ينبغي أن يأخذ الدستور بيد الدول في الحكم لا العكس
تحكم الولايات المتحدة الأمريكية والهند -وهما من أكبر وأقدم الدول الديمقراطية في العالم- على أساس دساتير مكتوبة. كان دستور الولايات المتحدة واحداً من الإلهامات التي قام على أساسها دستور الهند -الذي تم صياغته بين 1947 و1950. يحترم كل من الهنود والأمريكيين “حقوقهم الدستورية” – خاصة الحق الأساسي في حرية التعبير وفصل الدولة عن الدين. كما يدعم كلا البلدين التقاليد الجوهرية التي تركز على بنود معينة من الدستور. ففي الهند، أثارت المادة 356 التي تسمح بتعليق مجالس الدولة التشريعية للسماح بـ “حكم مركزي مباشر” بينما في الولايات المتحدة، يعد التعديل الثاني مصدرًا للخلاف السياسي والقانوني الدائم. وتتمتع المحكمة العليا في الهند وأمريكا بسلطة المراجعة القضائية للإفصاح عن أعمال فروع الحكومة الأخرى الغير شرعية. و لهذا السبب فإن كلا الدستورين “غير ديمقراطيين” في تعبيرهما عن الكثير من السلطة السياسية للمحكمة القضائية –المكونة من مجموعة موظفين عموميين غير منتخبين.
يتباين الدستوران الأمريكي والهندي في الثبات و المرونة؛ حيث يصعب تغيير دستور الولايات المتحدة بسبب التأثر الأمريكي الديني الذي يعتبر الدستور وثيقة مقدسة، فهو ببساطة لا يتطور، مما يجعله غير مناسب للإحتياجات المتغيرة لتقدم ونماء العالم. بينما يعاني دستور الهند من خلل مُعاكِس؛ ففي أقل من 75 عامًا، تم تعديله 103 مرة. هذا النوع من عدم الاستقرار السياسي هو بالتحديد مصدر القلق الذي استشهد به أولئك الذين يقاومون المحاولات لجعل تعديل الدستور الأمريكي عملية أسهل.
ما مدى المرونة التي يجب أن يتحلى بها الدستور؟ كم مرة وكيف ينبغي أن يتغير؟ هل يُعتَبَر الدستور المكتوب – على عكس الدستور البريطاني غير المكتوب – دعوةً إلى الأقطاب السياسية لعدم الاستقرار أو الركود؟ لا توجد إجابة بسيطة على هذه الأسئلة لكن التاريخ يقدم لنا بعض التوجيهات. كان القانون -عندما ظهر في حضارات بلاد ما بين النهرين العريقة القديمة- أداة للحكومة. وفي الحقيقة تشير مثل هذه النظرة الغامضة والواقعية للقانون إلى أن الدساتير القانونية هي تقنيات للحكم تمّ تصميمها وتنفيذها لتحقيق نتائج متفاوض عليها اجتماعيا. واعتمادًا على تاريخ واحتياجات المجتمع الذي يضم الدستور، توجد أنواع مختلفة من الدساتير التي شكلت تاريخًا للتطور السياسي والقانوني والاقتصادي ، والتي تخضع بدورها للتغيير.
يُظهِر تاريخ الدستور الأمريكي وتاريخ الدستور الهندي نظامين سياسيين وقانونيين متصلين يتطوران مع مرور الوقت، كما وأنّ اختلافاتهما مُتَضَمَّنَةٌ في التجارب التاريخية لبلدهما. ويتضمن تاريخ الدولة الهندية ودستورها تأثيرًا أمريكيًا عمليًا تستفيد منه الولايات المتحدة الآن في إعادة التعرف عليها.
في عام 1947، كتب القاضي فيليكس فرانكفورتر إلى عضو في لجنة الصياغة في الهند -السير بينيجال نارسنج راو- لينصحه بحذف الإشارات إلى “الإجراءات القانونية الواجبة” من مسودة العمل لدستور الهند. كان منطق القاضي فرانكفورتر بسيطاً؛ في ما يسمى بـ “عهد لوشنر” (1897-1937) ألغت المحكمة العليا الأمريكية عدة مرات -من خلال الاستفادة من سلطتها في المراجعة القضائية- تشريعات الرعاية الاجتماعية التي سنَّتها هيئة تشريعية أمريكية نشطة. وجاءت برامج الرعاية الاجتماعية للهيئة التشريعية كاستجابةٍ لاحتياجات نظام يائس اقتصادياً؛ حيث ردت المحكمة بإعادة تأكيد احتياجات “درجة رجال الأعمال” و “الأثرياء”. كما ولم يتم القبض على مثل هذه الميول المعادية للديمقراطية إلا من خلال “تفعيل الوقت الذي أنقذ تسعة”. هكذا وصف توماس ريد من كلية الحقوق بجامعة هارفارد إلغاء المحكمة العليا الأمريكية لقراراتها في هذا المجال في مواجهة تهديد الرئيس فرانكلين روزفلت بوضع قضاة إضافيين أكثر تعاطفا مع مبادراته التشريعية في المحكمة العليا. بعبارة أو بأخرى، فإن السياسة نجحت في خلق تحولٍ دستوريٍ تاريخيٍ.
وفي نفس العام، عندما كانت الهند تتطلع إلى إقامة الجمهورية الناشئة، خططت الجمعية التأسيسية الجديدة لإصلاحات خاصة بالأراضي على مدى واسع. حيث سعت هذه الإصلاحات إلى الحد من القوة الراسخة لأصحاب العقارات في الهند وإغاثة من يعملون لديهم في مقاطعات الهند. وعلى أقل تقدير، فقد انطوت هذه الإصلاحات على بعض عمليات “ضبط” أو “الاستيلاء على” الملكيات العقارية. قد يتوقع المالك الهندي الذي يمتلك نسخة من بند الإجراءات القانونية الأمريكية أن يجد المحكمة العليا الهندية الجديدة مستعدة للوقوف إلى جانبه -تماماً كما حاولت المحكمة العليا في الولايات المتحدة لأول مرة التعامل مع الصفقة الجديدة- وأحباط الإصلاحات الديمقراطية للسلطة التشريعية. ومن شأن هذا التدخل القضائي -المعروف باسم “الإجراءات القانونية الواجبة”- أن يهدد تقدم الهند بعد الاستقلال ويقودها نحو جمهورية تضمن رفاهية جميع مواطنيها. ومن جدير بالذكر أنّ واضعي الدستور الهندي أخذوا نصيحة فرانكفورتر بعين الإعتبار.
ونجد أنّ نص النسخة الأولى من بند الإجراءات القانونية في دستور الهند جاء كما يلي: “لا يجوز لأي دولة أن تحرم أي شخص من حق الحياة والحرية والتملك دون مراعاة الأصول القانونية”. ثمّ ما لبثت وُحذفت كلمة “التملك”. علاوة على ذلك، لتجنب التفسير الواسع لـ “الحرية” الذي أظهرته المحكمة العليا الأمريكية في قضية لونشر والولايات المتحدة عندما ألغت تشريع الحد الأدنى للأجور، تم اعتبار “الحرية” بمثابة “حرية شخصية” – وليس حرية الشركات. أخيرًا، وللتقليل من تأثير “الإجراءات القانونية الواجبة”، تم استبدال هذه العبارة بـ “الإجراء الذي يحدده القانون”. كما وتنص المادة 21 من دستور الهند على ما يلي: “لا يجوز حرمان أي شخص من حياته أو حريته الشخصية إلا وفقًا للإجراء الذي حدده القانون.” كما وتم قبول إصلاحات الأراضي في الهند – بشكل جزيء- التي تساعد نظامًا ديمقراطيًا حديث الاستقلال -وهو الأكبر في العالم- على تجاوز الإقطاعية.
يمكن للولايات المتحدة أن تتعلم شيئًا ما من درس التاريخ البسيط هذا. يمكن أن نرى أن كل دستور يقدم مجموعة معينة من الحلول في المجال الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وبالتالي؛ لم تقم الهند بنسخ دستور الولايات المتحدة؛ بل طبقت ما سعت له وليس أكثر. علاوة على ذلك، إذا كانت الدساتير أدة للحكم، فيجب عليها ببساطة أن تتغير بمرور الوقت، من خلال التجربة والوقوع في الخطأ. ومن ثم يجب تغيير الدستور بقدر ما يريد رعاياه تغييره لتحقيق النتائج التي يريدونها لمجتمعهم السياسي. كما واقترح توماس جيفرسون أن يقوم كل جيل من الأمريكيين بصياغة نسخته الخاصة لتلبية متطلبات عصره باستخدام الجداول الاكتوارية كل 19 سنة. ومن اللافت للنظر أن الأمريكيون يفتخروا بطابعهم العملي والمبتكر. ويجب أن تشير تلك الصورة الذاتية إلى أن الشيء الذي يجب على جميع الأميركيين فعله هو إلغاء الدستور الأمريكي وإزالته من المنبر ووضعه في مكانه، وهو مجموعة أدوات للحكم، ليتم استخدامها وتعديلها كما صاغ ذلك واضعوا الدستور في الولايات المتحده بقولهم ” صنع إتحاد أكثر كمالًا”.