محسن محي الدين.. حلم الألوهية ليوسف شاهين الذي تحول لكابوس التمرد
عندما ذهب (محسن محي الدين) الممثل الشاب الذي لم يتخطَّ عامه السابع عشر لمكتب المخرج الكبير يوسف شاهين، طلب منه شاهين أن يأتي باثنين من أصدقائه الممثلين وأن يقرأوا سيناريو يعطيه لهم ويختار هو الدور الذي يرى نفسه به، كان السيناريو لأول فيلم في رباعية شاهين لسيرته الذاتية (اسكندرية ليه؟)، وبعد أن حضر محسن في المرة التالية اختار دور الشاب الدنجوان، ولكن شاهين قال له أنه سيقوم بدور (يحيى) بطل الفيلم الذي يجسد شخصية (شاهين)، وعندما رد (محسن) بأنه لا يرى نفسه فيه، رد شاهين: “أنا اللي أقول مش أنت اللي تقول”.
كان هذا اللقاء الأول بينهم وكان رد يوسف شاهين التعبير عن ديكتاتوريته في التعامل مع الممثل، والغريب من البداية أن يعطي له فرصة الاختيار ولكنه لا يأخذ برأيه، ربما رأى شاهين شيئًا عميقًا في محسن محي الدين جعل لديه شعورًا جارفًا أن هذا هو الأنسب ليكون يوسف شاهين على الشاشة، في فيلم (اسكندرية كمان وكمان) الذي عرض فيه شاهين قصة علاقته بمحسن وانفصاله عنه.. يحيى الذي هو (يوسف شاهين) وجسده بنفسه، وعمرو –محسن محي الدين– والذي جسده (عمرو عبد الجليل) وفي أحداث الفيلم بعد فوز فيلم (اسكندرية ليه؟) بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين، يرقص يحيى وعمرو باستعراض من يحيى وتقليد من عمرو لحركات يحيى وتحدي عمرو بحركات مفاجئة.. ثم يجلسان ويقول يحيى له عن لسان زوجته:
“لما شافت الفيلم حست إنك أنت أنا بالظبط.. المليجي أبويا بالمللي.. وأنت وأنا صغير بالمللي.. نظرة العين واحدة.
– عمرو: يعني هبقى مخرج مهم زيك لما أخلص معهد السينما
هتبقى أحسن ممثل في العالم..”ويحكي له يحيى عن حلمه بتمثيل هاملت وأن يصبح أحسن ممثل في العالم ثم يقول..
“وبما أنك أنا على أحسن شوفت بقى مسئوليتك دي بقت قد ايه؟”
يعكس هذا الحوار في الفيلم نظرة شاهين الذي اعتبر نفسه الأب الذي يقرر مصير ابنه محسن لأنه يشبه له أكثر مما يشبه نفسه كما يرى، لكنه يضع له حدًا أن يكون هذا في تمثيله لصورته وليس أن يصبح مخرجًا مثله، كأنه نصّب نفسه إلهًا يتحكم في مصيره مثلما يتحكم في مصير شخصيات أفلامه، أو بتشبيه أدق أراد شاهين أن يكوّن ثالوثًا “بينما أرسل الأبُ الابنَ إلى العالم، تم ذلك بواسطة الروح القدس” هو الأب ومحسن الابن والمسافة بين الرؤية والتمثيل الروح القدس، عُرضت هذه العلاقة في الفيلم بشكل يلمح لعلاقة حب مثلية جمعت يحيى بعمرو، كما كان يقول يحيى “ده يشبهني أكتر ما أشبه نفسي” لكن رأيت هذه النزعة الإلهية التي تشبه التصور المسيحي، أو التصور الصوفي أن يتجلى الرب في العبد فيقول هو أنا وأنا هو.
لما مثل دوري اتلخبطت.. مابقتش عارف مين أنا ومين هو.. يمكن هو كمان اتلخبط
تطورت هذه العلاقة ومثل محسن محي الدين دور يحيى مرة تالية في حدوتة مصرية، مرورًا بشخصيات أخرى في فيلمين تاليين قرر محسن بعدهم أن ينفصل عن شاهين بسبب تقييده لأدائه الذي لم يكن موجودًا عندما كان يلعب شخصية يحيى، فكما ذكر محسن في حواراته أنه في فيلم (اليوم السادس) أراد شاهين أن يلعب محسن الدور بأداء شاهين في دور (قناوي) في فيلم (باب الحديد)، بعد انتهاء الفيلم لم يفز محسن بجائزة التمثيل في مهرجان فيلم كما كان حلمه هو، وعبر شاهين في اسكندرية كمان وكمان برقصة عمرو الحزينة منفردًا على أغنية (فات الميعاد) في إشارة على شعوره بالضياع وإنتهاء العلاقة، ويتمرد بعدها (عمرو/ محسن) على هذا المصير الذي حدده (يحيى/ شاهين)
فيقول في الفيلم “عاوز أستقر.. أشوف مستقبلي بطريقتي.. هتجوز واجيب عيال وابقى عادي.. الناس هارياني كلام” ويرفض تصوير فيلم هاملت الذي يقول له يحيى أنه حلمهما الذي سيحققانه معًا، ولكن عمرو يرفض ويقول له أنه ليس حلمه.
وتتداخل أزمة يحيى الخاصة مع فكرة السلطة والديكتاتورية من خلال اعتصام نقابة السينمائيين لاعتراضهم على قانون سيفرض عليهم شخصًا بعينه فى دورات متتالية بلا نهاية، ومن خلال عرض قصة (الاسكندر) من وجهة نظر يحيى، كأنه يحاكم ديكتاتوريته.
ويأتي أوبريت “إهتفوا باسم الإله” الذي يمثل فيه عمرو دور الاسكندر، بعد حوار يحيى مع (جندي) الذي يعارض علاقته بعمرو ويرى أنه يعطيه أكبر من حجمه، فيقول له عندما يعود يحيى للكتابة فيكتب عن الاسكندر ويتصور عمرو في دوره “عمرو عبقري وبالعافية نص إله.. واسكندر نص إله طبعًا ركبت هو”
“يحيى: خد عينيا وشوفه بيها.. هتلاقيه جواك جميل
– جندي: شبر ونص عامله إله.. يا انبهاره بيه عماه
طب خد عينيا وشوفه بيها راح تلاقيه جواك جميل.. هتلاقيه أجمل وأجمل طول ما حبك ليه دليل
– ايه دليلك؟
الإله محتاج دليل!”
يحيى هنا لا يعبد عمرو، ولكن حسب رؤيتي يعرض صورته لنفسه التي خلقها من خلال عمرو وتمناها أن تصل للناس، فكما يقول لاحقًا “نبض قلبي متقسم بينه وبينه.. واللي تشوفه عيني لازم بالضرورة تشوفه عينه.. لو صحيح ده مش إله كنت أول عين يا ناس شافت عيوبه” ويقول عمرو عندما تواجهه (نادية) الشخصية التي جسدتها (يسرا) ويدخل يحيى معها في علاقة لينسى عمرو في الفيلم:
“نادية: أنت عمرك ما حبيته…
– عمرو: بالعكس أنا بحبه لحد دلوقتي.. اسأليه هو بقى، بيحبني زي ما أنا ولا معلق على شبح اخترعه في نافوخه..”
كان لشاهين أحلام نجومية في التمثيل لم يحققها حيث كان ذاهبًا لمعهد مسرح بأسادينا لدراسة التمثيل ثم استهواه الإخراج وركز فيه، ربما بسبب هواجسه أن يخفق كممثل لأنه لا يرى نفسه، فظل الممثل بداخله مقموعًا، فأراد أن يطلقه من خلال محسن، وربما قام بدوره بنفسه في هذا الفيلم ليحرر هذه الرغبة..
“نادية: مادام دور هاملت حارقك طول حياتك ممثلتوش وأنت صغير ليه.. كنت لازم تطرشه وتخلص منه.. معقولة كاتمه فقلبك طول الوقت ده.. شايف إن هاملت ده دورك.. ليه بتحط التاني في بوز المدفع.. خوفت؟ وعمال تمثلهولي من خلال زيد وعبيد ونطاط الحيط.. عامل زي واحد ميت من الغرام ومفوض واحد تاني يحب بداله”، ظل يحيى/ شاهين طوال أربع سنوات يقنع محسن أن يعود لأنه يتحسر على هذا الكيان الذي صنعه كما قال لنادية “عشر سنين بعكُّه لما أكبر موهبة أنا عرفتها، زي الجنايني.. زرعت ورويت.. واللي يزرع يحصد، خد يا علم وخد يا تربية، خد حب وانتماء ووله، باريس لندن طوكيو تومبكتو.. مفيش حتة بعيد.. مفيش حاجة تغلى عليك، عشر سنين.. وبعدين مرة واحدة، قَلبة سودا، مش ده اللي أنا أعرفه ده بني آدم تاني، مرة واحدة أستيكة وزي ميكونش حاجة حصلت”
ولكنه قرب نهاية الفيلم يعلن تجاوزه لهذه الأسطورة، ويقتبس من حوار نادية له عندما كانت تعارضه نظرته أن يكونوا الآخرين مرآة له، فقرب فض اعتصام النقابة التي كان ضمن خطوط الأحداث الرئيسية للفيلم، عندما يطلب المسؤولون من ممثلي أو كبار المعتصمين فض الاعتصام بدون نقاش أو إعطاء مبررات للمعتصمين قبل الفض تمهيدًا للموافقة على المطالب، يقول يحيى “كل واحد حر برأيه.. كل واحد وذاتيته.. ملناش ناخد قرارات باسم أي حد”، يتخلص من هوسه بالاسكندر الذي يمثله عمرو، عندما يعثر على جثمانه تحت الأرض ولكن ينهي حلمه بريمة تخترق السقف والجثمان فيملأ الكادرَ الدمُ، في دلالة على موت الإله بداخله وعمرو، وبعد فض الاعتصام نشاهد يحيى يعرض السيناريو على جندي فيقول له “نبقى خلصنا من هاملت وأيامه.. ودفنا سي اسكندر” ويخرج يحيى بفيلمه “اسكندرية كمان وكمان” وتظهر نادية لتغني في نظرات إعجاب وانبهار من يحيى.. “عايزة أعيش بينكم بذاتى.. ليّا شخصية وهوية.. ليا حرية حياتى.. مش حكاية ألوهية”
قد يرى الكثير من محبي يوسف شاهين، أن تمرد محسن محي الدين كان غباء أو عدم نضج، وبغض النظر عن تلميحات علاقة الحب المثلية التي قد تكون مجرد تعبير درامي مثل الأفكار الرمزية لفرض السلطة، من الأكيد أن محسن كان يعاني أن يصبح مجرد تمثال يشكله آخر لذلك هرب، حاول اكتشاف ذاته بأن يصبح مخرجًا يتحكم ولا يتحكم فيه فأنتج فيلم “شباب على كف عفريت عام 1990“، ثم راجع علاقته مع الله والدين ورأى أنه كان يقدم أعمالًا لا تنفع الناس!
فقدم كارتونًا للأطفال وبرامج دينية في العقد الأول من الألفينات لم تلقَ شهرة أو نجاحًا، وفي السنوات الأخيرة بدءًا من عام 2014 مثل بعض الأعمال التلفزيونية مثل (المرافعة) و(فرق توقيت) و(قمر هادي) هذا العام، والطامة الكبرى أن نراه العام الماضي بدورٍ ثانٍ في مسرحية (كينج كونج) بطولة أبو الليف الذي يمثل لأول مرة!، وأعتقد كما هو رأي الكثير من النقاد ومحبيه ومحبي شاهين الذي أنا منهم، أن هذا الحضور الباهت في أعمال عادية أو أقل ولا تليق بحجم موهبته، هذا الفنان العظيم الموهبة الذي قام بدور البطولة في “اسكندرية ليه” وعمره 17 عامًا وتلاه “حدوتة مصرية” والفيلمين في قائمة أهم 100 فيلم مصري.
هذه الرحلة من التشتت تجعلني أتذكر قصة فيلم قلب الليل عن رواية نجيب محفوظ، والتي تدور قصته حول شاب يتمرد على جده الشيخ ذو الشأن والمقام الكبير، والذي يرعاه ويعلمه علوم الدين في الأزهر، لكن الحفيد يتملكه حب الموسيقى والغناء برغم أن صوته ليس جميلًا، ولكنه تأثر بقصة أبوه الذي تمرد على جده أيضًا، فيتمرد مثله ويغضب عليه الجد، فيفشل في حياته الجديدة، ثم يدرس الحقوق ويقرأ كثيرًا لتأليف كتاب يعرض نظرية جديدة، يصدمه رأي المثقف والسياسي الذي يقرأها بأنها لا شيء فهي مزج عجيب ولا معنى له، فهو أراد أن يجد لنفسه دورًا يشعره بقيمته فادعى أنه فيلسوف، لا أحكم على اختيار محسن محي الدين الإنساني، ولكن كمحب لهذا المشروع الفني أتساءل عن جدوى هذا التمرد فنيًا، وهل وجد ذاته التي ترضيه بأعمال لا تقارن بتاريخه السابق النادر لكن عظيم القيمة، لمجرد أنها توجه رسائل أخلاقية أو دينية مباشرة تتفق مع منهجه.. فهل هذا دور الفن بغض النظر عن الجودة الفنية؟!
وهل الأعمال الفنية العظيمة علينا أن نقيّم نفعها بهذا المنظور الضيق؟! ولا نرى فيها القيم الإنسانية من هموم الناس وأزماتهم الوجودية والسياسية والتوق للحرية والحب وتقبل الآخر والاستمتاع بالجمال وغيرها ولكن بشكل فني مؤثر!