نظريات خلق الكون في الحضارات القديمة

دوماً ما تمثّل لنا بعض الأسئلة عبئا بسبب دلالتها الدينية، أو عدم القراءة الكافية والتناول المحايد لفصل الدين عن الأسطورة. من هذه الأسئلة كيف بدأ الخلق أو الكون؟ 
فإنه وبعيدا عن الديانات الإبراهيمية -وإن كنّا حتى اللحظة نتناول الرواية التوراتية لخلق الكون- التي هي بالمناسبة لا تثبت على رأي واحد بل عدة آراء في آيات مختلفة من إصحاحات سفر التكوين، وحتى المزامير، فإنّ لكل حضارة قديمة تفسير عن كيف بدأ الكون؟ يوضّح كل منها نمو وظهور نبتة النشاط الأدبي لدى تلك الحضارات. 

الأسطورة العبرية:

جنبا إلى جنب مع آيات التوراة، فإنّ القصص الشعرية أو ما يُسمّى بالمزامير؛ تمتلئ بالحكايات التي يرجّح أنّها تُعبّر عن أشكال أخرى من الأساطير حول النشاط الإلهي في عملية الخلق في الأساطير العبرية. حيث إنّه في آيات الإصحاحين الأول والثاني نجد روايتان عن عملية خلق الكون. في الآية الرابعة بالإصحاح الأول، توجد الرواية الأولى والتي تعود لعصر الملكية وبعد مائتي سنة من دخول بني إسرائيل فلسطين هربا من مصر مع موسى عليه السلام ويوشع بن نون. أما الرواية الثانية والتي يُجمع العلماء على أنها في فترة بعد المنفى؛ وتلك الفترة هي بعد عودة المنفيين من بابل نتيجة لسياسة قورش التحريرية، والتي فيها أعيد بناء معبد أورشليم واستراد اعقيدة مرة أخرى، وبدأت طبقة من رجال الدين الاهتمام بالكتابة والتقاليد القانونية والتاريخية للشعب اليهودي. وقد قسّم صموئي هنري هوك، وهو أحد الباحثين المهتمين بالأساطير في الحضارات القديمة، الفروق بين الروايتين، في الأسطورة العبرية لخلق الكون، في ثلاث نقاط هي: 

أولا: الحالة الأصلية للوجود: في الرواية الأولى سوف نجد أنّ الكون عبارة عن حالة من الفوضى المائية. بينما في الرواية الثانية؛ سوف نجد الكون عبارة عن بريّة ليس فيها ماء أو نبات. 

ثانيا: إلى من يُنسب عمل الخلق: في الحالة الأولى نجد أنّه إيلوهيم، وفيه يقَسّم العمل لستة أيام متبوعين بيوم سابع “يوم الرّاحة”. بينما في الحالة الثانية؛ نجد أنّها تنسب عمل الخلق لإيلوهيم أيضا ولكن ليس هناك أية ملاحظات عن الوقت. 

ثالثا؛ نظام الخلق: في الحالة الأولى نجد أنّ في البداية تم خلق النور، وقبّة السماء. ثم شجرة من كل نوع من النباتات، ثم شجرة الحياة، ثم شجرة معرفة الخير والشر، ثم الحيوانات، والوحوش؛ ولكن بدون ذكر للأسماك في هذة الرواية، ثم الرجل ومن ضلعه المرأة. 

إعلان

بينما في الحالة الثانية: رجل خُلق من تراب، وجنة في الشرق في عدن، وكانت الأرض الجافة، وثلاثة أنواع من النباتات، والشمس والقمر والنجوم. والحيوانات، والإنسان ولكن هنا خُلق الذكر والأنثى معا.    

يمكننا من قراءة الفروق السابقة في الروايتين التوراتيتين نجد أنّ عمل الخلق يتكون في خلق النظام من الفوضى، وليس المادة من العدم للوجود. حيث في الرواية الأولى نجد الكون عبارة عن فوضى مائية في حالة بدائية، والتي هي بالمناسبة تتوافق مع الأسطورة البابلية والمصرية القديمة في خلق الكون. بينما في الحالة الثانية العالم عبارة عن بريّة غير مسكونة وليس بها أي نباتات أو أمطار.  

الأسطوة السومرية ونصوص خلق الكون

إنَّ من أهم النصوص الملحمية في النصوص السومرية هي النصوص الخاصة بخلق الكون، والتي يمكن تنظيمها في ثلاثة أمور؛ نشأة الكون ثم تنظيمه ثم خلق الإنسان. 

بالنسبة لنشأة الكون، فإنّ الألواح السومرية القديمة تُخبرنا بقائمة مهمة بالآلهة التي توجد في مقدمتها الإلهة “نامو”، ممثلة برمز البحر، وتوصف بأنّها أمّ الآلهة التي أعطت الميلاد للسماء التي تعرف باسم الإله “آن” والأرض التي تعرف باسم الإله “كي”. وأنهما اتحدا وتزاوجا ونتج عنهما الإله “إنليل” والذي يوصف بأنّه من فتق السموات والأرض وباعد بينهما وأصبح يفصلهما الهواء. ولكنّ الألواح لا تعطينا أي تفسير عن البحر الأبدي الذي خرج منه كل ذلك. 

ويمكننا دمج تنظيم الكون وخلق الإنسان هنا: حيث أنّه وفقا للأسطورة السومرية، فإنها قد عالجت خلق الشمس والقمر والكواكب ثم تنظيم شئون الأرض بعد ذلك. حيث إنّ إنليل قد افتتن بالإلهة “نينليل” واغتصبها وهي تُبحر في مجرى “نينبرود”. وعقابا لفعله الشنيع تم الحكم عليه بالهبوط للعالم السفلي، ولكن نينليل قد أغرمت به وعشقته وقررت أن تتبعه للعالم السفلي، ولكن كانت المفاجأة بأنها حملت بإله القمر “نانا”. وتلك كانت مشكلة كبرى تواجههما، حيث سيولد القمر في عالم الظلام بدلا من النور. فقرر إنليل بخطة ذكية منه أن تصبح نينليل أما لربات العالم السفلي الثلاث بدلا من نانا، والتي صعدت للسماء. ثم تبعها الشمش “أوتو”. وهنا يمكن الملاحظة بأن في الأسطورة العبرية الشمس هي الكوكب الأساسي، بينما القمر أنثى كما في غيرها من الأساطير الكلاسيكية. وبعد انتهاء العمل في السماء، قرر إنليل النظر إلى الأرض، لإعادة تنظيم شئونها؛ فأصبح مصدرا لكل الماشية والنباتات والمنتجات الزراعية وغيرها؛ وإن لم يكن قد فعل ذلك بنفسه، حيث كلما أراد فعل شيء استحدث له إلها صغيرا ليُنجز هذا العمل. وبناء على اقتراح من إله الحكمة “إنكي” صنع إنليل إلهان هما “لاهار” إلها للماشية، و”عشنان” إلها للحبوب، ولكنهما كانا دوما في صراع وقتال، وحالة سُكْر شديدة، ولا ينجزان عملهما المطلوب منهما على أكمل وجه بسبب هذه الصراعات بينهما؛ فاضطر إنليل للتدخل ومعالجة الموقف وقام بخلق الإنسان حتى يزيح عن الآلهة عبء القيام بواجباتها.

 الأسطورة الهندية

بالنسبة للأسطورة الهندية، فإنه في حوالي 1500-1200 ق.م حينما دخل الآريون الهند من الشمال الغربي، فإنّهم بدأوا في وضع أقدم مصنفات الهند والذي يعرف بالـ “ريج فيدا Rig Veda” وهي عبارة عن ما يقارب من الـ 1028 أنشودة وضعها طائفة مختلفة من الكهان، وكان الهدف منها في ذلك الوقت استعمالها في التضحية الفيدية العامة. وكانت تساعد المشرف على الأضحية على تحقيق أهدافه بشكل مشروع، بعيدا عن تسخير المردة والجن وحلفائهم من البشر المضلُّلين.

وبفحص تلك الأنشودات، نجد أن هناك شخصية رئيسية من الآلهة الريجيفيدية وهو “أندرا” والذي إليه يتم توجيه ترانيم أكثر من أي معبود آخر. وأيضا سوف نجد أن أسطورته هي الفكرة الأساسية في المصنف ككل، وتتعلق أيضاً بأسطورة الخلق في الفكر الهندي القديم. حيث في البدء كان هناك كائنات تسمى “أسورا” ومعنى هذا اللفظ “شيئا أو القوة الحيّة”. وأحد هذه الكائنات كان ماردا يُسمى “فرترا”، هذا المارد أطلق عليه بعد ذلك “فرترا دانافا” أو “سليل دانو” وهو بمعنى المنع أو الربط. وكان له أم وهي “دانو” ولم تذكر الأسطورة شيئا عن أب له. هذا الـ “فرترا” مارد الريد فيجا الأكبر هو وجماعته يمثلون الشر. 

إلى جانب ذلك كان هناك أسورات آخر هو “فرترا ودانا فاس”، أو ما يطلق عليه “أديتيا” وهو لفظ معناه الفكاك أو لا رباط. وهذا المارد أديتيا له أم تسمى “أديتي” وهي في الريد فيجا عبارة عن معبودة خيّرة. وبالتالي فإن كلاً من الأديتيات ممثلين في الخير، والدانافات ممثلين في جماعة الشر؛ كانو في قتال دائم، والغلبة في هذا الصراع دوما كانت تميل للدانافات، بينما كانت الأديتيات تنهزم ولا تستطيع تحقيق أي نصر عليهم. فكان لزاما عليهم أن يجدو بطلا لهم يقودهم للنصر، فاهتدوا في النهاية لشخص “أندرا”؛ وهو شخصية ريجيفيدية أخرى لم يتيسر تفسير اسمه تفسيرا شاملا، كما أن محاولة نسبه إلى أبوين هو أمر غير مؤكد، إلاّ أنه من الراجح أنه ابن السماء والأرض، حيث حملت به أمه حينما كانتا متجاورتين ولكنه لم يكن بريئا منذ صغره؛ حيث عمد إلى البحث عن القوة والتي وجدها في شراب يسمى “سوما” كان معلقا في رقبة أمه أحضره له نسر يقال أنه “القمر”، فلما شرب منه انتفخ وزاد حجمه أضعافا مضاعفة، من شدة حجمه المخبف طارت السماء والأرض بحث انفصلتا إلى الأبد.

وتقول عنه الأسطورة بما معناه أنه الطفل الأول والأخير الذي “رمّل أمه”. وأصبح فيما بعد مجال عمله مابين السماء والأرض، حيث يعمل باقي الآلهة والبشر أجمعين. من هنا ناشده الأديتيات وسائر الآلهة أن يساعدهم ضد الدانافات، ولكنه أظهر خبثه وعدم سذاجته حينما اشترط للموافقه على مساعدتهم أن يعينوه ملكا عليهم؛ وبالفعل وافقوا. وعمل على شرب ثلاثة أباريق من الـ “سوما” والتي جعلت حجمه ينتفخ ويتضاعف وأصبح مخيفا أكثر وأكثر، ثم صنع له “تفاشتري” صانع الآلهة سلاحا يسمّى “فاجرا”، هذا السلاح يعادل سلاح البرق لدى الإغريق، ومن ثم أخذ سلاحه وذهب وحده لقتال “فريترا” وهو ثعبان ضخم يرقد على جبل، وتذكر النصوص أن أندرا لم يكن فقط طفلا ساذجا بل كان مقاتلا محنّكا ذا رؤية وشجاعة مبهرة، وامتلك العديد من الحيل السحرية التي في النهاية مكّنته من قتل الثعبان أو تفجير جوفه على حد وصف الأناشيد، ثم ذبح أمه دانو، والتي انكبت حزينة على ابنها المصاب. ومن هنا ظهر ما كان القتال عليه بين الدانافات والإديتيات؛ حيث خرج من كهف في بطن الجبل، وفي بعض الروايات من جوف فريترا الثعبان المقتول نفسه، خرجت المياه الكونية على هيئة إناث من الأمهات، اللاتي كنّ يشتقن إلى الفرار من الاعتقال، وبمجرد خروجهن اعترفن لأندرا بأنه سيدهن الجديد. والمدهش بأن الأسطورة تخبرنا بأن المياه كانت حبلى وكان جنينها “الشمس”. وبالتالي تجمّع كل ما يحتاج إليه لإنشاء الكون، من السماء والأرض والجو، ثم الرطوبة من المياه، والحرارة من الشمس. وميّز في الكون بين عالمين عالم موجود محسوس هو ما أطلق عليه “سات” وفيه يتواجد البشر والآلهة. وعالم غير موجود فيه يتواجد المردة والجن، وهو ما أطلق عليه “أسات” وحددوا مكانه بأنّه في باطن الأرض، وأنه دوما يحتاج إلى الضوء، ويمكن الدخول إليه عن طريق هوّة تسمى “هوة الرعب”. 

بهذا العرض البسيط لأساطير الخلق في ثلاث حضارات قديمة هي العبرانية والسومرية والهندية، يتبقى أن مضيف بأن هناك غير قليل من الأساطير القديمة التي تتعلق بخلق الكون وشكل الإنسان ونظام الحضارة، وعلى الرغم من أوجه الشبه الموضوعي فإنّ الأساطير القديمة تختلف اختلافا شاسعا من حيث اختيار المؤامرات الفردية، ودوافعها بما يتفق وتاريخ الحضارة وخُلُق الشعب الذي أنتجها. وسواء اتفقنا أو اختلفنا مع الدارسين المحدثين للأساطير القديمة الذين يرون بأن الأسطورة القديمة ما هي إلاّ روايات خرافية وهمية ذات منزلة فكرية وروحية ضئيلة، أي أنّها نتاج صبياني لخيال وَاهِمٍ نَزِقْ. أو حتى انتصرنا لرأي العلماء الذين يؤمنون بأن الأساطير القديمة هي واحدة من أعمق منجزات الروح الإنسانية، وهو الخلق الملهم لعقول شاعرية خياليه موهوبة، عقول كانت مفتوحة وعرضة لتأمّلات كونية عميقة.. 

إلاّ إنّها في النهاية تستحق أن تُروى ويعرفها الإنسان المعاصر الحديث، سواء أخضعها لتيار البحث العلمي أو للعمليات التحليلية النقدية؛ أم لا.

  • المصادر:
  1. W. Norman Brown “The Creation Myth of the Red Vega”, Journal of American Oriental Society. Vol. 62, 1942, pp. 85-97.
  2. إسهامات صمويل نوح كريمر عن أساطير سومر وأكاد في كتاب أساطير العالم القديم، طبعة الهيئة العامة للكتاب، عام 1974م. 
  3. آر إيه جونسون، الملكية المقدسة في إسرائيل القديمة، كاديف 1953م.
  4. جي ميندلسون، ديانات الشرق الأدنى القديم، نيويورك 1955م.  

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد يادم

تدقيق لغوي: رنا داود

الصورة: سارة عمرو

اترك تعليقا