هموم رب الأسرة لـ فرانز كافكا (مترجم) | محمد خليل
مقدمة المترجم
كثيرًا ما يصيبنا نوبات من القلق حول فكرة الموت والفناء، وتصل تلك النَّوْبَات ذروتها في مرحلة ما بعد تكوين الأسرة، حينها ترى عجلة الزمن قد دارت دورة كاملة، طفولتك وصباك وشبابك تتكرَّر أمام عينيك في ذريَّتك.
صحيح أن السعادة تغمرك حينها لرؤيتهم يكبرون حولك، ولكن هناك جانب آخر لهذا المشهد، هو ذلك القلق الدَّفين من قُرْب انتهاء رحلتك.
أما عن هذا الإحساس، فيصوغ لنا كافكا قصته القصيرة “هموم رب الأسرة”، التي تصف بأسلوبٍ تشوبه السُّخريَّة المريرة حال رَبّ الأُسْرة حينما يحكي لنا عن شيءٍ يُسمَّى “اودرادك”، قد يكون شيئًا بلا قيمة أو وظيفة حقيقيَّة بالنسبة لنا، ولكنَّه يُمثِّل الكثير لرَبّ الأُسْرة، ربما يرى فيه أحلامه التي تركها خلف ظهره من أجل أُسْرته، يُطَارِده في أرجاء البيت أحيانًا ويجده واقفًا في انتظاره أحيانًا أخرى، يحاول جاهدًا التحدُّث معه، ولكن غالبًا ما ينتهي الأمر بمحادثاتٍ قصيرة مبتورة يعقبها صمت. وهو ما يُلَّخص لنا مُعَاناته في استعادة ما قد تخلَّى عنه سابقًا من أجل أُسْرته. يهرب منه ويُوَاصل تدحرجه تحت أقدام أبنائه وأحفاده، كتلك الأحلام الطُّفُوليَّة التي تواصل مُدَاعبة الأطفال وتُعطي ظهرها لمن هم أكبر سنًا، وينتهي هذا المشهد العبثيّ بتملُّك إحساس الغيظ من رَبّ الأُسْرة بعد اصطدامه بحقيقة فنائه وبقاء هذا الـ “اودرادك” من بعده. يتراءى لي أن “اودرادك” كما يُمثِّل شيئًا ما في حياة رَبّ الأُسْرة، هو أيضًا يُمثِّل شيئًا ما في حياة كافكا. فقد أوصى بحرق أعماله غير المنشورة بعد وفاته، وأغلب الظَّن أن ذلك لم يكن سوى تعبيرٍ عن غيظٍ بداخله تجاه بقاء الـ “اودرادك” خاصته بعد رحيله.
هموم رب الأسرة
البعض يقول إن كلمة “اودرادك” أصلها سلافي، ويحاولون تفسيرها علي هذا الأساس. وهناك أيضًا من يعتقد أنها ألمانيَّة الأصل، ولكنَّها فقط متأثِّرة باللُّغة السلافيَّة. إن عدم يقين كلا التفسيرين يُتيحُ لنا أن نفترض بحياديَّة أن كليهما غير دقيقٍ، خاصة أن كلا التفسيرين لا يُعطي معنًى منطقيًّا للكلمة.
لا أحد -بالتأكيد- سيشغل باله بمثل هذه المُهَاترات لو لم يكن هناك في الأساس مخلوق يُسمَّى ” اودرادك”. للوَهْلة الأولى يبدو كبَكَرَةٍ للخيط مُتَخِذَة شكل نجمة مُسطَّحة، وبالطبع ستبدو مغطَّاة بالخيوط المُلتَّفة حولها، وبالتأكيد أيضًا ستكون هذه الخيوط قديمة فقط، فتائل متقطعة من الخيط، معقودة ومتشابكة مع بعضها، متباينة الأنواع والألوان لأبعد حَدٍّ. ولكنَّها ليست فقط بَكَرَة، فهناك قضيب خشبيّ صغير يخرج من منتصف النجمة، مُشَكِّلًا في نهايته زاوية قائمة مع قضيبٍ آخر أصغر. بوجود هذا القضيب الأخير من ناحية، وإحدى رؤوس النجمة من الناحية الأخرى، يمكن لهذا الشيء أن يقف مُنْتَصِبًا كأنه على قدمين.
يميل المرء إلي الاعتقاد أن هذا المخلوق في وقتٍ ما كان لديه نوع ما من الملامح الواضحة، ولكنَّه الآن مجرَّد خُرْدَة مُعطَّلة. ومع ذلك لا يبدو أن هذا هو الحال، على الأقل لا توجد علامة علي ذلك، لا يوجد في أي مكانٍ شُرُوخ أو نُتُوءَات تشير إلى أي شيءٍ من هذا القبيل. الأمر برمته يبدو بلا معنى، ولكن هذا الشيء مكتمل تمامًا بذاته. على أية حال، الفحص الدَّقيق أمر مستحيل، ذلك أن “اودرادك” رشيق جدًا ولا يمكن السَّيطرة عليه. كان يندَّس بالتناوب ما بين الحُجْرَة العَلويَّة والدََرَج والأرْوِقَة والرَّدْهة. في بعض الأحيان لا يمكن رؤيته لعدة أشهر متتالية، عندئذٍ ربما يكون قد انتقل إلى منازلَ أخرى، ولكنَّه دائمًا ما يعود ثانية بإخلاصٍ إلى منزلنا. في كثيرٍ من الأحيان عندما تخرج من الباب ويصادف وجوده تحت أقدامك مُتَكِئًا على الدرابزين، تشعر بالرَّغبة في التحدُّث إليه. بالطبع لا تتطرح عليه أسئلة صعبة، إنك تعامله -إن ضآلته تدفعك رغمًا لذلك- بالأحرى كطفلٍ “حسنًا، ما اسمك؟” تسأله. “اودرادك”، يجيبك. “وأين تسكن؟”. “ليس لي عنوان ثابت”، يجيبك ويضحك. غير أنها فقط ضحكات بلا رئات تصدرها، تبدو إلى حَدٍّ ما كحفيف أوراق الأشجار المُتَسَاقِطة، وبهذا عادة ما تنتهي محادثتنا. بالمناسبة، حتى تلك الأجْوِبَة لا تأتي دائمًا، غالبًا ما يلزم الصمت لوقتٍ طويلٍ، مُتَخشِّبًا كمظهره.
أسأل نفسي عبثًا: عَمَّ سيحدث له على الأرجح؟ أيمكن أن يموت؟ إن كل شيءٍ يموت كان له هدف ما من الحياة، نوع ما من النشاط، والذي قد انتهى بسبب المَوْت، ولكن ذلك لا ينطبق على “اودرادك”. هل أفْتَرِض إذًا أنه سيتدحرج دائمًا أسفل الدَّرَج، تلاحقه أطراف الخُيُوط، تمامًا تحت أقدام أبنائي وأحفادي. إنه لا يؤذي أحدًا، ولكن فِكْرة أنه سيحيا بعدي أجدها مؤلمة حقًا.