دائرة الأبراج السماوية المصريَّة القديمة: هل تُمثِّل أقْدَم أشكال علم الفلك في العَالَم؟ (مترجم)
في عام 1799، بدأ «نابليون– Napoleon» وجُيُوشه في توسيع وجودهم وفَرْض سَيْطَرَتِهم عَبْر مِصْر. لكن نابليون لم يأتِ بجنوده فقط، ولكن أيضًا بالفنَّانين والرسَّامين لتسجيل الاكتشافات العجيبة التي عَثَرَت عليها حملته في بلدٍ يُعَد غريبًا وبعيدًا عن المألوف من منظور الثقافة الأوروبيَّة التقليديَّة. مِن بين هؤلاء الفنَّانين «فيفانت دينون- Vivant Denon»، الذي افتُتِن بشكلٍ خاص بدائرة البروج السماوية الكاملة التي نحتها المِصريون القُدَماء على سقف معبد «حتحور-Hathor» في قرية «دندرة-Dendera».
قام دينون بتسجيل دائرة البروج السماوية بدِقَةٍ على الورق، ثُمَّ عاد إلى باريس لينشر ما قام بتسجيله في عملٍ حظي بشعبيَّةٍ واسعة في إنجلترا وفرنسا، وبدا أن الجميع قد صار متعطشًا لمعرفة المزيد حول هذا النقش الدائريّ العجيب في معبد حتحور.
🔹تقويمٌ مُرْبِك:
أثار ذلك الكَشْف، والذي يُعرف الآن باسم «بروج دندرة الفلكيَّة-Dendera Zodiac»، ضجةً كبيرة بين العديد من أعظم العلماء والفلكيين والرياضيين في فرنسا، وراحوا يُحاولون الكَشْف عن التواريخ الدقيقة وأوقات وقوع تلك الأحداث السَّماويَّة المُصوَّرة في تلك الدائرة الفَلَكيَّة. مِن بين هؤلاء العُلماء، الفيزيائيَّان «جوزيف فورييه-Joseph Fourier» و «جان بابتيست بايوت-Jean Baptist Biot»، اللذان قادا عملية البحث، جنبًا إلى جنب مع عَالِم الفَلَك «يوهان كارل بوركهارت-Johan Karl Burkhardt». إلا أنهم وقفوا حائرين أمام تفسير الأبراج المُصوَّرة على الدائرة الفلكية، هل هي حسابات فَلَكيَّة حقيقيَّة تُصوِّر حركة النجوم؟ أم أنها مجرَّد تجسيدات رمزيَّة؟ هنا كانت فرنسا قد بدأت دراساتها في عَالَم علم الفلك الأثريّ.
وتُعَد بروج دندرة هي التَّصوير «الدائريّ» الوحيد لعِلْم الفَلَك الذي عُثِر عليه في العُصُور المِصريَّة القديمة. أما باقي أشكال الأبراج الفَلَكيَّة فهي إما ذات شكلٍ مربَّع أو هَرَميّ. أما عن دائرة البروج ذاتها، فهي تُصوِّر ال365 يومٍ للسنة المِصريَّة، مع ستةٍ وثلاثينَ «ديكان» مرتبة في شكلٍ دائريٍّ. ويُمثِّل ال«ديكان» ثُلث الفترة الزمنيَّة التي تُغطيها كوكبة البروج. وتتألَّف كوكبة البروج من اثني عشر رمزًا، يستغرق كل رمزٍ منها ثلاثة ديكانٍ، أي ستةٍ وثلاثين ديكانًا في المجموع. وهو المقياس الذي لا يزال المُنجِّمون في الغَرْب يستخدمونه حتى يومنا هذا.
🔹مقارنة بين الأبراج الفلكيّة المصرية القديمة والأبْرَاج الفَلَكيَّة الغَرْبيَّة:
استطاع عَالِم المِصريَّات الإنجليزيّ الشَّهير «جيرالد ماسي-Gerald Massey»، أن يُحدِث نوعًا من التوفيق بين كلٍ من رموز الأبْرَاج الغَرْبيَّة التقليديَّة ونظيرتها المِصريَّة. حيث، وُفْقًا لنظرية ماسي، إذا نظرنا إلى بروج دندرة الفَلَكيَّة، سنجد أن كبشَ برُجْ الحَمَل في كوكبة البُرُوج التقليديَّة، يتوافق مع الإلَه آمون ذي رأس الكَبْش في البروج المصرية. وبُرْج الثَّور يتوافق مع أوزوريس -الذي يُشَار إليه في بعض المواضع ب«ثور الخلود»- بينما تتوافق سمكتي بُرج الحوت مع رمز التمساحين اللذين يسبحانِ في اتِّجاهينِ متقابلينِ.
وهكذا نجد أن كلَ برجٍ من الأبراج الغَرْبيَّة التَّقليديَّة له مُكَافِئ في كُوكَبة البروج المِصريَّة القديمة يحمل ذات الرمزيَّة: بدءًا من «خنوم» الماعز الذي يحمل ذات صفات بُرج الجدي، مرورًا ب«آتوم» الإلَه ذو رأس الأسد والذي يحمل صفاتٍ مُمَاثلة لبُرج الأسد، وصولًا إلى صورة «إيزيس» وهي تحمل حورس بين ذراعيها، في تشابهٍ واضحٍ مع صورة «مريم العذراء» وهي تحمل المسيح.
🔹الأهمية المَوْسِمِيَّة:
يبقى السؤال المهم الآن: ما الذي كانت تعكسه تلك الرموز؟ وما أهميتها بالنسبة للمِصريين القدماء؟
كان المصريون القدماء يعتقدون أن كل رمزٍ من تلك الرموز الفَلَكيَّة مرتبطٌ بمَوْسِم بعينه من السَّنة يحكمه إلَهٌ محدَّد. فعلى سبيل المثال: كانت خنفساء «الجعران-Scarab»، والتي تُمثِّل السرطان، ترمز للصيف، بينما يرمز الميزان إلى الاعْتِدَال الخريفيّ.
جدير بملاحظتنا هنا أنه على الرَّغم من ظهور جميع البُرُوج الاثنى عَشَرَ في بُرُوج دندرة الفَلَكيَّة، إلا أن مواضع بعض منها تبدو منحرفةً إلى حَدٍّ ما. حيث نجد أن السرطان، على سبيل المثال، يبدو وكأنه قد تَمَّ وضعه عمدًا باتِّجاه مركز دائرة الأبْرَاج في وضعٍ أشبه بالشَّكل الحلزونيّ في الدائرة الفَلَكيَّة. ومن غير المعروف حتى الآن السبب وراء اتِّخاذ مثل هذا التصميم، ولكن ربما يكون للشهر الذي يَرمُز إليه بُرْج السرطان أهمية ما.
بالنسبة للمِصريين، كان لكل مَوْسِم ٍتأثيره الخاص على الأيام في إطار التقويم المُكوَّن من 365 يومٍ، ولم تكن ساعاتِ اليوم تُقَاس على أساسٍ ثابت، وإنما كانت عُرْضَة للتغيير من مَوْسِمٍ إلى آخر.
كذلك صَوَّرت دائرة البُرُوج المِصريَّة القديمة حركة النجم «سيريوس-Sirius» – الشعرى اليمانية- والذي كانت له أهمية قصوى عند قدماء المِصريين، والذي كان ظهوره في الأُفُق يُمثِّل علامةً على بداية العام الجديد، إلا أن هذا التَّاريخ كان يتغيَّر بثمانية أيامٍ ونصف اليوم كل ألف سنةٍ.
كذلك كان لرمز «الدلو-Aquarius» أهمية عظيمة، إذ يُمثِّل علامة العمر، أي بداية وقت الفيضان. وهكذا كان المِصريون يستخدمون ظهور نجم الشعرى اليمانية/ سيريوس كإشارةٍ لبداية فترة الفيضان السنويّ لنهر النيل، أي شهر يونيو حاليًا.
🔹 الفَلَك في مِصْر القديمة، هل هو أقْدَم عُلُوم الفَلَك؟
مما لا شَكّ فيه، أن المِصريين القُدَماء قد أولوا أهمية عظمى لعِلْم الفَلَك وحركة البرُوج السَّماويَّة، ولكن السؤال هنا: أين تَتَوافَق بنية البُرُوج مع التقويم الزمنيّ؟
يعتقد «تشارلز دوبوي-Charles Dopuis»، وهو باحثٌ من حقبة ما قبل الثَّورة الفرنسيَّة، أن عِلْم التَّنجيم المِصريّ نشأ منذ 14000 عامٍ، أي قبل 10000 عامٍ من التَّاريخ الزمنيّ المُتعارَف عليه، والذي يعود إلى 4000 عامٍ قبل الميلاد. كذلك يرى دوبوي أن المِصريين القُدَماء قد سبقوا اليونانيين القُدَماء بأميالٍ في معرفتهم بعُلُوم الفَلَك، حتى أنهم اعتبروا اليونانيين بمثابة أطفال بالمقارنة بهم.
تُصوِّر دائرة دندرة حركة الشمس، وتشير إلى المسار الدائريّ لمدارها. كذلك تشير الأشكال المُصوَّرة على الدائرة إلى أمرٍ غريب: حيث يُظهِر ترتيب الأبْرَاج تاريخًا وَقَعَ قبل 650 عامٍ على الأقل من إنشاء دائرة البُرُوج نفسها. وكان الباحثون الفرنسيون قد رجَّحوا أن دائرة برُوُج دندرة أقْدَم بآلاف الأعوام من تاريخ الخَلق التوراتيّ، الأمر الذي، بلا شَكٍّ، أزعج الكنيسة كثيرًا، حيث باتت معتقداتها عُرَضة لخطرٍ بالغٍ بسبب اكتشاف تلك الدائرة الفَلَكيَّة الغريبة. إلا أن «جان فرانسوا شامبليون-Jean Francois Champollion »، عَالِم المِصريَّات الفرنسيّ الأشْهَر في عصر نابليون، قام بإجراء تصحيح على التواريخ، حيث قام بفحص الخراطيش الهيروغليفيَّة المُصَاحِبَة للدائرة، وتتبَّع أسماء الملوك الواردة بها وتواريخها والتي أكَّد أنها تنتمي لفترةٍ زمنيَّة بين 100-20 قبل الميلاد، أي أنها تنتمي إما إلى فترة مُتأخِّرة من العصر البطلميّ أو أوائل العصر الأوغستيّ. وكان لرأي شامبليون قدرًا عظيمًا من الأهمية، بصفته أوَّل من تمكَّن من فَكّ رموز الهيروغليفيَّة على حجر رشيد. وقد امتن له البابا بشدةٍ على هذا الإنْجَاز، لدرجة أنه عرض عليه ترسيمه كاردينالًا في الكنيسة، على الرَّغم من أنه كان مُلْحِدًا.
🔹 لماذا كان علم الفلك على هذه الدرجة من الأهمية؟
عند هذه النقطة ينشأ سؤالٌ مهم: ما هو الغرض من دراسة عِلْم التَّنجيم القديم؟ في الواقع، لا توجد حضارة قديمة تقريبًا لم تُوَّلِ الاهتمام بحركة النجوم وتوثيقها، وركَّزت بشكلٍ خاص على تقسيمها إلى اثني عَشْرَة كوكبةً قد يُساعدنا فهمها على سَبْر أغْوَار نطاق واسع من التَّاريخ البشريّ.
يعتقد عَالِم النَّفس «كارل يونج-Carl Jung» أن بعض الصُّور والرموز كانت مُسْتَقِرَة في العقل الباطن لأسلافنا الأوائل، تُعرَف ب«النماذج الأصلية أو الأوَّليَّة»، وهي نماذج عَالَميَّة مُتجذِّرة لدى جميع البشر. ومن هنا، ربما قام أبناء الحضارات القديمة بنسج تفسيراتهم الخاصة للنجوم وحركتها عن طريق تجسيدها في اثني عَشَرَ نموذجًا أصليًّا من تلك النماذج المُتَوَطِنَة في النَّفس البشريَّة.
كذلك ينبغي ألا نغفل الرَّقْم «12»، ذلك الرَّقْم المتكرِّر في العديد من المواضع عبر التَّاريخ والأساطير، بدءًا من أسباط بني إسرائيل الاثني عَشَرَ، مرورًا بأعمال «هرقل_Hercules» الاثني عَشَرَ، وصولًا إلى الحواريين الاثني عَشَرَ للمسيح، والنقاط الرئيسة الاثنتي عَشْرَة في الماسونيَّة، إلى غير ذلك.
والحق أن صور كل بُرْجٍ من البُرُوج الفَلَكيَّة إنما يتردد صداها في كل حضارةٍ تقريبًا، وهو ما يقودنا إلى الاعتقاد بوجود جوهر خفي ما يكمُن وراء تلك الصُّور ويتجلَّى بشكلٍ متواصلٍ وعلى مدار حُقَب زمنيَّة مختلفة. وقد تناول العديد من الباحثين والمؤلِّفين موضوع تردد فِكْرة بعينها عبر الأساطير المختلفة حول العَالَم بالبحث والنقاش، من بين هؤلاء الباحثين «جورجيو دي سانتيلانا-GiorgioDe Santillana» و «هيرثا فون ديشند-Hertha Von Dechend» في كتابهما «طاحونة هاملت- Hamlet’s Mill»، حيث أشار المؤلِّفانِ إلى أوجه الشَّبه المُميَّزة بين الأساطير المتعلِّقة بالسَّماء عبر جميع ثقافات العَالَم تقريبًا.
ذات النتيجة توصَّل إليها «جوزيف كامبل-Joseph Campbell» الذي ذكر أن «أساطير العَالَم تُشْبِه بعضها البعض، وكأنما هي لهجات متعدِّدة للُغَةٍ واحدةٍ».
▪️وبعد، في عام 1821 سُرِقَت دائرة بروج دندرة الفَلَكيَّة، وتَمَّ نقلها إلى فرنسا بواسطة المهندس «جان ليلورين-Jean Lelorrain»، الذي استخدم البارود والمتفجِّرات لفصل الدائرة عن موضعها في سقف معبد دندرة، لتستقر حتى الآن في قسم الآثار المِصريَّة بمتحف اللوفر الشَّهير في باريس.
نرشح لك ترتيب الأبراج حسب تاريخ الميلاد
تدقيق: أمل فاخر