هل يمكن تبرير الحرب؟ (مُتَرجَم)
لم تتوقّف الحروب يومًا على مدار التاريخ البشري، وهذا ما دعا لأن يكون هناك جدل دائم حولها ووجهات نظر مختلفة قدّمها الفلاسفة بداية من الحضارات القديمة إلى عصرنا الحديث – كلّها تدور حول ما إذا كان يمكن اعتبار الحرب فعل أخلاقي مشروع أم لا. إلّا أنّ حُرمة الحياة البشرية تبقى أكثر ما يجعل من الحرب أمرًا غير مُبرّر.
تتناول الطروحات الفلسفية المعضلات الأخلاقية للحرب، بدءًا من الاعتبارات الأخلاقية إلى الاعتبارات التي توضّح مفهوم الحرب العادلة وعواقب النزاعات المسلّحة.
ما هي الحرب؟
تُعرّف الحرب بأنها حالة من الصراع المسلّح، وعادة ما يتم إعلانه ليفسّر ما يحدث من ارتفاع في عدد الوفيات وعدوان مفرط ودمار يلحق بها. يمكن أن تكون النزاعات الإقليمية والموارد والصراعات على السلطة والاختلافات الدينية أو الصراعات الأيديولوجية سببًا رئيسًا لشنّ الحروب، فتاريخيّا، اتّخذت الحروب أشكالاً عديدة وأُجِّجت لأسباب مختلفة، فأطماع السلطة الرئيسيّة للدولة تسبّبت بوقوع الحرب البيلوبونيسيّة اليونانية القديمة بين أثينا وسبارطة. وفي الحرب العالمية الثانية؛ كان السبب هو صراع الدول على الأراضي، كما برزت أطماع اخرى للفاشيّة والشيوعيّة.
إلّا أنّ شكل الحرب تغيّر، لم تعد حروب القرن الحادي والعشرين تُدار في ساحات للمعارك. بل أصبحت تُدار على الإرهاب والتمرّد بشكل مختلف وغير تقليدي، ومع تطوّر التكنولوجيا، تحوّلت آلة الحرب من أسلحة نوويّة إلى حرب إلكترونية.
تُعتبر الحرب مسألة أخلاقية مُعقّدة وتثير حولها مسألة الشرعيّة التي يتم بموجبها استخدام القوّة لتحقيق أهداف سياسية معينة. لذلك، تحاول النظريات حول معنى الحرب العادلة صياغة معايير يمكن من خلالها تعريفها.
ومع ذلك، لا تزال الحرب تُعتبر فشلاً دبلوماسياً وفشلاً في فهم الآخر. وتعاملنا مع عواقب الحروب في مجتمعنا اليوم، يقتضي الحاجة إلى فحص دقيق لأسبابها الجذرية ومن ثم الاتجاه للحلول الأكثر سلميّة في المستقبل.
مفهوم الحرب في العالم القديم
كانت الحرب محورًا رئيسا في الخطاب الفلسفي في العصور القديمة، وقد بلورت وشكّلت معتقدات ومبادئ أفضل العقول في العالم. فالحرب، عند هيراقليطس، هي أصل كل تحوّل. وكانت مقولته الشهيرة “الحرب هي أب كل الأشياء”، تشير إلى أنّ الصراعات هي المحفّز الأساس للتغيير الاجتماعي والحضاري، بمعنى آخر، تعتبر الحرب بمثابة القوة الخالقة التي تعيد تشكيل العالم.
وفي حوارات أفلاطون، يولي سقراط اهتمامًا كبيرًا بالأخلاق حتى في سياق الحرب، حيث ناقش تصرفات الجنود بطريقة أخلاقية في ساحة المعركة. يصوّر هذا البعد الأخلاقي سقراط كرجل ملتزم بالفضيلة والنزاهة حتى وسط فوضى الحرب، مما يسلّط الضوء على التناقض بين العنف والحاجة إلى الأخلاق.
في أحد أعظم أعماله، “الجمهورية”، نظر أفلاطون إلى الحرب من منظور الدفاع عن الدولة المثالية وخلق “الحراس” – المحاربين الذين سيصبحون حاملي العدالة والحكمة. بالنسبة لأفلاطون، كانت الحرب أداة لحماية مجتمع يحكمه مبادئ جيدة ونبيلة.
كما اِعتقد أرسطو، الطالب المشهور لأفلاطون، أنّ الحروب لم تكن مجرّد سبب للدمار العشوائي، بل وسيلة للحفاظ على السلام والنظام. وبذلك، حسب أرسطو، فإنّ الشجاعة العسكرية هي إحدى هذه الفضائل التي تميل إلى الحفاظ على استقرار وأمن المجتمعات.
يعكس ذلك تركيز أرسطو على السلام من خلال الاستخدام الاستراتيجي للقوّة، وبمعنى أوسع، موازنة المصالح من أجل الرفاهية الجماعية، وهو ما وجد صدى كبيرًا لدى الواقعية السياسية.
تقدّم هذه النظرات الفلسفية القديمة فهمًا عميقًا للواقع المتعدد الأوجه للحرب، وآثارها الأخلاقية، ودورها في تحويل المجتمع.
تأمّلات حول مفهوم الحرب في العصور الوسطى
تم تطوير مفهوم الحرب في العصور الوسطى من خلال التأمّلات الفلسفية لمفكّرين بارزين مثل القديس أوغسطينوس وتوماس أكويناس. ظهر مفهوم “الحرب العادلة” مع أفكار أوغسطينوس، وهو عالم لاهوت وفيلسوف عظيم، في عمله “مدينة الله”.
وفقًا لفكرته، يمكن تبرير الحرب أخلاقيًا إذا كان هدفها الدفاع عن عالم عادل ومستقيم. وفقًا لأوغسطينوس، فإنّ الحرب العادلة هي تلك التي تُشن لأغراض مبرّرة وتُعلن للحفاظ على السلام والعدالة.
مُوَسعًا على أفكار أوغسطينوس، طوّر توماس أكويناس مفهوم الحرب العادلة في كتابه “سومّا تيوولوجيكا“. حيث حدد أكويناس سلسلة من المعايير التي يجب أن تفي بها الحرب ليتمّ اعتبارها عادلة أخلاقيًا.
تضمّنت هذه المعايير الظروف التي تبرر اللجوء إلى الحرب، في النية الصالحة كما حدّد أكويناس أن الحروب التي تشن دفاعًا عن النفس أو لاستعادة السلام كانت بالتالي مبررة في ظلّ بعض الشروط الصريحة، كأن تكون السلطة التي تقرّر الدخول في الحرب صاحبة سلطة شرعية، وأن تكون هناك فرصة واقعية لتحقيق أهداف الحرب.
في العصور الوسطى، كانت هذه التأمّلات الفلسفية بمثابة المرشد للحكام والقادة في معضلاتهم الأخلاقية حول الصراعات والنضالات من أجل السلطة. على سبيل المثال، خلال الحروب الصليبية، التي شنّتها القوى الأوروبية لاستعادة القدس من الهيمنة الإسلامية، شكّلت مفاهيم مثل الحرب العادلة أفكار القادة حول كيفية إيجاد أسباب لحملاتهم العسكرية مع احترامهم للمُعتقدات الدينية.
كانت تعاليم أوغسطينوس وأكويناس أرضًا خصبة للتطورات اللاحقة على نظرية الحرب العادلة، وقد شكّلت جميع المناقشات الأخلاقية حول الصراع المسلح لقرون.
معنى الحرب في العصر الحديث
حلّل كثير من المفكّرين الكبار مفهوم الحرب وما يصاحبها من تعقيدات وعواقب أخلاقية، وقد تم تعديل هذا المفهوم بشكل كبير من خلال التصوّرات الفلسفية المختلفة التي كان لها تأثير كبير من قِبَلهم، فالفيلسوف السياسي الإيطالي العظيم نيكولو مكيافيلي كان ينظر إلى الحرب كجزء لا يتجزأ من السياسة والحكومة، فحسب مكيافيلي، كانت القوّة والحرب وسيلتان في أيدي القادة لفرض الهيمنة وتحقيق الأهداف السياسية، وقد كان كتابه الشهير “الأمير” بمثابة رسالة حول القضايا العمليّة للدولة وكلّ ما يهمّ السلطة، من الدبلوماسية إلى القوّة العسكرية.
على الجانب الآخر وفي عمله الضخم “ليفياثان” طرح توماس هوبز فكرة الحرب من منظور مختلف تمامًا، حيث كان يرى أنّ الإنسان عاش في الطبيعة في حالة حرب دائمة ضدّ أقرانه.
يعتقد هوبز أنّ الطبيعة تستدعي وجود سلطة مركزية قوّية جدًا، أو ليفياثان، لمنع الفوضى وضمان النظام الاجتماعي، وبالنسبة له فإنّ الحرب هي غياب المجتمع المدني، والذي يعني بالتالي ضرورة وجود قوّة دولة قوية لمنع العنف في المجتمع.
طوّر إيمانويل كانط، أحد أكثر فلاسفة الأخلاق والميتافيزيقا شأنًا، نموذجًا قائمًا على الرؤية لبناء السلام في عمله “السلام الدائم”، ووفقًا له، يمكن تحقيق السلام الدائم من خلال نوع من اتّحاد الدول الحرّة التي تطمح إلى مصالح مشتركة وقانون دولة صالح عالميًا.
تنبأ كانط بعالم يتم تجنّب الصراعات فيه من خلال الحوارات، بحيث تستند المبادئ فيه إلى الحرية الفردية والتعاون الدولي واحترام حقوق الإنسان. ربّما كان أفضل من عبّر عن ذلك هو الجنرال البروسي والمنظِّر العسكري “كارل فون كلاوزيفتز – Carl von clausewitz” الذي كان يعتقد أنّ الحرب ليست في جوهرها سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى. بهذا المعنى، كانت الحرب نوعًا ما كالأداة العنيفة التي ستجبر العدو على الموافقة على إرادة الخصم. يؤكد منظور كلاوزفيتز هنا بشدة على الحرب باعتبارها استراتيجية وأدائيّة بطبيعتها، وبالتالي تحقيق الأهداف السياسية من خلال أداة القوة.
تناول ليو تولستوي (1828-1910)، في أكثر أعماله الأدبية والملحميّة شهرة “الحرب والسلام”، بعض التأمّلات الفلسفيّة حول الحرب والأخلاق والتحديد التاريخي. حيث صوّر تولستوي الحرب بدقّة على أنها تجربة إنسانية معقدة، وكشف عن الجانب القبيح للصراع المسلّح، متحدّيًا بذلك الأفكار الرومانسية عن البطولة والشجاعة.
شارك الفيلسوفان الوجوديان جان بول سارتر (1905-1980) وألبير كامو (1913-1960) في حوارات حول موضوع الحرب فيما يتعلّق بالوجود الإنساني والحرية والاختيار الأخلاقي.
ففي الوقت الذي يؤكّد فيه سارتر على مسؤولية الفرد في إحداث العنف، باعتباره خيارًا حرًا، يرى كامو أنّ العنف هو نتيجة حتمية لعالم عبثي، وأنّ الفرد مضطّر للتمرد ضده.
على اختلاف وجهات النظر في جميع المواقف الفلسفيّة التي تدور حول مفهوم الحرب إلّا أنّ الفلسفة والمفكرين جميعهم كانوا يتفقون على القلق بشأن الجانب الأخلاقي للعصر الحديث فيما يتعلّق بالصراع المسلح.
إذن، هل يمكن تبرير الحرب اليوم؟
أعرب فلاسفة مختلفون عن وجهات نظر مختلفة حول تبرير الحرب على مرّ التاريخ. على سبيل المثال، اِعتقد إيمانويل كانط، وهو الملتزم بالأخلاقيات الواجبة، أنّ الذهاب إلى الحرب أمر غير أخلاقي لأنّ الحروب تنتهك المبدأ الأخلاقي، وتعامل الأفراد كغاية وليس كوسيلة لتحقيق غاية.
من ناحية أخرى، وفقًا للأخلاق الفاضلة عند أرسطو، فإنّ الحرب لا تُبرّر إلّا في حالة واحدة، وهي حالة شنّ الحرب لأسباب نبيلة، كالحاجة للدفاع عن الوطن.
ويرى الفيلسوف الوجودي جان بول سارتر أنّ الحرب هي عنف ودمار يؤثّر في الحرية الإنسانية بالضرورة. ورأى أنه يتعيّن على الأفراد تحمّل مسؤولية أفعالهم وأن يفكّروا دائمًا في الآثار الأخلاقية عند الدخول في صراع مسلّح.
بغض النظر عن تنوّع الآراء، فإنّ احترام الحياة البشرية هو موضوع مشترك واضح، وتؤدّي خسارة الأرواح بشكل عشوائي أثناء الحرب إلى طرح مخاوف أخلاقية عميقة تتجاوز مبرّرات الحرب، كما تشير العواقب المدمرة على المدنيين الأبرياء المحاصرين بين نيران متبادلة إلى المعضلات الأخلاقية المتأصّلة في الصراعات المسلحة.
لذلك، بغض النظر عن كيفية إجراء هذه المناقشات الفلسفية حول أخلاقية الحرب، فإنّ قيمة الحياة البشرية أكبر بكثير من أيّ مبرر نظري للعنف.
كما أنّ كرامة وقيمة الشخص تتحدّى البشريّة للعمل والسعي المستمر لإيجاد وسائل سلميّة لتسوية النزاعات والدفاع عن المبادئ الأساسية للعدالة والرحمة. كذلك فإنّ الدمار الذي تسبّبه الحرب في الحياة الانسانية يثبت، في سياق السعي نحو الأخلاقية، أنّ السلام هو الأكثر أهمية.