محمود درويش “لاعب النرد”: الكتابة ووسائل التّكنولوجيا (رؤية إخراجيّة: نسمة رشدي)
هذه القصيدة المتحرّكة لمخرجة الرّسوم المتحرّكة والمصمّمة الإعلاميّة المصريّة نسمة رشدي، المتخرّجة من الجامعة الألمانيّة في القاهرة، تمّ إنجازه عام 2013 وربح الجائزة الأولى بدرجة شرف في “مهرجان الفيلم الشّعريّ” (ZEBRA) في برلين، موسيقاه مأخوذة من المهرجان المباشر لفرقة “تريو جبران” الممزوجة بإلقاء محمود درويش. “لاعب النرد” من آخر قصائد محمود درويش (1941-2008) وهي قصيدة طويلة جدًّا حاولت المخرجة الشّابّة ترجمتها وتلخيصها وانتقاء القطعة الأكثر قوّة فيها والأكثر طواعيّة للتّصوير البصريّ، وبذلك ألغت منها ما يقارب 38 مقطعًا سعت إلى التّعبير عنها عبر تقديم رؤيا إبداعيّة جديدة للشّعر تدعو المتلقّي إلى قراءة القصيدة بأكملها. فإلى أيّ مدى نجحت في التّعبير عن المعنى بالصّورة والحركة؟ وهل قدّمت ما يكفي من الرّموز لتمثّل زبدة ما حذفته من الكلام؟
يندرج هذا العمل تحت عنوان الأدب الرّقميّ لا التّفاعليّ إذ لا يشارك في صناعته القارئ وما من خانات أو أزرار يضغط عليها للولوج إلى أماكن أخرى. لكن حاولت المخرجة تصوير كلام القصيدة الأبرز وأجزاءها المحسوسة والصّور الشّعريّة المجرّدة بتقديم القصيدة في قالب عربيّ يناسبها فاستخدمت خلفيّة الورق البرديّ القديم وموسيقى العود والحبر الأسود والخطّ العربيّ.
افتتاحيّة الفيلم حبر أسود يتلوّى كأنّه يرقص على أنغام العود يكتب “محمود” وهو الشّاعر نفسه وكأنّ المخرجة أرادت أن تقدّمه لنا بطريقة غير مباشرة وتدخله كجزء لا ينفصل عن مضمون قصيدته. ينتقل هذا الحبر إلى كتابة سؤال مطلع القصيدة “من أنا لأقول لكم” فتصغر أنا الشّاعر دلالة على تواضعه، ويتحوّل السّكون إلى صخرة تتدحرج لتمثّل حرفيًّا ما يقوله الشّاعر. تتحوّل الصّخرة إلى سائل يشبه الماء أو الدّم، وإذا قرأنا المقاطع المحذوفة من القصيدة نجد الشّاعر قائلًا “هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدة حرفًا فحرفًا، ونزفًا فنزفًا على هذه الكنبة بدمٍ أسود اللّون، لا هو حبر الغراب ولا صوته، بل هو اللّيل مُعتصَرًا كلّه قطرةً قطرة، بيد الحظّ والموهبة”. يكتب هذا النّزف كلمة “وجهًا” من اليسار إلى اليمين، منافيًا نظام الكتابة العربيّة
كأنّما هناك ما يحاول إلغاء هويّة هذا الوجه، مبقيًا التّنوين إلى النّهاية للتّركيز عليه، فبعد امّحاء الوجه يتطاير التّنوين كالقصب في مهبّ الرّيح، يثقب الورقة ليكتب “نايًا” يرسو عليه التّنوين، فموسيقى النّاي شجن يثقب تاريخ الحرب، إذ يحوّل العدوان النّاس قصبًا جافًّا يرتسم بالحزن. والنّاي آلة الرّعاة، آلة الفقراء يعبّرون بوساطتها عمّا يختلج في نفوسهم من أسى وتعب، هم الذين أصابتهم الحرب في فلسطين وثقبت قلوبهم وحياتهم، من بينهم الشّاعر الّذي تهجّر وعائلته.
يتحوّل التّنقيط في الكلمة إلى مجموعة من النّرد تكبر وتضرب وجه القارئ وكأنّها لحظة من الوعي بغيتها إحداث الصّدمة، إذ عامل النّرد هو الأهمّ في القصيدة، هو القدر، هو الحياة يتدحرج على السّلّم بين ربح وخسارة إلى أن يسقط ليتماهى مع التّنقيط في كلمة “مثلكم” فيتّحد الشّاعر بالقارئ ومنه بالشّعب الفلسطيني ومنه بالشّعوب التي تعاني من جور القدر تتأرجح بين الحياة والموت والفاصل رمية حظّ، يقول في ما حذف “وصورة نفسي التي انتقلت من أناي إلى غيرها”، فما قامت به المخرجة خير تعبير على ذلك. وها هو يقول أيضًا في المقاطع المحذوفة “إنّ القصيدة رمية نرد على رقعة من ظلام تشعّ، وقد لا تشعّ فيهوي الكلام كريش على الرّمل”، يعبّر هنا عن أنّ الشّعر بالنّسبة إليه هو الحياة والنّاس رمل والصّلة بينهما اختيار الشّاعر الكلام عن القضايا الملتهبة وحظّه في وصولها إلى مسامع الجميع، فتحدث تغييرًا، وتكون النّور في الظّلام.
يرقص الحبر على ألحان العود إلى أن تقع نقطة منه على الورقة وتمتدّ لترسم صبيًّا عند قوله “ما كنت”، تتوسّع منه لتتّضح أرض عشبيّة وشجرة عند قوله “مكان زراعيّ”، رمز للحياة والخصوبة والصّبى، كأنّها وليدة الحلم أو الذّكرى. هي طفولته في فلسطين أرض الزّيتون حيث امتلكت عائلته أرضًا يعملون فيها ويعيشون من خيراتها، إلى أن اندلعت الحرب وجاء الاحتلال، وقد اختارت المخرجة الصّاروخ رمزًا لذلك يضرب الأرض فتتشظّى إلى أحرف عشوائيّة، وذلك لكون هذه المرحلة مفصليّة في حياة محمود درويش، فجّرت مواهبه جاعلة منه شاعر القضيّة الفلسطينيّة.
يهوي الصّبيّ أبيض على خلفيّة سوداء فهو من خلال قصائده كما ذكرنا سابقًا بقعة نور في الظّلام، هنا تتتابع المشاهد وترتدّ إلى الخلف، ابتداءً من الزّيتونة وهي رمز الحياة والأمل والبشرى السّعيدة والعمر الطّويل، ثمّ معلّم الجغرافيا مثّلته بعينين سوداوتين كأنّما تقول إنّه أعمى عن حقيقة فلسطين الجغرافيّة الرّاهنة، وعصى كأنّه لتهديد من يعارض الجغرافيا الجديدة الزّائفة الّتي اخترعها العدوّ، بعدها إلى الخبير في مملكة النّمل فالنّمل ضئيل لكنّه يعمل بدأب شديد في فريق متماسك بغية إحقاق أهدافه كأنّه يريدنا أن نفهم أنّه يبحث عن العمّال فيكون قائدًا للثّورة، وينتهي حارسًا للصّدى إذ لم يجد من يسمعه أو من يكترث لما يحدث في وطنه، هرب الجميع وخلت الأرض. بعد أن تجمّعت كلّ تلك المشاهد كتمثيل حرفيّ لما اقترحه الشّاعر من احتمالات، تنفجر سويًّا على شكل ذبذبات صوتيّة تتفشّى لتختفي تمامًا كالصّدى، تمامًا كآمال الشّاعر.
يعود سؤال الافتتاحيّة إلى الشّاشة فوق خلفيّة سوداء، لكنّ أحرفه هذه المرّة بيضاء يتداخل فيها الأحمر دلالة على الدّماء والنّار وبذلك اندلاع الحرب، أمّا الأنا فما زالت صغيرة لأنّ الشّاعر جزء ضئيل من معاناة شعبه. يذوب طرف كلمة “لكم” ويقفز فوق السّنين (1940-1950-1998-2002) وهي حياة الشّاعر وإنجازاته الشّعريّة، ليرسم الصّبيّ من جديد عند قول الشّاعر كلمة “صحو” وكأنّ محمود درويش نتاج معاناة شعبه ووطنه، هذا ما أكسبه المعرفة التي تفوق وعي الآخرين بحقيقة ما يحدث. فانزياح الغيوم عن القمر إنّما يمثّل انكشاف الحقيقة، وانفجاره كقنبلة نوويّة عند كلمة “المجزرة” يمثّل غياب الضّوء في عتمة اللّيل أي غياب الأمل في خضمّ الاحتلال، وها هو الشّاعر يشهد على ذلك من مكانة المثقّف العليم العالية.
بعد انبهار القارئ من الشّاشة المشعّة بضوء الانفجار، تعود خلفيّة ورق البردة يكتب عليها كلمتين: “نجوت” بخطّ صغير و”مصادفة” بخطّ كبير، إذ هي الكلمة المفتاح في القصيدة، هي السّبب والنّتيجة، هي الأهمّ في لعبة النّرد، لعبة الحياة. فمن حظّ الشّاعر أنّه لم يُقتَل في الحرب، أنّه استطاع وعائلته الفرار، وتصوّر المخرجة ذلك بالصّبيّ واقفًا بين المقابر محني الرّأس في حضرة الموت المهيب، كان صغيرًا جدًّا لا يشكّل خطرًا عسكريًّا على قوى الاحتلال، لكنّه كان أكبر من أن يستطيع نيل الحرّيّة كالنّحلة المتنقّلة بين السّياج.
تتقدّم الكاميرا كأنّه سير أحداث، فتظهر عائلة مؤلّفة من جدّ وولدين أنثى وذكر علّها عائلة الشّاعر الّتي تجسّد كلّ عائلة فلسطينيّة بعثرتها الحرب أو دثرتها. تتشظّى صورتهم إلى قطع مسنّنة مع قول الشّاعر “زمن من زجاج”، يتطاير هذا الزّجاج ليكتب عن الخوف وقد قصدت المخرجة إثبات الضّمّة على هذه الكلمة لتعبّر عن أنّ الخوف يضمّ الشّاعر ويلفّ حياته اليوميّة، كما أثبتت الكسرة على الحرف في نهاية الجملة، إذ الكسرة من “كسر، تكسّر، متكسّر” ما يردّنا إلى حالة التّشظّي والانكسار والهزيمة أمام بطش العدوّ.
تصعد الكسرة، تتحوّل إلى طائرة ورقيّة سوداء ذيلها ملوّن، خرجت من ذكرى الطّفولة البعيدة، ترمز إلى البراءة واللّعب والحلم، تتراقص في دوائر كأنّ المخرجة تقول إنّ الحياة حلقة مغلقة والتّاريخ يعيد نفسه. تحطّ الطّائرة ويختفي ذيلها الّذي كان الأمل يحملها نحو المستقبل، الألوان رمز الغد المشرق تختفي مع قول الشّاعر “لا وقت للغد”. يذوب ما تبقّى من الطّائرة الورقية، نلاحظ استخدام المخرجة لحركة الذّوبان باستمرار وذلك محاكاة لقول الشّاعر في ما حُذف من القصيدة “وذب في مصبٍّ يفيض من الجانبين”- ليشكّل صبيًّا منحني الرّأس ظلّه جهة الشّرق كما لو أنّ الضّوء يأتيه من الغرب، وذلك يناسب حال الشّاعر المغترب الذي لجأ إلى الغرب طلبًا لنور العلم والحرّيّة والحياة الكريمة، لكنّ قلبه وعقله وروحه ما زالت متشبّثة متجذّرة في الشّرق وقضاياه.
ننتقل إلى مشهد حركيّ سريع يتماهى مع الأفعال التي يتلفّظ بها الشّاعر، على خلفيّة بيضاء تحمل ظلال أحرف قليلة، وكلّما ازدادت وتيرة الأفعال واشتدّ صخبها ازدادت بدورها الأحرف. يشعرنا هذا المشهد بتخبّط الشّاعر الوجدانيّ وصراعه النّفسيّ بين وضعه الحقيقيّ وما يريد لوضعه أن يكون، واللّون الأسود يدلّ على يأسه وقد بدأ بسببه بالكتابة بحياء وتردّد في أوّل الأمر، من هنا قلّت الأحرف. وعند تلفّظ الشّاعر بفعل “أخفّ”، يهبط الصّبيّ وتصعد الخلفيّة البيضاء لتحلّ محلّها خلفيّة سوداء تتزاحم فيها الأحرف البيضاء حول الشّخصيّة البيضاء، وكأنّ الصّبيّ تحوّل من خلال الكتابة إلى وهج وبصيص نور في وسط السّوداويّة الفلسطينيّة العربيّة العالميّة.
تقع الأحرف عند فعل “أرسا” وتتكدّس، دلالة على تأصّل فعل الكتابة في نفس الشّاعر وتجذّره في حياته وتراكم أعماله الأدبيّة على الرّغم من كلّ الصّعاب الّتي يواجهها بالإضافة إلى اضطراباته النّفسيّة في ظلّ الظّروف الجنونيّة. ثمّ يلفظ الشّاعر فعل “أتذكّر” فتنفجر الأحرف البيضاء في وجه القارئ تعيده إلى وضعيّة الشّاشة الأولى الّتي بدأ بها المشهد، فهي دلالة إلى ماضي الشّاعر وطفولته وهو يغرف من تجاربه ومآسيه مادّة لأدبه.
لقد اختارت المخرجة كتابة فعل “أهلوس” من بين كلّ الأفعال المذكورة، وذلك لأنّ الاضطرابات النّفسيّة والتّفكير الزّائد والعودة المتكرّرة إلى فجاعة الماضي يؤدّي إلى الهلوسة، فيفقد الشّاعر هذا الخيط الفاصل بين الحقيقة والخيال، بين تطلّعاته وواقعه، بين ماضيه ومستقبله، فتصبح الكتابة توثيقًا للهلوسات الّتي ترتكز بغالبيّتها على المشاعر، ومن المتعارف عليه اتّهام الشّعراء بالهلوسة والجنون عند الامتعاض من الحقيقة التي كتبوها واستنكارها على أنّهم بريئين من تلك الاتّهامات الباطلة. بالوصول إلى فعل “أدمى” تخترق قلب الصبي حربة من ضوء تمثّل الوعي، فماذا يدمي الأديب المرهف الإحساس غير وعي الواقع المضني، فكلّما اتّسعت بؤرة النّظر اتّسع الألم، وكلّما تعمّق في المعرفة تعمّق في الحزن.
ينتهي المشهد بعبارة “ويغمى عليّ” مع سقوط الصبيّ أرضًا بعد هذا الإجهاد العاطفيّ، ما يناسب نهاية القصيدة، إذ كتب الشّاعر في السّطر الأخير السّؤال التّالي “من أنا لأخيّب ظنّ العدم؟”، فالسّقوط ولحظة الصّمت والجمود قبل “الجينيريك” لا يثبتان الموت الكليّ الجسديّ، إنّما العدم الذي يقتل النفس باستئصال الأمل بمستقبل أفضل.
اضطرّت المخرجة لتصميم هذا المشهد، إلى أن تتشبّه بالصّبيان باللباس والشعر وتصوّر نفسها تقوم بكلّ تلك الحركات من ثمّ تدخلها إلى البرنامج الإلكتروني الخاص بتحويل الصور إلى رسوم متحرِّكة. وذلك للأمانة الأدبيّة ولإحقاق قول الشّاعر في المقاطع المحذوفة “لا دور لي في القصيدة غير امتثالي لإيقاعها: حركات الأحاسيس حسًّا يعدّل حسًّا”.
ختامًا يمكننا القول إنّ المخرجة قد احترمت مشيئة الشّاعر في قصيدته، حرفيًّا كما مجازيًّا، بخاصّة أنّ الشّاعر نفسه قد طلب في “لاعب النّرد” ما يلي:
“على مهلك اختصريني لألّا يطول النّشيد، فينقطع النّبر بين المطالع”.
ونجحت في إيصال مشاعر الحنين واليأس والانتماء والغربة والرّسائل الرّئيسة من القصيدة، وهي أنّ لا دور لنا في حياتنا فهي رهن لعبة القدر والحظّ والمصادفة لكن علينا أن نناضل في سبيل الوطن والقضيّة والبقاء، بوساطة الإبداع لنكون نور الهداية لمن ضلّ طريقه في عتمة العدوان، على الرّغم من تمزّقاتنا.