يوتوبيا النيوليبرالية وإشكالية الدولة

في كتابه (التحول الكبير) تناول المؤرخ الاقتصادي كارل بولاني كابوس ما يسمى السوق ذي التنظيم الذاتي، الذي كان يراه يوتوبيا ستحقق على أرض الواقع كدستوبيا، ولكن هذه الدستوبيا التي أصبحت محققة في واقعنا منذ أكثر من أربعين عامًا تجعلنا نقف أمام تناقضاتها التي تتسم بها بنية نظريتها عن واقعها الممارس.

الدولة والنيوليبرالية

من أكبر الإشكاليات التي تعكس هذه التناقضات التي تتسم بها النيوليبرالية كنظرية في ممارسات الاقتصاد السياسي ألا وهي الدولة، حيث إنه من أهم مبادئ النظرية عدم التدخل الحكومي [1]لضمان مسار فاعلية السوق ذي التنظيم الذاتي، هذا يضعنا أمام معضلة إعادة تعريف الدولة وحدودها، حيث إن أكبر افتراضاتها يتمثل في خلق السوق ذي تنظيم ذاتي كركيزة أساسية يخضع كل ما يحيط به وبالتالي انتقلنا من إخضاع السوق للمجتمع إلى العكس فأصبح المجتمع خاضعًا لقوانين السوق فهي الغاية الكبرى للوجود الإنساني ولابد من تسخير كل إمكانيات البشرية والطبيعة لضمان سلامة فاعليته حتى إذا أدى إلى كوارث إنسانية و طبيعية على أرض واقعنا فأصبحنا أمام واقع مسخ، فبدلًا من جعل السوق وسيلة ضمان فاعلة لتحقيق مكاسب تعود على البشرية، نجد العكس، فتم تسخير البشرية والأرض لضمان فاعلية مساره كغاية في حد ذاتها حيث تبادلات السوق بمثابة البوصلة الراشدة لكل أفعال الإنسان فتحل محل الأشكال الأخرى للتضامنات الاجتماعية والمعتقدات الأخلاقية بين البشر.

نتلمس هذا على أرض واقعنا من خلال الطعن بسيادة الدولة والعلاقات الاجتماعية  وتقسيم العمل وأسلوب الحياه والتفكير والعلاقة مع الطبيعة المحيطة بنا، فمنظريها الذين ملأوا الأرض صخبًا من أن النظرية تفترض أن أفضل وسيلة لتحقيق سعادة الفرد  ورخائه من خلال إطلاق حريات الفرد ومهاراته وأعماله ضمن إطارمؤسساتي ضامن للحقوق الملكية الخاصة والأسواق والتجارة الحرة، على أن يكون دور الدولة إنشاء الهيكليات والوظائف القانونية والدفاعية والشرطية والعسكرية لتأمين حقوق الملكية الخاصة وتكون مساحة الدولة خارج حدود السوق حيث إذ تدخلت الدولة يجب أن تظل في حدها الأدنى. وهذا نتلمسه على أرض الواقع منذ السبعينات من إجراءات التحرر الاقتصادي من تدخل الدولة والخصخصة وانسحاب الدولة من كثير من مجالات العمل ويظهر هذا بشكل جلي من التباين التحول الدولة من الليبرالية المطوقة إلى الليبرالية الجديدة، حيث الدولة الليبرالية المطوقة سادت بعد الحرب العالمية الثانية حتى السبعينات تتمركز وظيفتها التوظيف الكامل والنمو الاقتصادي ورفاهية مواطنيها والتدخل بعمليات السوق لضمان تحقيق هذه الغايات ومنها انتشار السياسات الكينزية الهادفة إلى كبح الدورات الاقتصادية ومعالجة تضخم البطالة أثناء الركود الاقتصادي العالمي.

ومنها يظهر أهم سمات هذه المرحلة التي تميزها عن ما بعدها (الليبرالية الجديدة) التسوية الطبقية بين رأس المال والعمالة وأن تكون الدولة رمة الميزان لهذه العملية وبالتالي تدخلت الدولة بقوة في السياسة الصناعية، ووضع حد أدنى للأجور وضمانات اجتماعية من خلال إنشاء منظومات مختلفة للرفاه. وبالفعل أدى إلى معدلات نمو عالية نسبية وتم التحكم في الدورة الاقتصادية من خلال سياسات الكينزية المالية والنقدية وأصبحت الدولة ميدان قوى فرضت من خلالها الطبقات المسودة تطلعاتها من خلال نقاباتها العمالية الفاعلة وأحزابها السياسية النشطة.

لكن عند انتهاء عقد الستينات بدأت تظهر علائم أزمة خطيرة لتراكم رأس المال وارتفعت البطالة والتضخم بمعدلات عالية كمؤشر لبدء التضخم الصاحب لركود الاقتصاد العالمي وبالتالي أصبحت هناك إلحاحات لتجاوز السياسات الكينزية.

إعلان

ومع التهديد المصاحب في ذلك الوقت من الاتحادات العمالية والأحزاب الاشتراكية والشيوعية النشطة في ذلك الوقت والتي وصلت إلى سدة الحكم مثل البرتغال وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا، بجانب توحدها مع حركات المدنية في أغلب البلدان الرأسمالية التقدمة ظهرت كتهديد اشتراكي لطرح شكل آخر غير التسوية بين الطبقات السائدة والمسودة مما أصبح تهديدًا سياسيًا لصالح البرجوازية الرأسمالية وبالتالى كما وضح مسبقًا ديفيد هارفي[2] فنحن لسنا فقط أمام تحقيق مشروع طوباوي لإعادة تنظيم الرأسمالية الدولية ولكن أمام نظرية توضع لإضفاء الشرعية لإعادة تأسيس الشروط  والظروف الملائمة لتراكم رأس المال واستعادة سلطة النخبة الاقتصادية الرأسمالية.

تنظير الأيديولوجيا النيوليبرالية للدولة

عندما نلقي نظرة لأغلب الدراسات التنظيرية للسلطة التي واكبت التحول إلى النيوليبرالية  لا نستغرب حول الارتكازات التي تقوم عليها هذه تنظيرات حيث وإن دلت على شيء، دلت على رؤية الإيديولوجية للطبقة السائدة للرأس مال الاحتكاري الذي يطبع التحول النيوليبرالي نجد من أهمها توزيع ممارسة السلطة على نوعين من الأجهزة ( الأجهزة القمعية – الأجهزة اليديولوجية ) وهكذا تذوب خصوصية الجهاز الاقتصادي للدولة في أجهزة قمعية وأيديولوجية ويصبح مستحيل تحديد موقعها من الدولة التي تتركز فيها بالضرورة سلطة القسم المهيمن من البرجوازية كما يشير بولانتزاس [3].

تتناول أغلب هذه الدراسات النظرة إلى السلطة ككيان متعال وأبدي وحيث يتواجد الواقع الاجتماعي واللغة والخطاب والرغبات توجد فقط بفعل الدولة، التي هي شر متأصل وعميق الجذور، ولا سبيل للحد منه بأي صراع، مهما أخذ من أشكال ما دام أي صراع يمثل فقط انعكاسًا لمبدأ السلطة المتعالية غير المحدودة تستمد استمراريتها من شمولية وضرورة ميتافزيقيتي وذو نزعة استبدادية خالدة وأصيلة، هناك بعد آخر يرى السلطة محايثة مخترقة جميع مساحات بنية المجتمعية بشكل مخادع ومستتر وأفرادها مطبع معها من خلال جهازها القمعي – الإيديولوجي متجاوزة الدولة حيث الدولة مجرد تابع لها فجوهرها أن العامل الاجتماعي هو كل شيء، وأن الدولة مجرد تابعه المؤسساتي فقط، ويؤدي بنا هذا التناول إلى إغفال طبيعة دور الدولة في وجود وإعادة إنتاج علاقات الطبقات السلطوية وبصورة أعم في الصراع الطبقي وهذا ما يؤكد عليه بولانتزاس[4] بأن الدولة تنشط وسط حقل من توازنات حلول وسط قلقة بين الطبقات السائدة والمسودة بقصد الحفاظ على الهيمنة الطبقية و كذلك أسباب الاجماع بما يمثل أهمية في علاقة السلطة بالجماهير.

لهذا تتخذ سلسلة من الإجراءات المادية الإيجابية بالنسبة للجماهير الشعبية وهذا يظهر بشكل واضح في مرحلة الدولة الليبرالية المطوقة من تنازلات و تدخلات الدولة في رأس المال لصالح الطبقات المسودة، وبالتالي يظهر إشكالية حصر الدولة في جهازها القمعي الأيديولوجي من تعتيم هذا الجانب الارتكازي للدولة وكذلك الصراعات الطبقية وما تفرضها الطبقات المسودة من نضالات وحقوق داخل حقل الدولة المحدد من خلال علاقات الإنتاج حيث رابطة الدولة مع علاقات الإنتاج هي في الغالب رابطة مع الطبقات الاجتماعية ومع الصراع الطبقي، والانفصال النسبي للدولة الرأسمالية عن علاقات الإنتاج الذي تتسبب به هذه العلاقات هو أساس بناء الدولة التنظيمي، بما لا شك فيه الروابط السياسية – الأيديولوجية حاضرة منذ البداية في تكوين العلاقات الإنتاج وتلعب دورًا أساسيًا في إعادة إنتاجها، فسيرورة إنتاج العلاقات والاستغلال هي في نفس الوقت سيرورة إعادة إنتاج روابط السيطرة والاخضاع السياسي والأيديولوجي، ومنها نستخلص أن الدولة تؤسس و تنقسم من خلال التناقضات الطبقية و ليست كذات كتلة موحدة دون انقسامات تفرض سياساتها بمعنى ما رغم تناقضاتها.

إشكالية السيادة الشعبية والنيوليبرالية

عندما نتأمل التطورات التي واكبت مرحلة النيوليبرالية على الساحة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية من تطورات، دلت على تجاوز شكل الدولة الليبرالية التدخلية ( الليبرالية المطوقة ) التي توافقت مع طور المنافسة في الرأسمالية، وخاصة عدائها الموجه للديمقراطية التمثيلية بما يمثل تهديد لها التي مهما بلغ تشويه الطبقات السائدة ومادية الدولة النيوليبرالية لها فإنها تسجل في هذه المادية نضالات ومقاومات الشعب وينطبق الشيء نفسه على حقوق المواطنة التي بما لاشك فيه إحدى إنجازات الطبقات المضطهدة وللأسف يتم تأكلها من خلال الاعتماد على مؤسسات لا ديمقراطية ولا تخضع للمساءلة مثل ( البنك الاحتياطي الفيدرالي، صندوق النقد الدولي) لصنع القرارات الهامة،  ومع تآكل النقابات والاتحادات العمالية وتراجع فاعلية الأحزاب السياسية في هذه المرحلة مما يشكل تهديدًا لها من تأثيراتهم على الدولة للإجبار للتدخل في مسار السوق أو إلغائه وكذلك قصر الدولة على إلحاق جميع أجهزتها للجهاز الاقتصادي وبالتالي أثرت على توازنات التي كانت تقوم بها الدولة بين الطبقات مما أثر على جهازها الأيديولوجي وأظهر من تعارض موجه للطبقات المسودة.

ومع الشركات العابرة للقارات التى أصبح نفوذها وسيطرتها متعدي حدود الدول مع ترسيخ سلطة احتكارات القلة بعكس ما تطرحه النظرية من محاولة خلق سوق تنافسي غير احتكاري وعلى هذا النحو ترفض الحريات التي يفترض أن تؤمن بها. و نتلمس أثار ما تتبناه نيوليبرالية للإطلاق لا محدودية حريات السوق وتسليع كل شيء من بشر والأرض والطبيعة ينتج عنها تفكك أي منظومة اجتماعية وأي شكل من أشكال التضامن الاجتماعي مما يصبح الفرد في مهب الريح أمام هذا الاهتياج المسعور مما يخلق فوضى من الصعب التحكم فيها وسيكون الخاسر الأكبر هو الفرد التي تدعي النيوليبرالية بأنه محور تنظيرها!

نرشح لك: مراجعة كتاب الربح فوق الشعب، النيوليبرالية والنظام العولمي لـ نعوم تشومسكي

[1] التحول الكبير ، كارل بولاني

[2] الوجيز في تاريخ النيوليبرالية ، ديفيد هارفي

[3] نظرية الدولة ، نيكوس بولانتزاس

[4] نفس المصدر

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نرمين موسى

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

الصورة: art

اترك تعليقا