علاقة الأدب بالحياة في عيون مفكرين وفلاسفة (مترجم)
هل يعبّر الأدب عن الحياة؟
هناك صلة قوية بين الأدب والحياة. في الحقيقة الحياة هي موضوع الأدب. الحياة تزود المواد الخام والأدب بدوره يعرضها بشكل فني. الأدب هو تواصل خبرة الكاتب مع الحياة. لكن هذه الصلة بين الأدب والحياة ليست بسيطة كما تبدو. هذه المشكلة نوقشت من قبل أكبر النُقاد الأدبيين في العالم والنتائج كانت مُتناقضة في بعض الأحيان.
أفلاطون، الفيلسوف الإغريقي العظيم، كان أول من قدّم فكرة جدّية عن هذه المشكلة -العلاقة بين الأدب والحياة-. في نقاشاته كان بشكل رئيسي يشير للشِعر، لكن ما قاله عن الشعر يمكن تعميمه على الأدب كله. اعتبر الشعر “تقليدًا مجردًا للحياة”، وهكذا أدان الشعراء.
معارضته للشعر كانت مبنيّة على نظريته للمعرفة. وفقا له: الواقع الحقيقي يتألف من أفكار لأشياء والتي تجعل “الكائنات مجرد انعكاسات أو تقليد”. فمثلًا عندما نقول كلب أسود أو كلب جيد أو كلب أعرج … فإننا نُقارن الكلب الذي نراه فعليّا بكلبٍ آخر مثالي، أو بفكرتنا عن الكلب، تلك الفكرة الصحيحة والحقيقة غير القابلة للتغيير، بينما الكلاب التي نسميها سوداء، جيدة، عرجاء. فهي تقليد وانعكاسات مجردة للواقع. وهكذا الشاعر الذي يُقلّد تلك الكائنات، الذين هم أنفسهم تقليدٌ للواقع وبذلك فالشاعر ينتج شيئًا ما يزال أبعد من الواقع اللامحدود.
أفلاطون طوّر هذا الجدال من خلال الإشارة للرسام. الرسم هو تقليد ومحاكاة لشيءٍ محددٍ أو مجموعة من الأشياء، إذًا فهو لا شيء سوى ذلك، إذًا الواقع يكمن في التمسك بالواقع فهذا يعني أن الرسام لا يفعل شيئًا محددًا له قيمة. فقط كما يقلد الرسام ما يراه ولا يعرف كيف يجعل أو يستخدم ما يراه (هو يمكنه أن يرسم السرير ولكن لا يمكنه صنعه) إذًا فالشاعر يقلد الواقع من غير ضرورة فهمه. بهذا فإن الشعر أو الأدب ككل تقليدٌ لتقليدٍ وهكذا الاثنان بعيدان عن الواقع.
هناك خلل واضح في منطق أفلاطون. أن يصبح فيلسوفًا للغاية، هذا يعني أنه لم يستطع أن يرى العلاقة بين الأدب والحياة بوضوح. هو كان على حق عندما قال أن الشاعر ينتج شيئًا أقل من الواقع يهدف لتمثيله، لكن الشاعر لا يصف ذلك بل ويبتكر شيئًا أكثر من الواقع. هذا الخلل تم تصحيحه من قبل تلميذ أفلاطون –أرسطو– في شاعرية قام بفحص طبيعة ومزايا الأدب الخيالي بهدف إثْبات أنه صحيح وليس خاطئًا كما أظهره أفلاطون. اتفق أرسطو مع أفلاطون بأن الشعر محاكاة للواقع ولكن وفقًا له فإن المحاكاة هي تمثيل موضوعي للحياة في الأدب، أو بكلمات أخرى، فإنها إعادة بناء خيالي للحياة. وبهذا فالشعر ليس متصلًا بالعالم الخارجي كبساطةِ ومباشرةِ أسلوب أفلاطون.
الشاعر يستمد الإلهام من العالم بواسطة طاقة خياله؛ فن الشعر ومن ثم التقليد، هذا إلهام الخيال باللغة. فن الشعر أو الأدب ككل موجود ليعطي الشكل والقوام لنوع محدد من الاستخدام الضمني، ووجود الفن يعني وجود التعبير الضمني. الآن إنه من الممكن تخيل الحياة بالضبط كما هي لكن الشيء الممتع في ذلك هو أن الخيال يصبح تعبيرًا ضمنيًا قادرًا على تصوير الشعر الإلهامي. هذا صحيح حتى في حالة الواقعية في الأدب، إن هذا صحيح حتى عندما كانت الحياة تتصور أصلًا واقعًا من بعض الطبيعة المثيرة للغاية في حد ذاتها.
الخيال ربما ليس أكثر من التركيز على الواقع بترك كل ممراتها الضئيلة. لكن ذلك كاف لجعل الشعر اللامع أو الأدب شيئًا مختلفًا عن النسخة من العالم الذي أدانه أفلاطون بوصفه له. هكذا كان رد أرسطو على أفلاطون. الفن أو الأدب ليس تقليدًا أعمى للواقع، بل يعرضه على هيئة مخلوقات تمر ببعض الظروف بالحياة ويتم تصيير تلك الأحداث والتعبير عنها بكلمات تصف حقيقة الطبيعة البشرية -حقيقة الشاعر والحقيقة الكونية-. عمل الشاعر ليس تدوين الأحداث التي حدثت ولكن ما الذي يمكن أن يحدث للأشياء المستحيل حدوثها. لهذا السبب فالشعر أكثر فلسفة وأكثر جدية حتى من التاريخ. بينما التاريخ يتعامل مع حدث واحد محدد، الشعر يتعامل مع الكون بأكمله. الشاعر يحدد من الحياة وفقا لمبدإ الوحدة الشعرية والحقيقة الشعرية. ويهدف الشاعر ليرسم ما يتعلق بالموضوع المطلوب ويعرضه بطريقة تتناغم مع الواقع في الوقت ذاته.
وبهذا أرسطو التقى بتهمة أفلاطون أن الشعر هو تقليد لتقليد بإظهاره بواسطة الشاعر باعتباره لنفسه مع الاحتمالات الأساسية بدلا من ذلك مع الحقائق السبببية والوصول إلى واقع أكثر عمقًا من المؤرخ. السيد فليب سيدني والذي تناول السؤال عن علاقة الأدب بالحياة والذي رفض أيضًا نظرية أفلاطون والتي تبين بأن “الأدب هو تقليد مجرد لتقليد”. وفقًا له فإن الشاعر لا يقلد بل يخلق؛ وإن القارئ هو من يقلد ما يخلقه الكاتب. الشاعر يأخذ مواده من العالم الفعلي ومن ثم يقوم بخلق عالم مثالي من خياله. بالنسبة لسيدني العالم المثالي للشاعر ذو قيمة لأنه أفضل من العالم الواقعي ويعرض بطريقة ما تجعل القارئ يحاكيه ويحاول تقليده بطريقته الخاصة.
قضية علاقة الأدب بالحياة تم تناولها من قبل درايدن لاحقًا الذي وضح “أن الأدب الخيالي يعطينا صورة عادلة وحيوية عن طبيعة الإنسان من خلال عرض شغفها وفكاهتها”. هذه النقطة طُورت أكثر بواسطة د.جونسون الذي عبر عن الرؤية بأن الشاعر “يحمل مرآة للطبيعة”. وفقا له “لا شيء يمكنه أن يعجب الكثير أو يعجب طويلًا لكن إنه عرض للطبيعة “الطريقة لإعجاب أكبر عدد لأطول فترة من الوقت والتي هي واجب الأدب الخيالي هي تزويد صور واضحة ودقيقة للطبيعة. شرحًا لرؤيته هو أن الشاعر الموضح للطبيعة البشرية. وفقا له فإن الشاعر يجب أن يعرف أساليب البشر وعاداتهم في كل الأوقات ليس لأن واجبه أن يجعله حيًا للقارئ على اختلاف طرق عيش البشر وتصرفاتهم، بل ذلك لأنه لم يأخذ بالاختلافات السطحية ولأنه قادر على اختراق الإنسانية المشتركة.
والتر بيتر ناقد مشهور في أواخر القرن التاسع عشر والذي ناقش علاقة الأدب والحياة بالتفصيل موضحا في مقالته “نمط” :
“تماما كما هو الحال بالنسبة لهدف الكاتب بوعي أو بدون وعي وهو النسخ ليس للعالم وليس للحقيقة المجردة، بل إحساسه تجاه العالم، يصبح الكاتب كالفنان وعمله يصبح فنا والفن الجيد بالنسبة للحقيقة هو تقديمه لذلك الإحساس”.
مع أخذ كل ذلك بالاعتبار، رؤية كل من أفلاطون وأرسطو وسيدني ودرايدن وجنسنون وبيتر نستنتج من ذلك أن فكرة “الأدب لا يعبر عن الحياة” هي فكرة خاطئة. كل القطع الأدبية العظيمة “قريبة للواقع”. ولكن الفنان الأدبي لا “يحمل مرآة تعكس الطبيعة ” لأنه -كما وضح ماثيو أرنولد-هو “نقد الحياة” والذي ركز على تلك الصفات والجوانب المميزة من الحياة التي قدمت، ولكنها قد تمر بسهولة دون ملاحظة.
إن الصورة التي نخلقها بملاحظاتنا الخاصة للحياة في كل لحظة من خبرتنا العملية هي ضبابية غير واضحة نصفها غير منتهية. إن الفنان الأدبي هو من ينهيها ويجعلها واضحة ويجعل الحياة أقل غموضًا ذلك لأنه يعلم أكثر عن الحياة من أي شخص آخر دون أن يرى تلك الحياة بعينيه.