ميفيستو: صراع الخير والشر.
النجاح في الحياة، غير كاف لوحده من أجل تحقيق السعادة، لذلك يظل الإنسان في سعي حقيقي وبلا هوادة عن معنى لحياته، أوعلى طريقة تمكنه من العيش بسعادة. هكذا يبدأ في الغالب صراع الشر والخير، حيث إن البوصلة التي تقودنا نحو جوهر السعادة الحقيقي للحياة مفقودة، وهذا ما يدفع الإنسان إلى بذل مجهودات غاية في التطرف بهدف الوصول إلى ما تصبو إليه نفسه؛ “السعادة الأبدية”. هنا يُطرح التساؤل؛ هل يستطيع الإنسان بيع روحه مقابل بلوغ قمّة السعادة؟ ربما قد يُجيب معظم البشر بالنّفي، لأن الإنسان يُحب أن يُرى على أنه طاهر وخالٍ من الشرّ. إلا أن لكل واحد من البشر جزء فيه يطالب بالقليل من الشرّ! أو الكثير! وعلى مرّ العصور، حاول الأدباء والفلاسفة معالجة هذا الصراع النفسي، ويُعتبر الكاتب الألماني “يوهان فولفغانغ فون غوته” أشهر من طرح وحاول معالجة صراع الخير والشر من خلال مسرحيته “فاوست”.
في الحقيقة، لم يكن الوحيد الذي طرح هذه القضية من هذه الزاوية، بل تعددت الأقلام، ولعل أبرز قلم أدبي تحدث عن الشرّ الذي يحاول السيطرة على الخير والتحكم فيه، هو الكاتب الألماني “كلاوس مان” من خلال روايته “ميفيستو” الصادرة سنة 1936م، والتي تحولت الى عمل سينمائي يحمل نفس الإسم “ميفيستو” من إخراج “استفان زابو” سنة 1981م، الفيلم الذي حاز على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، إلى جانب جائزة أفضل سيناريو ضمن فعاليات مهرجان كان.
معلومات حول الكاتب والمخرج
“كلاوس مان”! لعل أول ما قد يتبادر إلى ذهن من قرأ نَسَب الكاتب، هو هل من علاقة تجمعه بالكاتب الألماني “توماس مان” الحائز على نوبل للآداب؟ نعم, فالحقيقة أن “توماس مان” هو والد “كلاوس”! وربما كانت هذه القرابة هي السبب الذي دفع الناس الى تجاهل مؤلفات “كلاوس مان”، حيث كان يُعرف كونه نَجْل الكاتب الكبير “توماس مان” صاحب رواية الجبل السحري العظيمة! ودائما ما كان يُقارن به، وهذا ما تسبّب في إهماله بل ونسيانه، حيث لم يحظَ بالاهتمام الذي كان يستحقه، إلا بعد وفاته بسنوات، إذ يُعد حاليا من بين أعظم كتّاب ألمانيا في القرن العشرين، وأهم ممثل لأدب الهجرة في أوروبا.
عند صعود النازية إلى الحكم في ألمانيا، اضطر “كلاوس” الى مغادرة وطنه الأم، جُرّدت منه الجنسية سنة 1934م ليحصل بعدها على الجنسية التشيكوسلوفاكية، ثم استقرّ بعد ذلك بالولايات المتحدة الأمريكية، التّي حصل على جنسيتها سنة 1943. تجنّد “كلاوس” بالجيش الأمريكي ضمن ما كان يُطلق عليه ب”ريتشي بويز ritchie boys” التّي كانت تضم حوالي 10 آلاف ألماني غالبيتهم من أصول يهودية، مدربون من أجل خوض الحرب السيكولوجية، حيث تتمحور مهمتهم في دراسة الخصم وإخضاعه نفسيًّا.
لكنّ “كلاوس مان” تحطّم في الفترة التي تلت الحرب، حيث سقط ضحيّةً للمخدرات والكآبة، ولم يجد له مكانا في أوروبا الجديدة، لينتحرَ بعد ابتلاع كميّةٍ كبيرةٍ من الأقراص المهدّئة سنة 1949م.
أمّا عن مخرج فيلم “ميفيستو” “استفان زابو”، فلا يعدو أن يكون أحد أبرز وجوه السينما المجريّة على الإطلاق، إلى جانب “بيلا تار” و”ميكلوس جانتكسو”. ولقد ترعرع المخرج في بودابست تحت الاحتلال النازي ثم عاش شبابه في ظل الشيوعية! كما بدأ أفلامه في هنغاريا، قبل أن ينال الاعتراف الدوليّ عن فيلمه “الأب” سنة 1966م، ثمّ توالت النجاحات فحصل عن فيلمه “ثقة” على جائزة الدّب الفضيّ لأفضل مخرج ضمن مهرجان برلين السينمائي سنة 1980م. وبعد سنة من ذلك، سيحصل على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عن فيلمه “ميفيستو” المقتبس عن رواية الكاتب “كلاوس مان”.
ماذا عن أسطورة ميفيستوفيليس؟
“يوهان جورج فاوست” الخيميائيّ النّاجح، وغير الراضي عن حياته، يُبرم عقدا مع الشيطان، حيث يُسلّمه روحه مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذّات الدنيوية.
فيعمد ميفيستوفيليس-“الشيطان” إلى تحقيق كافة ما تصبو إليه نفس “فاوست”، حتى يتمكن من امتلاك روحه بعد انتقاله إلى العالم الآخر.
ميفيستو الفيلم هل هو مختلف عن ميفيستو الرواية؟
إذا كان “كلاوس مان” قد تحدّث عن العقد المبرم بين الثقافة والاستبداد، فإن “استفان زابو” أخذه من جانب القمع الشيوعي مُمثَّلًا في النّموذج النازي. ويركز الفيلم أكثر على الجزء الثاني من الرواية، حيث تبحث الشخصية الرئيسة على المفاوضة مع النظام النازي للنّجاة بحياتها والحفاظ على مهنتها، وكذلك الدفاع عن براءة أصدقائها، ومحاولتها إنقاذهم من العقاب الذّي هو مصيرهم المحتوم، ممّا يجعلها أكثر ودا ورحمة مما هي عليه في الرواية.
“أنا مُجرّد ممثل”
هكذا اعتاد “هيندريك هوفغن” بطل الفيلم تبرير تصرّفاته حيث لم يكن يعتبر نفسه منظِّرا لأيديولوجيا ما، فهو مجرّد ممثّل يبحث عن الدّور المثاليّ، لذلك ظلَّ همه الوحيد متمثلًا في الحفاظ على مهنته داخل وطنه الأم، مهما كانت الجهة السياسة المسيطرة على البلد.
“هيندريك هوفغن” ممثل موهوب في مسرح هامبورج، لكنّه لا يحظى بالمكانة والشّهرة التّي يرجوهما، بل ويستحقهما. فلذلك هو شديد العصبية والقلق، يشتغل لساعات طوال على تطوير مهاراته في الرقص الإيقاعي حتى أنه اعترف بأنه لا يعرف أحاسيسه ولا حتى أفكاره، فلا وجود لدواخل نفسية لديه، إنه فارغ الجوف وبالتالي فاقدٌ للروح، حيث يقول “اسمي ليس اسمي لأنني ممثل”.
يقرّر “هوفغن” الانتقال الى برلين سعيا وراء الشهرة التي لطالما تمنّاها، بدأ مسارا جديدا على الرغم من أنها بداية من الصفر، إلّا أنّها تجربة تستحق المحاولة. وهكذا أخذ “هوفغن” يعمل بجهد وثبات من أجل الحصول على الأدوار التي ستمنحه كل ما حلم به منذ زمان، أن يصير الممثل رقم واحد في ألمانيا، وبالفعل، استطاع “هوفغن” أن يعتلي المكانة التي جعل منها هدفه منذ ولوجه عالم التمثيل، صار له اسم فنيٌّ معروف، يتخاطف على التوقيع معه أشهر المنتجين والمخرجين، ثم يأتي نظامٌ سياسيّ جديد، النازية تحكم ألمانيا! حيث تمّ وضع اسمه ضمن اللائحة السوداء لدعمه مبادئ حكومة فايمار. فغادر البلد على مضض، حيث مكّنته شهرته من الحصول على عقود لتصوير أفلام أجنبية، لكنّه ظلّ يفكِّر في وطنه الأم، فهو في آخر المطاف لا يعدو كونه ممثلا لا تربطه بالسياسة أية علاقة! لماذا إذن يستمر في الهروب، هو الذي يحب وطنه ولغته؟ ثم جاءه اتصال هاتفي يطمئنه مُخبِرا إيّاه بإمكانية عودته إلى الوطن دون أن يُعاقب، لأنّه ممثل قدير! عاد إلى وطنه، مفضّلا مهنته على زوجته، التّي قررت الوقوف في وجه النازية، ولكن عودته لم تُبقِ على شخصيته كما كانت، تغيّر كلّ شيء، اختفى الغرور، وحلَّ محلّه النّفاق والتملّق لمن هم أعلى منه شأنا أي رجال السلطة وحاشيتهم، أو لكلّ من قد يتوسّط له للحصول على أدوار جديدة.
قبل صعود النازية، اشتُهِر “هوفغن” بدور “ميفيستو”، الشيطان الذي يبرم اتفاقا مع العالم “فاوست”، ليمنحه كل ما يريد مقابل الحصول على روحه. وهكذا تمكّن “هوفغن” بعد توسّط ممثلة صديقة له لدى المسؤولين، بإعادة أداء دور “ميفيستو” على خشبة المسرح، وقد حضر لها جنرال مرموق، الذّي أُعجب بأداء “هوفغن” فطلب منه القدوم إليه، وعند هذه النقطة يتغيّر كلّ شيء، الآن أصبح “هوفغن” صديقَ السّلطة، لم يعد من سببٍ يجعله يخشى العقاب أو فقدان عمله، إلّا أنّه لم يعد حرّا في اختيار أدواره، فهو رمزٌ فنيّ للنازية، استغلّته الحكومة كأحد أبرز أوجه البروباغاندا لدرجة منحه منصب مدير مسرح برلين الكبير.
منصبٌ جعله أكثر خضوعا، اختفى “هوفغن” الممثّل الذّي يبحث عن أكثر الأدوار تحدّيا لنفسه، وتحوّل الى شخصية بيروقراطية متحكَّم فيها، تطوره هذا هو بمثابة طريق معبّدة وثابتة نحو الجحيم. نعم، فإدارته للمسرح لم تعفه من دوره كبيدق بِيَد السلطة، تحركّه كما تشاء ضمن سيناريو محبوك بإتقان.
فقَدَ “هوفغن” ما تبقّى من أمل في شفاء روحه من الشّر المستفيض فيها، أبْلَغ عن ممثل كان يريد الوقوف ضد قمع النازية، فقُتِل هذا الأخير! أصبح واشيًا خوفا من أن يُنعت بالعدو، اضطرّ الى تطليق زوجته حتّى لا يسمّى خائنا!
لقد باع روحه للشيطان – النازية – مقابل الحصول على مزيد من الشّهرة والمكانة في مجال الفن، يَخجل من سلوكه، لكنّه غير قادر على تغييره! فهو مجرّد ممثل، أليس كذلك؟
“كلاوس ماريا براندوير”، الممثل الرّئيس الذّي أدّى دور “هيندريك هوفغن”، يمكن اعتبار دوره هذا، ودون مغالاة، أحد أهمّ بل وأعظم الأدوار في السينما الأوروبية على الإطلاق، جمع بين قوة الشخصية وبراعة الأداء. ستحبه وتكرهه، تلعنه وتُثني عليه. سيُثير اشمئزازك وشفقتك! لكنّه بالنهاية اقتمص شخصية مثيرة للاهتمام طوال الوقت.
نرشح لك ما معنى الخير والشر؟: النسبية الأخلاقية في الثقافة الشعبية