الوجود والماهية : أيهما جاء أولا الدجاجة أم البيضة؟
لا يختلف كثيرًا ديالكتيك الوجود والماهية أو الجدل الفلسفي حول الماهية والوجود، عن جدل العلماء بشأن “الدجاجة والبيضة“، فكلاهما يشترك في سؤال الأسبقية، أيهما سبق الآخر؟ غير أن الأخير قد حسمه العلماء أخيرًا أما الأول، فلا جدال في الفلسفة يحسم بشكل نهائي.
هل وجود الإنسان سابق على ماهيته وهو بذلك يشكل ماهيته كيفما شاء؟ أم أن ماهيته أو حقيقته تفرض نفسها عليه وبالتالي يصبح محكومًا بها ولا يملك إلا التأقلم معها؟ وهل من الممكن أن نلغي عنصر الأسبقية في العلاقة بين الوجود والماهية؟
ما الوجود وما الماهية؟
قبل أن نخوض في تفاصيل هذا الجدل الفلسفي وأطرافه دعونا نعرّف أولًا الوجود والماهية . لم يتعمق الفلاسفة أو يسهبوا في تعريف الوجود لاعتقادهم بأنه مفهوم واضح بدهيًا، وهو يعرف نفسه بنفسه. ما هو الوجود؟ هو ببساطة ما هو موجود، ما نشعر وندرك وجوده . “الوجود هو كون الشيء مُدركًا“(١). إذن يمكننا القول بأن الوجود يعرف بالإدراك والشعور أكثر منه باللغة والكلمات، أما الماهية فتعريفها يكمن في الإجابة على السؤال “ما هو“؟ ما هو الإنسان؟ الإجابة على هذا السؤال هي ماهية الإنسان أو حقيقته بصورة أدق. وبحسب قول الفارابي، الماهية ترادف جوهر الشيء أو ذاته: “إن معنى جوهر الشيء هو ذات الشيء وماهيته وجزء ماهيته، فالذي هو ذاتٌ في نفسه وليس ذاتًا لشيء أصلًا هو جوهر على الإطلاق“(٢).
يرتبط المصطلحان بمبحث الأنطولوجيا أو الميتافيزيقا ارتباطًا وثيقًا؛ فالميتفيزيقا هي البحث في الوجود، وتسلك اتجاهين: اتجاه أصالة المادة والاتجاه الروحي أو الاتجاه التأليهي (الله). اتجاه أصالة المادة يعتمد على تفسير الوجود على أساس مادي بحت، أي أن الوجود ينشأ نتيجة حركة ووظائف المادة، أما الاتجاه الروحي فهو يعتمد في تفسير ظواهر العالم على أساس مبدأ روحاني (الله)(٣).
الأصالة للوجود أم الماهية؟
انقسم الفلاسفة إلى ثلاث فرق بشأن ديالكتيكك الوجود والماهية ، مؤيدون لأصالة الوجود أو أسبقيته على الماهية مثل سارتر، ومؤيدون لأصالة الماهية واعتبارية الوجود (أي أن الوجود لاحق على الماهية) كالإشراقيين، وفريق محايد لم يعط الأولوية أو الأفضلية لأحدهما على الآخر كهيدغر. لن يسعنا المقال لنناقش آراء كل الفلاسفة لذلك سنعتمد نموذجًا فلسفيًا واحدًا من كل فريق لنوضح بشكل أفضل فكرة الديالكتيك الأساسية.
بول سارتر:
لا عجب من موقف سارتر الفلسفي من الديالكتيك، ذلك أن محور فلسفته الوجودية تتمثل في مركزية الإنسان في الوجود باعتباره المتحكم الرئيسي في مصيره الوجودي وهو القائل: “الإنسان ليس إلا مشروع الوجود الذي يتصوره ووجوده هو مجموع ما حققه“ (٤). الوجود عند ساتر هو الوعي أو الإدراك بموضوع ما، أي أن للوعي والمعرفة الأسبقية في ممارسة وجوده ممارسة فعالة، وماهية الإنسان تأتي كنتيجة لهذه الممارسة. فالوعي إذن هو الذي يشكل ماهية الإنسان، والجدير بالذكر أن سارتر قد استمد فلسفته من الكوجيتو الديكارتي “أنا أفكر إذن أنا موجود“. غير أن سارتر بخلاف ديكارت تجاوز الأنا الديكارتية بصفتها جوهرًا فعالًا فقط ضمن نطاق تحدده الماهية، إلى “الأنا الواعي“ أو الوعي بصفته وجودًا في حد ذاته، وممارسة فعلية على الماهية “كأن سارتر حين يقرر وجود الأنا يقرر وجود هو وجود الوعي، أو هو ممارسة المعرفة بحيث يصبح هذا الوجود سابقًا على الماهية أو تصبح ممارسة المعرفة سابقة على ظهور طبيعة المعرفة، فالوجود إذن هو ممارسة سابقة على الماهية”(٥).
مارتن هايدجر:
يسلك الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر اتجاهًا مغايرًا تمامًا عن أقرانه من الفلاسفة في تفسير علاقة الوجود بالماهية؛ فهو لا ينتمي إلى فريق المؤيدين لأسبقية الوجود على الماهية أو أسبقية الماهية على الوجود، بل يذهب هايدجر لما هو أبعد من ذلك. إذ يرى أن الوجود والماهية شيئان منصهران أو ملتحمان مع بعضهما البعض بحيث يصعب أن نفصل بينهما أو نتحدث عن واحد منهما دون الآخر، ويبتكر هايدجر مصطلحًا فلسفيًا جديدًا ليوضح موقفه وهو “الدازين (Dasein)” أو الآنية كما ترجمها عبد الرحمن بدوي للعربية وهو ما خصص له هيدجر فصلًا كاملًا في كتابه “الكينونة والزمان” ويقصد هايدجر بالدازين الكائن الذي يمارس وجوده من خلال جملة من الإمكانات أو الخيارات التي اختارها بنفسه أو تلك التي كانت مهيأة له مسبقًا (٦). باختصار، الماهية بالنسبة لهايدجر هي جوهر الوجود، إذن فالماهية هي جزء متصل بالوجود: “ماهية الدازين تكمن في وجوده”(٧)، و إذا أردنا أن نبسط الأمر أكثر يمكننا أن نشبه العلاقة بين الماهية والوجود عند هايدجر بعنصرين كيميائيين متفاعلين ومتحدين ليشكلا الكائن الذي يسميه هايدجر بـ“الدازين”.
السهروردي:
يعد السهروردي من أشهر مفكري المدرسة الفلسفية الإشراقية التي تسلك الاتجاه الماهوي (أصالة الماهية على الوجود)، يرى السهروردي أن الوجود ليس شرطًا أساسيًا لتحقيق الماهية ولا يسهم إسهامًا رئيسيًا في وجود هذه الماهية أو إضفاء القيمة عليها” الوجود من لوازم الماهيات لا من مقوماتها“(٨)، ويدعم السهروردي قوله هذا بأن الماهية ثابتة لا تتغير في حين أن الوجود متغير ومتلون (٩). يصور لنا السهروردي الواقع المادي أو الحسي يشبه مسرحًا تتحرك فيه الماهيات ضمن نطاق ضيق محدد لها (١٠).
كيف يؤثر ديالكتيك الوجود والماهية على حيواتنا؟
ثنائية الوجود والماهية من المسائل الميتافيزيقية المعقدة والمهمة جدًا، ليس على الصعيد الجدلي الفلسفي أو النظري فحسب بل العملي والتجريبي أيضًا، كل واحد منا يتبنى موقفًا فلسفيًا من المواقف الثلاثة آنفة الذكر ـوإن كان ذلك يحدث أحيانًا بدون وعي وإدراك منا-، أي موقف فلسفي نؤمن به أو نتبعه سيؤثر بشكل كبير على نظرتنا للوجود والحياة ككل وتصورنا عن مدى قدرتنا على التحكم في مصائرنا وقراراتنا الحياتية.
نرشح لك: الدِّين: الماهية، التكوين، النشأة
المصادر: (١) كتاب الوجود و العدم ص٢٢، ترجمة عبدالرحمن بدوي (٢)https://www.univ-chlef.dz/RATSH/la_revue_N_10/Article_Revue_Academique_N_10_2013/Lettre_philosophie/article_03.PDF (٣) https://www.youtube.com/watch?v=OvZbqYeoXo8&t=1237s (٤) كتاب الوجودية مذهب إنساني ص ٣٨، ترجمة عبدالمنعم (٥) كتاب فلسفة بول سارتر ص ٣٩٥، حبيب شاروني (٦) كتاب الكينونة و الزمان ، ص ٧٠،ترجمة فتحي المسكيني (٧) المصدر السابق ص١١٨ (٨) كتاب أصالة الوجود عند الشيرازي : من الفكر الماهوي إلى الفكر الوجودي ص٨١ (٩) المصدر السابق ص ٧٩ (١٠) المصدر السابق ص ٧٩+ ص٨٠