لماذا غاب الأبطال الخارقون عن سمائنا العربية؟
في العصور الغابرة نجدُ مكانةَ البطلِ الأسطوريّ حاضرةً، حيث استوعبت الحضاراتُ القديمة الفكرةَ، وتعاملت معها بحكمة. فإذا أردت التحفيز للحرب اخْلِق بطلًا يحاربُ من أجلِك ويوحّد صفَّك، وإذا جنحتَ للسِلْمِ فاخلِقْ بطلًا له سِمات الزعامة وكاريزما لَمّ الشَمل، وإذا أحببت اخْلِق بطَلًا يجعل من الحبِّ عقيدة، وإذا غضبتَ اخلِقْ بطلًا يجعل من الغضب فريضة، هكذا بدأت الفكرة.
فكرة البطل الشعبي في الموروث العربي
تبدأ “ضحى الطويهري” الإعلامية ومقدمة برامج السينما على قناة “قرطاج بلس” حديثَها عن البطلِ في زمن الفرسان، فتقول: “البطل الشعبي هو من يستطيع إنقاذ أهله وقبيلته في المحن، كعنترة ابن شداد، وأبو زيد الهلالي، أو صعلوك من صعاليك العرب الذين عُرِفوا بالشجاعة وحبّ المغامرة، كعروة بن الورد العبسي أمير الصعاليك، والذي كان يأخذ من الغني ليعطي إلى الفقير، أو ثابت بن جابر وكنيته “تأبط شرا”، وكان شاعرًا وفارسًا لا يشقّ له غبار، ونوادره عن قدرته الخارقة على العدو”. وتستطرد ضحى: “هكذا بدأت فكرة البطل في ثقافتنا العربية، لا تختلفُ كثيرًا عن باقي الثقافات الأخرى في زمانها”. لكن ماذا حدث بعد ذلك ليتغيّرَ كلُّ شيء؟
قيام عالم”الكوميكس” في الغرب، وصحوة شخصيات مانجا في الشرق
“لم يظهر كلُّ هؤلاء الخارقون بين ليلةٍ وضحاها“؛ هكذا يصف المخرج هشام عبد الخالق المقيم في فرنسا المشهد. “صناعة البطل الخارق عمل تراكمي”، فلم تحط الحرب العالمية الثانية (1939م-1945م) أوزارَها قبل ظهور كابتن أمريكا، ذلك الجنديّ الذي تحوّلُه مَعامِلُ الجيشِ إلى بطلٍ خارق ليكون بدايةً حقيقيةً لعالم “مارفل” في العام 1941م. فتدفع شخصيةُ “كابتن أمريكا” مزيد من الشباب للتطوع والقتال ضد الشر المتمثِّل في دول المحور. ويستطرد عبد الخالق: “دشن عالم الخارقين في مجلّات كوميكس في الولايات المتحدة قبل ظهور كابتن أمريكا ببضعة أعوام، فلاقت رواجًا كبيرًا، وظهر سوبر مان في العام 1938م، ثم لحق به بات مان في العام التالي، ليكونا باكورة إنتاج شركة دي سي، والتي قدّ، ودخلت منافسة حامية الوطيس مع شركة “مارفل” التابعة لشركة ديزني، للهيمنة على هذا العالم الساحر والسوق العامر”.
...........
لم تكن أمريكا هي صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في عالم الأبطال الخارقين، كانت التجربة اليابانية حاضرة في إنتاج وتسويق شخصيات خارقة، مثل “زينو ساما”، وهي شخصية إله بجسد طفل يمتلك قوّة مطلقة تجعله يتحكم في الزمان والمكان، ويتلاعب بالكواكب، ويمحو أيّ شيءٍ بلمح البصر، وهي من ابتكار “أكيرا تورياما” أحد أشهر رسامين المانجا.
ويقال عن جذور فنّ المانجا أنَّها تمتد إلى ما قبل القرن السابع عشر، غير أنَّها ظهرت فعليًا في القرن التاسع عشر برسومٍ شديدة التميُّز، بدأت بالأبيض والأسود. و”مانجا” عبارة مكونة من مقطعين “مان” و”جا”، وتعني الصور المرتجلة، أو الصور غريبة الأطوار، وتختلف عن الكومكيس بلغةِ حوارٍ شديدة الإيجاز، لتبقى الصورة الغنيّة بالتفاصيل هي أساس لغة السرد، وتحوّلت مع الوقت لقصصٍ مصورة، وأفلام “أنمي“، وألعاب فيديو غزت العالم، فنشرت بذلك ثقافةً وفكرًا وتكنولوجيا منافِسة لنظيرتها الأمريكيّة. حققت مجلات مملوكة لشركة “كوداناشا” أرباح خياليّة، وهي واحدة من كبرى الشركات في هذا المجال، وتأسّست عام 1938م، ولا زالت تبيع ملايين النسخ سنويًا.
ظلَّ عالمُ الأبطال الخارقين معجونًا بالسياسة منذ ولادته مع الحرب العالمية الثانية، وإن ظَنَّ البعضُ أن البطلَ الخارِقَ ملاكٌ مُرسَل إلينا من السماء؛ ليدافعَ عنا بلا مقابل، ويحمي الأرض بلا غرض في نفسه. فلم تكن صناعة الأبطال الخارقين يومًا عفويةً، بل تحمل أفكارًا أبعد من حدود صورها الملونة، والتي تخطف أنظار الصغار والكبار.
البطل الخارق يحتاج إلى عقول وشركات كي يصبح حقيقة على الأرض
ولد ستان لي في عام 1922م، فكان العقل المفكر لشركة مارفل لعقودٍ من الزمن. ساهم كمطورٍ لشخصيات الكوميكس منذ لحظة ميلاد كابتن أمريكا، ثم مع سبايدر مان، وغيرها من الشخصيات التي أثرت مكتبة مارفل وأنعشتها بكل جديد، حتى وفاته في عام 2018م. على الجانب الآخر، كان لشركة دي سي، والتي تأسّست في عام 1934م رجالها، فنرى إسهامات جيري سيغل وجو شاستر مبتكِرَا شخصية سوبر مان، كذلك الرسام بوب كين أحد مؤسّسي شركة دي سي، ومبتكِر شخصية الرجل الوطواط مع الكاتب بيل فينغر. كان لكل من هذه الأسماء اللامعة في عالم صناعة الكوميكس والأفلام السينمائية دورًا فاعلًا في إحداث طفرة حقيقية.
البطل العربي المختلف عليه
وسط هذا الصخب القادم إلينا من الغرب والشرق، نجد سماءنا العربية تكاد تكون خالية من هذا القالب الفني، إلا بمحاولات فردية، بينما المال يُصَب في جيوب الشركات الأجنبية، ونحن لسنا على الخارطة، مجرّد ناقل بالدوبلاج والترجمة لكل ما يتوافد علينا من أفكار وأبطال حفروا في وجدان الشباب العربي مكانًا راسخًا بحكاياتٍ تحمل طابعًا أسطوريًّا تارةً، وطابع الحداثة تارةً أخرى.
يخبرنا الناقد الفني إيهاب التركي بمعضلةٍ لخلق هذه العوالم في عالمنا العربي بجوار “الخيال” الذي يراه ركيزةً أساسية لهذه الصناعة، فيشير إلى “الجانب الأخلاقي للعمل”، والذي يجب أن يُراعَى أنّه مقدَّم للأطفال والمراهقين، وبالتالي سيكون الفرق شاسِعًا بين سقف طموحات المبدع وسقف الرقابة، والتي لن تتقبل مثل هذه النوعية من الأعمال، وهي التي تبحث عن جملةٍ توضع في بداية الفيلم أو آخره لتحدثنا عن “تحريم السحر”، أو تقرر تغيير نهاية الفيلم لتتماشى مع الأعراف والتقاليد.
تعود ضحى الطويهري لتقول: “البطل العربي مُختلف عليه، بل إننا قد نختلف في رؤيتنا للشرير ذاته. فكل ما في عالمنا العربي بات مائع، وتعددت الرؤى؛ ممّا زاد من صعوبة خلق بطل يرضي مزاج الكل”. وهو ما يختلف عن رؤيتنا للأبطال الخارقين الوافدين علينا من الشرق والغرب، فهناك تفهُّم أنهم ينتمون إلى ثقافاتٍ مغايرة. وتستكمل فكرتها: “عندما يتعلق الأمر بنا، نصبح أكثر تحفُّظًا في مواجهة بعض الإشكاليات، كظهور النساء الخارقات مثلًا، وكيف سيتم معالجة قصصهن ولباسهن وحركاتهن على الشاشة، فكل شيء سيصبح محسوب عليهن، حتى النفس”.
محاولات خجولة
بعين خبير ومخرج فني للعديد من المهرجانات المصرية أبرزها مهرجان القاهرة السينمائي، يحكي لنا أندرو محسن عن تجارب فنية قدمت في أزمنة مختلفة حول شخصية البطل الخارق بمفهوم عربي. فيقول: “في العام 1969م قدّما لنا فؤاد المهندس وشويكار فيلم “العتبة جزاز”، حيث ظهرت شخصية “فرافيرو” للمرة الأولى على شاشة السينما ونالت الاستحسان. كانت شخصية محببة، وتم استغلالها بعض الوقت، ثم توقفت عن الظهور. وتعد تجربة مسلسل “الرجل العناب” سنة 2013م للمؤلف ولاء الشريف والمخرج شادي علي، والتي قدمت محاولة للدخول إلى هذا العالم بمنظورٍ كوميديّ أيضًا. محاولةٌ ناجحةٌ بكل المقاييس كما يرى محسن، وكان يتمنى لو أثمرت محاولات أخرى في مجال السينما أو حتى القصص المصورة.
مشاريع طموحة ونتائج مخيبة للآمال
يصف إيهاب التركي الناقد الفني تجربة بيتر ميمي والذي قرر صناعة عالم موازي لعوالم مارفل ودي سي في سلسلةٍ جديدة سمّاها “المستضعفون” بالتجربة الطموحة، فعرض فيلم الهرم الرابع 2016م، ثم موسى 2021م، لتظهر شخصياتٌ تباعًا وتمهيدًا لأخرى. أسماء وردت على لسان صانعي العمل ولم تظهر على الشاشة بعد: فيصل، ودليلة، وملاك الموت. حالة مثل التي نراها في هوليوود، لكن الهرم الرابع وموسى لم يحققا النجاح المطلوب، ففيلم موسى الذي عرُِض في العام 2021م حقَّق أرقامًا هزيلة على شباك التذاكر، وهو مؤشر مقلق إذا أردت أن تواصل العمل بمزانيّات ضخمة كي تقدم عمل بصري يرضي طموح الجماهير.
هل هذه النوعية من الأفلام تستحق عناء اللهاث خلف نجاحها؟
خرج علينا المخرج الأمريكي مارتن سكورسيزي خلال مقابلةٍ أجرتها معه مجلة “فارايتي” ساخرًا ممّا تقدمه أفلام الأبطال الخارقون، ووصفها “بالملاهي” فهي ليست سينما.
صدقت الدكتورة ريهام كرم، المخرجة الأردنية والأكاديمية المتخصصة في صناعة الأفلام الرقمية -على هذا التصريح، فأوضحت: “التاريخ العربي زاخر بالشخصيات البطولية التي تضاهي ما تقدمه السينما الأمريكية، وربما هذه القصص هي الأجدر للتقديم للشاب العربي“. لكن الشباب العربي لا يؤمن إلا بالأسطورة، فالأعمال التي تُقدَّم يجب أن تحمل معنى، فالشجاعة نصرة للحق، وليست القفز من فوق أسطح المباني”.
يختلف إيهاب التركي مع هذا الطرح، فيجد في بعض الأعمال من هذا النوع أفكارًا جيدة، وسينما تستحق المشاهدة. ويضرب بثلاثية كريستوفر نولان لأفلام الرجل الوطواط، والتي بدأت بفيلم “فارس الظلام”، في ظهورٍ لافتٍ لشخصية “الجوكر”. حققت الثلاثية نجاحًا جماهريًا كبيرًا، وكذلك تقديرًا وإعجابًا على المستوى الفني.
المصداقية وعمق الحبكة الدرامية
يعود المخرج هشام عبد الخالق لشرح فكرته، فيقول: “إن صناعة فيلم قائم على بطل خارق عربي ليست مزحة، فنحن لدينا كوادر فنية قادرة على تقديم أعمال تضاهي ما يتم إنتاجه في هوليوود، لكن المشكلة تكمن في النص، والمعالجة التي تتناسب مع شوارعنا وأزقتنا الضيقة في القاهرة ودمشق وطنجة، لتكونَ القصص معجونة بتراب هذه المدن، وبعد ذلك لن تجد عائق لدى المشاهد كي يستسيغ الفكرة ويرحب بها لتنال الاستحسان“.
إذا كانت أبواب السينما موصدة، فماذا عن التلفزيون والأدب؟
“من واقع خبرتي والعمل في مشاريع تلفزيونية قدّمتُ بمصر وبعض الدول العربية، وأرى أن المنتج يتحسّس جيبه كلما حدّثته عن عملٍ مبهرٍ وغير مألوف”؛ هكذا بدأت المخرجة “نها إبراهيم” حديثها، وتابعت: “لا أحد يعلم أين تكمن المشكلة، فأعمال الجرافيك لا يفسح لها مجالًا بالقنوات الخاصة إلا في شهر رمضان، ولا تجذب قطاع الإعلانات على مدار السنة، وبحسابات المكسب والخسارة، يضع المنتج أقل كلفة ويستعين بالأقل خبرة في التنفيذ؛ مما يؤدي إلى خروج الصورة النهائية بشكل غير لائق”.
تبدأ “نهلة جمال” أستاذ التربية في جامعة عين شمس بالقاهرة وعضو اتحاد الكتاب حديثها قائلةً: “فكرة صناعة أبطال خارقين وعوالم موازية مبنية على نظريات علمية أو من خلال استدعائهم من التاريخ، وذلك يعني الكثير من بذل الجهد والعمل، ونحن نميل بطبعنا إلى الكسل، ونبعد عمّا فيه إعمال للعقل، وتجديد للفكر، ونتحفّظ عن الخوض في تجارب محفوفة بالمخاطر ومُعرّضة للفشل، فالناشر العربي غير مغامر، ويفضِّل اللعب في المضمون”، نقاط أخرى تعيق ظهور بطل خارق في عالمنا العربي ينال إعجاب وثقة الجميع، ونحن نتحدث عن فن قائم على مبيعات النسخ، والإيرادات، والأرقام كاشفة. وإن ظهر ذلك المغوار بمظهرٍ جذاب، إلا أنه بالتأكيد سيحمل في طيات حكايته حقول ألغام؛ ففي عالمنا العربي اختلط الدين بالسياسة حتى النخاع، وتدور في جنباته صراعات ممتدة، والترويج لطرفٍ على حساب طرف آخر، ربما يكون بمثابة انتحار للبطل.
“دين، وثقافة، واقتصاد”، بهذا الثالوث وصفت فيبي أنور السيناريست ومدير شركة هرموبولس الجديدة -التراث من أجل التنمية المشكلة، وتابعت: “لا أحد يريد أن يُتَّهَمَ في قضية ازدراء أديان، فهذه الأفلام لها خلطة، وتلك الخلطة قد تصطدم بالكثير من العقبات أثناء التنفيذ في عالمنا العربي”.
أحاديث لا تنتهي، وعمل جديد خارق يحطّم صندوق الإيرادات
حقّق فيلم سبايدر مان الجديد أعلى ثالث إيرادات في تاريخ السينما الأمريكية، بلغت إيراداته عطلة نهاية أسبوعه الأول في أمريكا وكندا 253 مليون دولار، لينبّئ بأرباحٍ خيالية، ويؤكد أن عجلة صناعة الخارقين لن تتوقف عن العمل.
فما من شك أن هذا العالم يدر أرباحًا خيالية على صانعيه، فعشّاقه يتهافتون على شراء كل ما يلامس عالمهم المحبب وبطلهم المفضل، من حقيبة مدرسة إلى حذاءٍ رياضي. كل شيء بات يحمل علامة البطل، ويلاحق الصغار والكبار بمنتجات جديدة، حتى أصبح شعار لكل شيء تقريبًا. تترجَم هذه المنتجات إلى مليارات تضخ في جيوب المنتجين، وتدفع إلى صناعة المزيد من الأبطال، وخلق عوالم جديدة، ترفع سقف التوقعات عام بعد عام بكلّ ما هو مبهر، لتدير حركة صناعة عالمية لا تتوقف عن حصد الربح. فأين نحن من هذا السوق الضخم؟