قدرات غير عادية: ثالث أفلام رحلة يحيى للبحث عن الحقيقة.. في ثلاثية داوود عبد السيد
السينما في أساسها حكاية، والحكايات لنا فيها آراء وتفسيرات مختلفة، قد نستمتع بالفيلم كقصة ممتعة أو مسلية أو مثيرة فقط، وقد ننظر إلى ما هو أبعد من ذلك من رمز وتأويلات فلسفية، لنجد إجابة عن سؤال نظن أن الفيلم طرحه وترك لنا الإجابة، لذلك أرتبط بشكل شخصي بسينما المخرج الفيلسوف داوود عبد السيد بأفكاره وأبطاله، ويبهرني بعالمه الغامض الساحر. ربما ازددت حبًا وتعلقًا بشكل شخصي بأفلامه، وخصوصًا ما أراه ثلاثية مثل “أرض الخوف” و”رسائل البحر” و”قدرات غير عادية” لكون بطلهم واحدًا هو يحيى، وهذا ليس مصادفة، فدائمًا ما ربطت بينهم، حتى أكد داوود في أحد حوارته أن يحيى شخص واحد في عوالم مختلفة يسعى لاكتشافها، هذا الارتباط الذاتي الذي هو منبع سينما داوود، فهو يقول دائمًا أنه ليس مخرجًا أو سيناريستًا محترفًا، وكان يريد العمل كصحفي في بداية حياته، هو فقط يصنع أفلامه ليُشفَى من الحُمَّى التى تنتابه حين تستولي عليه الفكرة، ويراهن على جمهوره الذي أنتمى لهم، من الشبان متوسطي العمر، المتعلمين جيدًا، المثقفين، المتحررين!
تشترك أفلامه في طرح الأسئلة الوجودية التي تتعدد إجاباتها أو لا إجابة لها، ويرى أن هذه الأسئلة هي المادة الأساسية للفلسفة والفن، وحتى الدين الذي يُقدِّم مجموعة من التفسيرات حول سبب الخلق والحياة والموت، يأسرني هذا الجموح للأسئلة الفلسفية التي بالضرورة تكسر التابوهات الثلاثة، الدين والجنس والسلطة، فهو يؤمن بحرية الفرد وأن يكون سلطة نفسه. يقول داوود عبد السيد عن فيلمه “أرض الخوف”: تجربة أعتقد أنها تجربتي وتجربة جيلي، ليس في العمل كضابط بوليس أو تاجر مخدرات بالطبع، ولكن هي تجربة الجيل الذي كُلِف بمهمة ثم نُسي تمامًا، وأعتقد أن لنكسة 67 تأثيرًا كبيرًا على هذه التجربة التي قصدتها، ويحلل البعض الفيلم أنه رحلة آدم في النزول من الجنة، والتكليف بمهمة في عالم جديد، وهي الرحلة التي خاضها “يحيى” في “رسائل البحر” و”قدرات غير عادية” أيضًا.
قدرات غير عادية (2016)
“كنت ببحث عن القدرات غير العادية في البشر، بس في النهاية ملقتش إلا الحيل والخداع وأحيانًا الخيالات والأوهام، ودايمًا لقيت الفقر والجهل والتخلف”
رأيت أن الفيلم يعرض رحلة تشبه رحلة بحث الفيلسوف عن الحكمة، يبدأ الفيلم بالقول المقتبس السابق من يحيى بطل الفيلم الذي يجسده خالد أبو النجا، ثم نعرف أنه دكتور يقوم ببحث عن أشخاص لديهم قدرات غير عادية بتمويل من جهة ما، تشجع البحث العلمي، لكن بحثه لم يصل لنتائج فيقرر تغييره، ولكن رئيسه يرفض ويقول له أن يغير من طريقة البحث وليس موضوعه، وأن جميع أجهزة الدولة ستجنَّد لمساعدته في البحث، ويعطي له إجازة لمدة شهر.
يبدأ يحيى رحلته بالسفر دون هدف للإسكندرية حيث لا يعرفه أحد، وهناك يقابل مجموعة أشخاص جديدة يعيشون في بنسيون، يبدأ يحيى في التعرف على مالكة البنسيون “حياة” امرأة جميلة مطلقة تجسد شخصيتها نجلاء بدر وابنتها فريدة التي يبدأ في ملاحظة قدراتها غير العادية، بعد أن يعرف أنها تأخذ الحلوى دون علمه رغم أنه عرضها عليها وقالت أنها لا تحبها، وليتأكد يأتي بتفاح لأنها كانت طلبته منه ويقضم منه أمامها ولا يعطيها ليستفزها ويغويها، ويضعه فوق الدولاب حيث لا يمكنها أن تطوله ويمثل أنه نائم عندما تدخل غرفته، ولا تستطيع الوصول له فعلًا فتستخدم قدرتها على تحريك الأشياء ويندهش يحيى فتخبره أنها تعرف أنه مستيقظ.
كان مشهد التفاحة المتكرر هو بداية فكرة الغواية التي تشبه غواية الشيطان لآدم، ولكن الغواية هنا متبادلة فيحيى يتم إغواؤه من قبل فريدة بينما يأكل من التفاحة التي تساعده ليغوي فريدة، للكشف عن قدراتها غير العادية وهي تفعل ذلك، ثم تبدأ رحلة يحيى تصبح ذات معنى كما أخبر حياة عندما قابلها صدفة “أنا نزلت إسكندرية مش عارف ليه، بس وجودك خلى للنزولة معنى”.
اختيار الطفلة لتكون شرارة القدرات غير العادية كما أن اختيار اسم فريدة، أراها رمزية لفكرة أن الطفل فيلسوف بالفطرة وهذا يذكرني برواية عالم صوفي التي كانت بطلتها طفلة تخوض رحلة التعرف على الفلسفة بالدهشة، تبدأ الفلسفة والطفل ما زال لديه هذه القدرة على الدهشة، فهو دائمًا متسائل، ويمكن أن يصدق الأفكار المجنونة بعكس الكبار الذين اعتادوا على العالم وتأقلموا مع المجتمع ونظامه الثابت، وكبتوا أفكارهم وأسئلتهم المختلفة بسبب إحساسهم بالنبذ.
تتطور علاقة يحيى بحياة ويصبح بينهم علاقة جنسية، تدعي حياة في البداية أن هذا كان مجرد احتياج جسدي فقط وليس به أي مشاعر، ولكن نلاحظ أنها تفعل ذلك لأنها تعودت أن تكبت رغباتها كأنثى، كما تتحدث لنفسها عن عدم رغبتها في أن ترث فريدة ابنتها قدراتها التي كانت تخفيها، لأنها تسبب المشاكل والتعاسة لدرجة أن زوجها الذي طُلقت منه منذ خمس سنوات شك أنها ابنته، وقال أنها بنت الشيطان، ومن وقتها قررت أن تترك كل شيء مختلف عن الناس حتى الرسم، وهذا ما تحدثت عنه بالفقرة السابقة.
يقول يحيى لحياة “أنا بقى عكسك، طول عمري بدور على الناس المختلفة، عارفة ليه؟ عشان أنا عادي جدًا زي بقية الناس” وبعد لقائهم الأخير تذهب حياة للجهة الأمنية التي تبحث عنها بعد أن كانت متخفية في نقاب “لقيت نفسي هربانة وأنا بدافع عن حريتي بإني أسجن نفسي جوا نقاب، وإني خايفة وأنا حرة أكتر من خوفي لو سجنوني” و يصاب في حادثة بالقرب منهم، ويحجز في المستشفى ثم يبدأ في اكتشاف قدراته غير العادية في تحريك الأشياء، ويتساءل، هل كانت القدرات غير العادية نابعة منه أم من فريدة وحياة، بينما تشك حياة في قدراتها بعد إجراء اختبارات الجهة الأمنية.
ترفض حياة أن تستمر في ارتداء النقاب لأنها تعودت أن تكون حرة، وليس الحل في أن تسجن نفسها طوال العمر بل أن تواجه. ويبدأ يحيى في اكتشاف قدراته عندما يكون في موقف عجز وهو يحاول أن يأتي بكوب الماء البعيد عنه قليلًا، ويعرف أنه يستطيع تحريكه، ولكن بعد طول اختفاء حياة وفريدة عن يحيى لا تستمر قدراته التي اكتشفها ويشك في أنها كانت مجرد أوهام، ثم يقرر أن يأخذ إجازة من هذه المشاكل ويخرج ليذوب في شيء أكبر منه، يذهب يحيى للمولد حيث الطقوس الصوفية، ويقول لنفسه “ليه الفراش بيحوم حوالين النور والنار، وليه الناس بتسيب بيوتهم وراهم وييجوا للولي” فيستدعيه مولانا شيخ الطريقة ليوجه له رسالة.
“هل أنجزت مهمتك يا دكتور؟
– مهمتي مابتنتهيش يا مولانا
كلنا هذا الرجل، عبيد تنتهي مهمتنا عندما نلتحق بالسيد.
…
هنا واحة للمؤمنين، نبع للأرواح العطشة، أما أنت يا دكتور فقد جئت لترى وتراقب، أنت لا ترغب فيما يريده الناس، أنت جئت لتعرف لا لكي تستريح، أنت جئت لتراقب والمراقب لا يذوب فيمن حوله، ولا يتقرب لمن حوله، بل يتجنب ويتحاشى القرب، والمراقب دائمًا متشكك، هنا مكان للمؤمنين وليس مكانًا للمتشككين، هذا ليس مكانك يا دكتور، إحنا مش عايزين مشاكل مع الحكومة”
كان قول يحيى عن الفراش الذي يحوم حول النور بالنسبة لي استكمالًا للأغنية التي كانت تغنيها فريدة في بداية الفيلم ” كان فى فراشة صغنططة.. مفرفشة ومزقططة.. لابسة بلوزة منقطة.. على جونلة مخططة.. منقطة ومخططة” فيحيى هو الذي يحكي لنا حكاية الفراشة ويقول الجزء الذي لم تستكمله فريدة “وسط الجنينة لمحتها.. وهى طايرة ف الهوا.. ناديتها بصت تحتها.. قالت لى طيب يا اسمك إيه.. انا هستخبي واختفي.. فى أي مطرح التقيه.. وإن كنتي شاطرة تعرفي”
وكان حوار الشيخ الرسالة الروحانية التي رأيتها تعبر عما يطمح إليه الفيلم من البداية، فيحيى ذهب للإسكندرية ليس ليستجم، ولكن ليبحث وهو عكس فريدة التي كانت تستخدم قدراتها في اللعب والمرح للمتعة، وكان في أغلب الأوقات لا يجلس مع سكان البنسيون في جلسات السمر اليومية التي يقيمونها ويستمتعون بقدراتهم الفنية المختلفة، حيث يعزف ويغني أوبرا رامز شريف، ويغني الشيخ رجب البنهاوي منشد موشحات دينية “يا حلاوة الدنيا”، والأخيرين كانا على خلاف دائم حيث يسخر الشيخ رجب من رامز شريف بسبب عدم حبه للغناء الأوبرالي، والمفارقة أن يحيى سمع صوتهم ممزوجًا أثناء سيره في المولد، ويعرض سنيور أنطونيو المخرج فيلمه عن عاهرات البحر المتوسط، ويتبادلون الآراء حوله رغم اختلافها، فمثلًا الشيخ رجب لا يعجبه موضوع الفيلم بسبب مرجعيته الدينية ورأيه أن هناك أشخاص آخرين أولى يصنع عنهم أفلام، بينما راجي منصور الأستاذ في كلية الفنون الجميلة يعجبه وجه أحد الفتيات ك “موديل”.
كانت حياة اكتشفت أن قدراتها التي كانت تخبئها ما زالت نارها تحت الرماد عندما أحبت يحيى وكانت تستدعيه ويحيى لم يكتشف قدرته إلا بعد أن رأى حياة وفريدة، فمن الممكن أنها ليست قدرة أحدهم فقط ولكن قدرة الحب المشتركة، والتي عندما استخدمتها في الحب صارت فعالة ولكن عندما حاولت استخدامها في أغراض الجهة الأمنية فشلت، كذلك فريدة عندما كانت تستخدم قدراتها في اللعب والمرح كانت تؤدي لسعادتها أما عندما انتزعت من عالمها الطفولي كما يقول يحيى وتم استخدامها كوسيط في قضايا سياسية أصيبت بالاكتئاب، كأن هذه القدرات لا تعرف إلا العالم البريء، ولا يمتلكها من يمكن أن يستخدمها في عالم شرير مثل عمر البنهاوي رجل الجهة الأمنية الذي كان يدعم بحث يحيى، وتزوج حياة في البداية للسيطرة على فريدة ولكن انقلبت حياته إلى جحيم، وكانت تحدث حرائق في بيتهم عدة مرات كل شهر بعد أن زارهم يحيى باستدعاء من عمر، وبدأت فريدة تخرج من حالة الاكتئاب وتستعيد الرغبة في الحياة، لم تتوقف الحرائق إلا بعد أن طلق عمر حياة، وكأن هذه النار هي انتقام من فريدة وحياة معًا بسبب نار العالم الشرير الذي جعل فريدة تدخله.
يعود يحيى للبنسيون على البحر ولكن هذه المرة هو يعود لحياة وفريدة، فتسأله حياة عن الفترة التي يقضيها ليقول لها أنه سيطول سكنه هذه المرة، كأنه عاد ليستريح ويتقرب ممن حوله ويدرك الجملة الأخيرة في الفيلم “مش جايز كل دول عندهم قدرات غير عادية” هي القدرة على الحب وفهم وتقبل الآخر المختلف، نشاهد في النهاية مشهد عودة السيرك الذي تم منعه من الشرطة بسبب هجوم المتطرفين دينيًا، مثلما قال مهرج السيرك ليحيى عندما كان يودعه قبل أن يرحل السيرك.
“الأسد في القفص ومع ذلك الحمار خايف منه.. هو عارف إنه كدا كدا هياكله”
تشترك الأفلام الثلاثة في تيمة رحلة البطل/ آدم الذي يتغرب عن عالمه ليبحث عن معنى مفقود فيما يشبه رحلة آدم أو الرسول قبل أن يهبط عليه الوحي، أو الفيلسوف ولكنه لا يسكن برجه العاجي بل يجوب الأرض، يعتمد داوود في سرد الأحداث على الراوي وهي الطريقة الأنسب للذاتية وتوضيح الصراع الداخلي، كما نلاحظ وجود مشهد التفاحة في الثلاثة أفلام باختلاف طريقة العرض وقبول البطل تارة ورفضه تارة أخرى، وممارسة الغواية تارة أخيرة، لكن في كل الأحوال كان هذا المشهد رمزًا للتمرد ونقطة تحول في الأحداث، كما أن البطل دائمًا ما يجد الخلاص في الحب وفي حضن الحبيبة فريدة، ونورا، وحياة.