مراجعة رواية البطء: ماذا كشف لنا الحظر المنزلي الطويل عن ذواتنا؟
أن تعبر عن الشيء بنقيضه، العقل بالجنون، العظمة بالانحطاط، والصمت بالموسيقى إبداعٌ يعلوه الجنون.
( لِمَ اختفت لذّة البطء، وأينَ هم متسكعوا الزمن الغابر؟)
أتساءل دومًا عن العبقرية الفذة، والفن العظيم، والإحساس غير المرهف، الذي جعل الموسيقيّ “إرنستو كورتزار” يعبر عن الصمت بالموسيقى في مقطوعته العظيمة “صمت بيتهوفن”؟! في محاولة منه للتعبير عن فترة الصمم الذي أصيب به الموسيقي الفذّ بيتهوفان فأنتج فيه أعظم أعماله الموسيقية!
أن تعبر عن الشئ بنقيضه، العقل بالجنون، العظمة بالانحطاط، والصمت بالموسيقى إبداعٌ يعلوه الجنون. وكونديرا -الموسيقي بالكلمات- مبدع يعلو إبداعه الجنون دومًا وربما يبلغ من العمق في الفهم والتحليل ما لا يبلغه غيره من الأدباء..
نوفيلا البطء
نوفيلا صغيرة جدًّا ولكنها كثيفة الأفكار الفلسفية، يعرض فيها كونديرا الأفكار ويضع لها تفسيرًا كعادته في الكتابة، تارة بالحكاية وأخرى بالسردِ موسيقيِّ الروح، وأخرى بالهزل والخفة وتارة بالجد، كقائد وحيد للمعزوفة يأخذنا -معشرَ القرّاء- حيثما يريد.
للوهلة الأولى قد يبدو لنا أن كونديرا يستعرض قصتيّ حبّ بالتوازي، إحداهما حدثت في القرن الثامن عشر بإيقاع هادئ وبطيئ والآخرى حدثت في القرن العشرين المهووس بالنسيان على حدّ تعبيره الخلاب!
ولكن الحقيقة أنه كتب النوفيلا تمجيدًا في البطء ورثاءً له وبكاءً عليه، يقول كونديرا على لسان البطل الذي يصعب العثور على اسمه طيلة الرواية:
“لمَ اختفت لذة البطء، وأين هم متسكعوا الزمن الغابر؟ ثمة مثَل تشيكي يُمَثِّل هؤلاء ويقول عنهم إنهم يتأملون نوافذ الإله، ومن يتأمل نوافذ الإله لا يسأم..“
هكذا البطء في مخيلة كونديرا قرينًا للجمال ولكننا الآن في زمنٍ مهووس وسري
ثم يفسر لنا أسباب اللهاث وراء السرعة في العصر الحديث حتى طالتْ هذه الأزمةُ الحبَّ ذاتَه أسمى وأجمل ما يحدث للإنسان بأن لحظات السرعة واللهاث هي لحظات شبيهة بلحظات النشوة التي تسكرنا وتغيبنا عن مصدر الخوف الأبدي “المستقبل” ذلك المجهول الذي نخشاه!
وحدها السرعة الزمنية في لحظتها تفصلنا عن الماضي وتغيبنا عن الحاضر، ثم تتصاعد قوة السرعة عند كونديرا في (زمن الآلة) كلما تقدم الزمن حتى وصلت إلى الحد التي تلغي فيه وجود الإنسان تمامًا في لحظة جنونية مثل لحظة ركوب الدراجة النارية فتتحقق نشوة وهروب جميل من الواقع وتعيد علاقة الإنسان بالسرعة تشكيل رؤيته وتعاطيه مع إيقاع الحياه مرة أخرى، تصير بالضرورة السرعة المفرطة قرينة النسيان وحينها كما يقول “لا يبقى للجمال طريق طويل يسكن فيه بل يتلاشى مع كل شيء”.
الشرط الإنساني الجديد..
وتقترن السرعة بالصورة والشهرة، يقول كونديرا “إنها من الآن و صاعدًا جزء من الشرط الإنساني” أي إن الإنسان لن يشعر بقيمة وجوده إلا أن يكون مشهورًا لتلتقي السرعة، والنسيان والشهرة في دائرة إحساس إنسان العصر الحديث بذاته وإدراكه لها من خلال تلك الدائرة.
نحن والحظر والبطء.. ماذا كشف لنا الحظر عن ذواتنا؟
حينما قرر السيد covid 19 أن يجتاح العالم ويفتك بنا، توقّف كل شيء، العمل، الدراسة، الحياه على الأرجح، وبدأت الأرض في مرحلة أخرى من الهدوء الذي شعرت به البحار والجبال والشوارع حتى ثقب الأوزون!
وعندما بقى البشر أو أغلبهم في ( الحظر المنزلي)، أو (البقاء المنزلي) كما أحب أن أسميه، اختلفت ردود أفعال الناس حول هذا السكون الذي هو نقيض الحركة في توازٍ مبهر أعادني (لنوفيلا البطء) العظيمة للأديب العظيم ميلان كونديرا.
البعض أظهر استمتاعًا بهذا البقاء في شيء من الحنين للحياة الإنسانية السوية، بينما تذمّر الكثيرون والكثيرات ممن لم يعتادوا الهدوء واعتادوا الصخب، واعتادت أيديهم ربما التلامس مع لوحات التحكم والشاشات أكثر من لمس أجساد أطفالهم فاصطدموا بتلك الحياه الجديدة المفروضة عليهم، حياة المنزل!
أصبح الهدوء والبطء تقييدًا لحركتهم الروحية قبل الحركة الجسدية، وانكبوا تمامًا على تقليل الساعات التي يقضونها مع بعضهم البعض من خلال الانفصال مرة أخرى ولكن في حيّز أصغر، ومن خلال الهواتف الذكية، والشاشات التي صارت بديلة عن قضاء الساعات الطويلة في الأعمال والأحاديث والكثير مما يمكن فعله في تلك الأوقات بشكل إنساني حميم ومفقود.
رأينا الأمّ التي ضجرت من الجلوس بين أبنائها في المنزل لتوقف حركة المدرسة، والأب الذي افتقد القهوة أو الكافيه – بحسب طبقته الاجتماعية – أو مجالسة الأصدقاء لأنه لم يعرف يومًا كيف هي حياة أبناءه في المنزل، حتى الشباب لم يسلم من الأمر وما إن وجد حياته خارج المنزل قد توقفت اعتقد أن الحياه في الداخل لم يعد لها معنى إلا الانتظار حتى انتهاء الحظر المنزلي.
لقد كشف البقاء لنا عن هشاشة إنسانية وقلة خبرة بالمهارات الحياتية الأولية، بل والشعور بالغربة تجاهها كما كشف عن حاجة ماسّة إلى إعادة التواصل الإنساني بيننا وتفعيله في حياتنا.
لماذا عجزنا عن التعامل مع مدة البقاء طويل الأمد في البيت؟!
نحن أناس سريعون للغاية نجري لنلحق بالحياة، نستيقظ في الصباح لنرتدي ملابسنا سريعًا، نستقل السيارات أو القطارات أو المواصلات، لنصل إلى مقارّ العمل لنبدأ في صراع آخر مع الزمن الصراع بين الأعمال التي لا تنتهي والأوقات والنقود التي لا تكفينا ولا تساوي هذا الجهد، حتى نعود بعد ساعات طويلة وشاقّة ومهلكة بدنيًّا وذهنيًّا من أجل سويعات هادئة قبل الغرق في نوم عميق من أجل إعادة اليوم مرة أخرى بمشاقه .
ربما لا يجد الأب أو الأم ما يكفيهم من وقت لمرافقة الصغار داخل البيت فضلًا عن التعرف العميق إليهم فلم يعد البشر الآن يملكون تلك الرفاهية إلا الأثرياء ومن لا حاجة لهم في الاستغراق في الأعمال رغمًا عنهم!
كيف يمكن أن يخدمنا البقاء المنزلي الطويل؟
أعظم ما يمكن أن نستفيد منه في مدة البقاء المنزلي في نظري هي إعادة تلك القدرة المسروقة منا على التواصل العميق والقوي مع ذواتنا أولًا، واكتشاف ما نحب أن نفعله وما نجيد فعله وما نود أن نفعله.
ثم في علاقاتنا مع الغير، تقييمها، ترميمها إن احتاجت، علاقاتنا بالأشياء حولنا طريقة الحياة التي نتبعها، الطريقة التي نحب لها أو نكره، طريقة اختيارنا للموسيقى التي نستمع إليها، و ذلك الفن الذي نسميه فنًّا، أن نصبح فاعلين لا مفعولًا بنا على الدوام، طريقة شرائنا واستهلاكنا للأشياء هل حقًا نستهلك ما نحن بحاجة إليه أم أننا فقط مدفوعون بصورة أو بأخرى نحو أشياء لا تنبع في الحقيقة من الداخل بل من الخارج تمامًا، حياتنا الروحية أو الداخلية كيف هي، حساسيتنا تجاه الناس، صحتنا النفسية والجسدية ماذا أكلتْ منها الحياه وماذا أبقتْ؟
إذا كان للسيد كوفيد 19 علينا فضلٌ واحد فهو تلك الإجازة الطويلة الهادئة التي منحها لنا خلسة من عمر الزمن.
رابط لمقطوعة الموسيقي ” إرنستو كورتزار” صمت بيتهوفن التي تليق بالهدوء والسكون الذي نحتاج إليه.