انفتاح على العالم باعتبارهما صيغًا تدير الحركة الأساسية لخيال نتساءل إن كان سينجح حقًا في تحقيق راحة الإنسان المنشودة بالعودة إلى أو بالبقاء في الحضن الأمومي متمثلا في الرحم. هل يستطيع الخيال أو الأحلام التي تحب الذهاب إلى عمق الأشياء وتريد أن ترى اللامرئي، أن تحقِّق أخيرًا وفي صورة نهائية، العيش الحقيقي الذي تريده؟
احتضان أم ابتلاع
يأتي مشهد الجنين الذي لم يُولد بعد في “طيور الحذر” ليذكرنا بعسر تحقيق هذه الراحة المنشودة، فهي أحلام حركية، متأهبة، ملتوية ليس بمقدوره تحقيقها من المكان الذي يسكنه، ولا يمكن لصور البطن، على الرغم من كونه مسكن محتضِن وضامّ أن يكون كافيًا، بل أنه قد يكون مصدرًا للاحساس برعب الانغلاق والابتلاع والوحشة، إن تحوّلَ لحاجز يحصر أحلامه التي يتخيَّلها ويسمعها من خلال جدار رحم أمه (طيور الحذر).
ولعلَّ استدعاء هذا المشهد الصريح الذي ورد في رواية طيور الحذر يوضِّح الفرق في كل هذه الهواجس ما بين حالة الضم والاحتضان وارتباط معناهما بمفهوم الحياة، وما بين الانفتاح والخروج بما يحملان من معنى للعيش.
ففي حوار داخلي يشير إلى محاولة الطفل قطع علاقته بالرحم يقول:
“حاولت الخروج ثانية دون جدوى، وفكرت فيها بعد، وليس لأحد أن يلومني: لماذا لا يكون هـذا البيت الجميل خارج بطن الأم؟ أو، لماذا لا يكون شفافا حين تحمل بنا، وتزداد شفافيته كلما كبرنا” ثم يقول “هذه الفترة اعتبرتها ضائعة، دائما اعتبرتها فترة ضائعة من عمري، أعني فترة وجودي في الرحم، حيث العالم مقفل”.
يلي ذلك المشهد، مشهد آخر في رواية شمس اليوم الثامن يرويه الطفل قبيل خروجه:
بعد تسعة أشهر وخمسة عشر يومًا، سمعت نفسي أبكي، فعرفت أنني وُلدت.
قد يقترح علينا الانتقال من ذلك الوجود الرحمي إلى العالم – متجاوزين كل ما قد يعلق في طريقنا من محاولات لإبقاءنا في ذلك المكان الدافئ والآمن، مدفوعين بالفضول والتأمل، وبأمنيات كثيرة تكشف رغبتنا في العيش في مسكننا الأكبر على الرغم من الحنين الباقي بداخلنا- طرح تساؤلٍ مُلِحّ يحوم حول من هو الأكثر حقيقية، المسكن ذاته الذي ننام فيه، ونحلم وننسج قصصنا، أم المسكن الذي – ونحن نيام فيه- نذهب للحلم بكل إخلاص؟
هل سبق وأن عثر أحدنا على إجابة، قد يكون علينا إيجاد طريقًا نعبُره وأم تلدنا وأب يحمينا وجدّ وجدّة يغرسان جذورنا (شمس اليوم الثامن)، لنستطيع اكتشاف الإجابة.
مثل هذه المشاهد تحفر عميقا في الذاكرة البشرية، ذلك أنها تأخذنا إلى الإنسان في علاقته الحميمة والقلقة مع ما يُقدمه المسكن الرحمي هنا من معنى مُركَّب مُراوح ما بين مفهومي الاحتضان والابتلاع، الحياة فيما قبله وفيما بعده، وتساؤلات هذا الإنسان حول معنى وجوده فيه.
فبقدر ما للجنين من رغبة دافعة للخارج، فللأم قوة ساحبة للداخل، لعلها تريد إبقاءه مدة أطول، مستخدمة في ذلك أداتها الرحميّة كدرع حماية، بينما يراها هو تضييقًا أكثر منه ضمّا كلما كبرت أحلامه، ونما جسده.
لعلَّ ذلك يفسر الصراع الذي خاضه كلا من آدم وحواء ما بين جنة آمنة إلَّا أنها بدأت تضيق عليهم وأرض يدركون وجودها بشكل ما، لكنهم لا يدركون ما ينطوي عليه تحقق الخروج، تلك الجنة التي أوَّلها فرويد بأنها ذلك الحنين اللاشعوري بالإقامة في رحم الأم؛ فاحتجاجه على خروجه منها يُعبر عن الحنين إلى الكمال والنعيم والبراءة. نعاود السؤال هنا، لأي مدى نحن جادين بالبقاء في ذلك المسكن الرحمي.
لعلنا ندرك بمعرفة مُسبقة، معرفة فطرية! أنَّ الخروج من البطن هو آليًّا دخول في الحياة الواعية، أو حياة تُريد وعياً جديداً، ويونس في مضمون حكايته في الأسطورة وهو في بطن الحوت، يتراوح في موقفه بين فكرة انه مبتلع فهو مختفي وممحي الهوية وفانِ. وبين فكرة أنه محمي محتضن بشكل مؤقَّت. هو مشحون بفكرة أنه مُهدّد بالابتلاع من العالم، من فكرة أن هناك من هو أقوى منه بشكل ملموس، يحاول الاحتفاظ به أطول فترة ممكنة.
ربما كان ذلك هاجسًا لدى يونس إلى أن تَحَقَّق خروجه كولادة جديدة، لكن هذه الولادة لم تقتصر عليه، بل تمتد الأسطورة إلى عدم مغادرته الحوت بمفرده، إذ وجد بالداخل أبويه، وأرواح أجداده، وكذلك القطعان التي كانت ملك عائلته. كلها يعيدها البطل إلى النور، وتلك إشارة صريحة للحاجة إلى العودة لسالف الحال، وتجدُّد تام للطبيعة.
تنتج لنا هذه الصورة قصّة، بحيث تقترح علينا أن نتخيَّل قبلًا وبعدًا كيف دخل يونس إلى بطن الحوت، وكيف سيخرج منه؟ فهل نجد في كل الصور المطروحة خصائص لها في الواقع؟
قد لا تنطبق هذه الصور بشكل ظاهر على الواقع، ومع ذلك، فإنها ستجد لدى الإنسان صورة غافية منذ القدم تساعد على بناء تركيبة إحساساته المشتتة. فنحن لم نسافر على متن جَمل تنبت من خرجه نخلة كما في الرواية، ولم نُقم داخل بطن حيوان كحوت يونس كما في الأسطورة، ومع ذلك فإننا نُعلن عن انخراطنا -عبر مشاركات لاواعية- في صور المسافر الذي يحلم بولادة جديدة.
كل هذه الصور التي أثارتها “طيور الحذر” أمس، و”شمس اليوم الثامن” اليوم، بمشاهدها البدئية والحالمة والتي تقترب من السريالية بعلاقتها مع حوار الممكن وغير الممكن، تبدو بعيدة عن المنطق، ولكن إذا ما أخذناها من منبعها، فلن يسعنا إلا أن نعترف بأنها تُمثل دائماً صور كائن مسكون بفكرة، أو مسكون بكائن آخر.
فما الأرض أو الحيوانات أو البحر، ولا الكهف أو بطن الأسماك كما أشار هربرت سيلبرر إلا رموز للأم وللرحم، يحاول الإنسان في تكرار خلقها وسردها أن يؤرخ ويكرر لحظة ميلاده.
الهوامش والإحالات:
_ طيور الحذر: الملهاة الفلسطينية، الطبعة الأولى 1996 دار الآداب، بيروت، إبراهيم نصرالله
_ طفولتي حتى الآن: الملهاة الفلسطينية، الطبعة الأولى 2022 الدار العربية للعلوم، بيروت، إبراهيم نصرالله
_ شمس اليوم الثامن: الملهاة الفلسطينية، الطبعة الأولى 2023، الدار العربية للعلوم، بيروت، إبراهيم نصرالله
_ فكرة الطفولة مستوحاة من كتاب الأرض وأحلام يقظة الراحة “بحث في صور الحميمية” 1947_1948، غاستون باشلار
_ الأرض وأحلام يقظة الإرادة “بحث في خيال القوى” 1947_1948، غاستون باشلار
_ وضح باشلار فكرة مفادها أننا لا نقرأ الرواية في تزامن كامل مع لاوعي الكاتب. فالكاتب يحلم بشكل متقدم على حلم القارئ الذي يجد نفسه على هذا النحو محروماً من الإعداد الحلمي الضروري لقراءة كاملة، لقراءة تُعيد تخيل كل القيم، القيم الواقعية والقيم اللاواعية في نفس الوقت.
_ في كتابه “الأرض وأحلام يقظة الإرادة” يشير إلى رمزية العيش على الهيئة الأولى التي كنا فيها داخل أرحام أمهاتنا، هيئة الانطواء على الذات، كأننا صَدَفة تحتمي بقوقعتها. وأنه على الرغم مما يوجد من اختلافات بين صور الراحة، وصور المأوى، وصور التجذير، فإنها تشترك جميعاً في ترجمة نفس الحركة التي تحملنا نحو «ينابيع الراحة»، كالمنزل، والبطن، والكهف التي تُدمغ بنفس الطابع الكبير، الذي حدده التحليل النفسي، طابع “العودة إلى الأم”.
_ من المهم الإشارة إلى التوضيح الذي قدمه كتاب “الأرض وأحلام يقظة الراحة” حول مصطلح “عقدة يونس” وأراد به أنه عقدة ثقافية، لا علاقة لها بالعقد التحليلية النفسية، وهي لا توجد في أعماق اللاوعي، التي هي من اختصاص «التحليل النفسي المحض»، بل توجد في منطقة متوسّطة بين الوعي واللاوعي، وهي حكر على الخيال المحكي، وهو الخيال الأدبي، “هذه المنطقة التي تجمع فيها بين الخيال وتجارب الواقع”. وفيها بالتحديد تتكون الصور الأدبية التي تعنينا بصورة خاصة.
_ قمت بإضافة إحدى لوحات Hieronymus Bosch (جيروم بوش) إلى المقال والتي استعان بها باشلار في كتابه ليوضح فكرة الابتلاع. فهذا الفنان كان قد أثار اهتمام السورياليين والمحللين النفسيين ونقاد الفن لما للوحاته من كثافة تعبيرية ورمزية جعلتهم يُعدُّونه رسام الدواخل القلقة وفنانًا رؤيويًّا.
_ كان هربرت سيلبرر Herbert Silber أول من اكتشف الخيوط السرية التي تمتد من الخيمياء إلى علم نفس اللاوعي. وقد كان بالنسبة لفرويد، وبالنسبة ليونغ بشكل أكبر، مصدرا مهم للأفكار. وفي كتابه “مسائل الصوفية ورمزيتها”
“Probleme der Mystik und ihrer Symbolik” يطرح فكرة أن “الأرض والكهف والبحر وبطن الأسماك، إلخ… كلها رموز للأم وللرحم”.