منح التفرغ الإبداعي في الوطن العربي: مكرمة متواضعة أم حق مهضوم للمواطن المبدع؟

ثماني ساعاتٍ أو تسعة وأحيانًا عشرة. يزدادُ عددُ الساعاتِ حسبَ الطَلَبِ والمُتَطلّب، يقضيها الكاتبُ -الموظُّف في إحدى المؤسّساتِ الحكوميّةِ أو الخاصَّة- وهو يُقلِّبُ عشراتِ الملفاتِ كُلَّ يومٍ في حينِ أنَّهُ مَضَت عِدّةُ أسابيعٍ منذُ آخرِ مرّةٍ قَلَبَ فيها صفحةً من صفحاتِ روايةٍ يكتُبها.

ويَقضيها الفنانُ والرَّسامُ، بَعيدًا عَن لوحتِهِ التي لم ينتهِ من رَسمها بعد، تلك المُعلَّقةُ في غرفتِهِ والتي تَرجوه أن يقضيَ معها وقتًا أطول، بينما ينتظرُ هو من الإلهامِ أن يُغيّر مواعيدَ زيارتِهِ لكي تتناسبَ مع أوقاتِ فراغهِ التي تقتنصُها ساعاتُ عملِهِ الطويلةُ والشّاقة.

وهنا نَجدُ أنفسنا أمامَ سؤالٍ لا يستقيمُ أيّ نقاشٍ عن الإبداعِ بدونِهِ:

هل يخنقُ العملُ الإنسانَ المُبدِعَ بِداخلنا؟

أو لِنكن أكثر دقّةٍ في التعبير؛هل تُضيّقُ التزاماتنا العمليّةُ الصّارمةُ دائرةَ التواصلِ بيننا و بينَ شغفِنا في الحياة؟

إعلان

قد تكونُ إجابةَ السؤالِ نسبيّةً، تتفاوتُ بتفاوتِ طبيعةِ العملِ أو الوظيفةِ ومتطلباتِها وعددِ ساعاتها، لكن دعونا نتناولُ الموضوعَ بصورةٍ شاملةٍ ونركِّزُ على المشهدِ السائِدِ في مجتمعنا، غالبًا ما يكونُ المبدعُ محصورًا بينَ زاويتين: مصدَرِ رزقِهِ وشغفِهِ أو مصدرِ إبداعِه – وعندما نتحدثُ هُنا عَن الشغفِ فنحنُ لا نتحدثُ عن ذلك النشاطِ الإضافيِّ الذي يُمارسه المرءُ في أوقات فراغِهِ فحسب، بل عن وقودِ إبداعه في حقلٍ ما، عن المصدرِ الذي يمنحُهُ قيمةً وجوديةً وذاتيّةً حقيقيةً-، فيجدُ نفسهُ ملزمًا من الطرفينِ بأداءِ واجباتٍ ومسؤوليِّاتٍ تجاههما، لكن نظرًا لكثرةِ متطلباتِ العيش؛ كثيرٌ من الأحيانِ ما يكونُ المبدعُ مقصّرًا في واجباتهِ تجاه الطرف الثاني بل ومضحيًا بها في أحيانٍ كثيرةً من أجلِ إرضاءِ الطرف الأوّل.

“إن الإبداع مهنةٌ يجبُ على ممارسها الانقطاع لها كغيرها من المهن.” (1)

من هُنا جاءت فكرة مشروعِ التفرغ الإبداعي ، وهي منحةٌ ماديةٌ ومعنويةٌ تطلِقها الدولةُ بالتعاونِ مع مؤسساتِها الحكوميّةِ والخاصّة، وهي تُمنَح للمبدعين في مجالاتٍ معينةٍ كالأدبِ والفنِّ، ممن يستوفونَ شروطًا معينةً. الهدفُ من المبادرةِ هو تقديمُ الدعمِ والمساندةِ لهم، وليتيحوا لهم الفرصةَ لاستكمالِ مشاريعِهم الإبداعيّة دونَ التعثرِ بعراقيلَ ماديةٍ واجتماعيةٍ تحولُ بينهم وبينَ إنجازِ مشروعهم الإبداعيّ، حيثُ يتم إعفاؤهم من وظائِفهم بشكلٍ مؤقّت، ولفترةٍ زمنيةٍ محددة، ويتم صرفُ راتبٍ شهريٍّ لهم خلال تلك الفترة. ولبعضِ البلدان العربيةِ تجاربٌ مع منحِ التفرّغِ الإبداعيّ، ومنها: مِصر، الأردن، والكويت. (2)

منحُ التفرغ الإبداعي في مِصر

تأسَّسَ المشروع في عام 1959، و هي مبادرةٌ أطلقتها وزارةُ الثقافة، حيثُ يوفّر المجلس الأعلى للثقافةِ في مصر عددًا محدودًا من منحِ التفرغ الإبداعي في مجالاتٍ معينةٍ مثل الآدابِ والفنون والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، وعلى المرشّح أن يستوفيَ شروطًا معينةً بالإضافةِ إلى تقديمِ بعضِ المستندات والأوراقِ اللازمة.

يُشترط على المرشّح ألّا يكونَ قد حصلَ على المنحةِ لمدةِ ٤ سنواتٍ سواءَ أكانت منفصلةً أم متصلةً، كما أنّه ملزمٌ أن يقدمَ نبذةً عن أعمالهِ الإبداعيّةِ ونماذجًا منها، بالإضافة إلى حصوله على الموافقةِ من جهة عملهِ. بلغ الحدُّ الأدنى للرواتبِ الشهريةِ التي مُنحت لمنتسبي البرنامجِ في عامِ 2017 1200 جنيه شهريًا والحدُّ الأقصى 2400 جنيه. (3)

الأُردن

تأسَّسَ المشروعُ في الأردنِّ عام ٢٠٠٧ وتمَّ إيقافُه لفترةٍ محدودة، وخضعَ إلى بعضِ التعديلاتِ والتغييراتِ بعد فترةٍ من إيقافهِ؛ حيثَ تمَّ خفضُ عمر المرشحِ من أربعينَ ربيعًا حتى خمسةٍ وثلاثين ربيعًا، وتمَّ تقليلُ عددِ أعمال المرشّحِ المنشورةِ إلى عملينِ في المجالِ الأدبيِّ وثلاثة أعمالٍ في المجالاتِ الأخرى. تُقسّمُ فتراتُ التفرّغِ كالتالي: سنةٌ كاملةٌ براتبٍ شهريٍّ قدرهُ 15,000 دينار، ستّةُ شهورٍ براتب 7500 دينار، ثلاثةُ شهورٍ براتبٍ شهريٍ قدره 3500 دينار. وتعتمدُ مدّة الفترةِ الزمنيةِ للتفرّغ على حجمِ العمل الإبداعيّ (4).

الكُويت

أمّا تجربةُ الكويتِ مع المشروعِ فهي تُلزِم المتقدمَ أو المرشّحَ أن يقدّم مقابلًا وهو جزءٌ من إنتاجهِ الإبداعيّ، خمسونَ نسخةً من عملهِ الأدبيِّ أو الفنيِّ الذي تم دعمهُ من قِبَل المجلسِ الوطنيّ للثقافةِ والفنونِ والآدابِ في الكويت، وتبدأُ فترةُ التفرّغِ من ستةِ أشهرٍ قابلةٍ للتمديدِ بحسبِ احتياجاتِ ومتطلباتِ المشروعِ الأدبيّ أو الفنيّ الذي يعملُ عليه المرشّح. (5)

هل يحتاجُ المشروعُ إلى اهتمامٍ أكبر في الوطنِ العربيِّ؟ وما العقباتُ التي تواجهه؟

يقولُ سامي أحمد، مدير عام دارِ “تكوين” للنشر والترجمة بأنَّ: “البلدانَ العربيّةَ غيرُ مهيأةٍ لموضوعِ التفرّغِ الأدبيِّ والإبداعيّ”؛ ذلكَ أنّ التفرغَ وحدهُ لا يكفي، بل ينبغي أن يتوفرَ للمبدعِ العربيّ سقفٌ من الحريةِ الثقافيةِ ومناخٌ يسمحُ لهُ بأن ينتجَ إبداعهُ بدونِ قيودٍ وإلّا سيكونُ الأمرُ كَمن فكَّ أسرهُ للتوِّ ثُمّ اعتقلَ فورًا؛ فقيودُ الوظيفةِ وأعباؤُها على المبدعِ لا تختلفُ كثيرًا عن القيودِ التي يفرِضها المجتمعُ على المبدعِ أثناء ممارستهِ وإنتاجهِ لإبداعهِ.

تعتبرُ الشركاتُ الخاصّةُ والحكوميّةُ عاملًا أساسيًا في نجاحُ مشروعِ التفرغِ الإبداعيّ، ذلك أنّ من شروطِ المنحةِ أن يأخذَ المرشحُ الموافقةَ من جهةِ عملهِ وهو ما لا يحدثُ بسهولةٍ حتى وإن استوفى المتقدمُ الشروطَ المطلوبة، ويرى رئيسُ الهيئةِ الإداريّةِ لاتحادِ كتّابِ وأدباءِ الإمارات، أحمد العسم بأنّه :”نادرًا ما يتمُّ تفريغُ المبدعِ كليًّا؛ بدعوى الخسارةِ الاقتصاديةِ أو تخلخل العملِ أو عدم وجودِ بديلٍ وغير ذلكَ من ادّعاءاتٍ و حِجَج”.

ويشاطرهُ في الرأي الكاتبُ والباحثُ البحريني الدكتور حسن مدن: “إن القطاعَ الخاص لا يحتكمُ إلى معاييرِ التفرّغِ، خصوصًا أنّ ما يهمهُ هو الموظفُ وليس شخصًا بحاجةٍ إلى تفرّغ”.

منحُ التفرغ الإبداعي مشروعٌ يساهمُ في نجاحهِ عدةُ أطرافٍ، ومنها المؤسساتُ الخاصّةُ التي غالبًا لا تؤدّي دورها كما ينبغي في دعمِ المشروعِ لا سيما في المساهمةِ في إنشاء صناديقَ لتمويلِ الإبداع. (6)

هل من منجزاتٍ عربيةٍ للمشروع؟

ولننظرِ إلى ربعِ الكوبِ المُمتلئ؛ فقد حقَّقَ المشروعُ بعضَ النتائجِ الإيجابيّةِ في الأردن، ونتجَ عنهُ مجموعاتٌ قصصيةٌ متنوعةٌ، ومعارض تشكيليةٌ وعروضٌ مسرحية (7). كما أنّ تجربةَ مصر حقّقت أيضًا نجاحًا تُرجِم إلى معرضٍ تشكيليٍ احتضنَ معروضاتٍ عديدةٍ في الرسمِ والنحتِ والجرافيك، صُنعت على أيدي 202 مبدعٍ وفنانٍ ممّن انتسبوا إلى برنامجِ التفرغ الإبداعي ، بالإضافةِ إلى استفادةِ بعض الشعراءِ والكتّابِ من المنحةِ، مثل الروائيِ النوبي إدريس علي والشاعر علي أحمد باكثير.(8)

ختامًا، إن الإبداعَ – في أيّ مجالٍ كان- ليسَ مسألةً فرديةً تخصُ المبدعَ وحده، بل هو مقومٌ أساسيٌ من مقوماتِ النهضةِ الثقافيةِ في أيِّ دولةٍ. من حقِّ الدولةِ على مواطِنها أن يخدمها بفكرهِ وفنّهِ ومن حقِّ المواطنِ على دولتهِ أن ترعى هذا الفن والفِكر.

المصادر:

(1) http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/6feb24d3-38cb-4d6c-a9b5-84017bb12fa4

(2) http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/032ed011-25c3-41c7-96c4- 23c1652b3b6e6

(3) http://www.alhayat.com/article/852629/منح-التفرغ-للإبداع-تثير-جدلًا-وشكوكًا

(4) http://alrai.com/article/10399050/ثقافة-وفنون/الثقافة-تعلن-الحاصلين-على-مشروع-التفرغ-البداعي-2017-2018

(5) https://www.nccal.gov.kw/pages/competitions/دعم-المطبوعات-الأبداعية

(6) المصدر الأول

(7) http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page/032ed011-25c3-41c7-96c4-3c1652b3b6e6

(8) https://www.elwatannews.com/news/details/3827586

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: شيماء يوسف

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا