ما وراء اللغة في رواية هاني حجاج “تحت الجبال والمدن”
العلاقة بين ما وراء اللغة واللغة الأولى، في رواية “تحت الجبال والمدن” للدكتور هاني حجاج، الصادرة مؤخرًا عن (الشركة العربية الحديثة، القاهرة) أو بين السرد والحوار قائمة على أساس أن السرد يحيل لغة الحوار إلى قسمة ثنائية مركبة بين الشكل والمضمون فهو يستخرج من الشكل محتواه ليفيد أغراض الرواية الأبعد من تفسيرها المباشر في حبكتها ذات الغموض البوليسي والبعد الميتافيزيقي. ربما كان هذا الإحساس مزعجًا في أغلب الأعمال، فهو يجعل من عملية “الخلق” وسيلة إلى غاية وهو يؤدي إلى الإسراف والمبالغة، بل أكثر من ذلك، إنه يميل إلى إفساد متعة التصديق الساذجة، التي تنشأ منها متعة الخلق الساذجة، وهي عصب كل قراءة. فلو أن الكاتب فهم نفسه أكثر مما ينبغي، ولو أن القارىء بقى منتبهًا طوال الوقت، فماذا يكون مصير المتعة، ماذا يكون مصير “الأدب”؟
إن هذا البحث داخل النفس في الصعوبات التي يمكن أن تنشأ عن “الوعى بالذات” مع اتخاذ الكتابة مهنة، يمكن أن يفسر بعض الاتجاهات كالتي كانت أحيانًا سببًا في الانتقادات التي وجهت إليها، فقد أُخِذ على بعض المبدعين مثلًا أنهم ينشرون القصيدة الواحدة بصور متعددة، لكن الأمر هنا مختلف، إذ يتردد صدى النغمة الأساسية للرواية ويتجلى بطول الأحداث وعرضها، مؤكدًا حالة الصدام بين الماضي ممثلًا في العشيرة التي تسكن الجبال، وبين الحاضر تمثله مجموعة الأصدقاء التي تواجه العشيرة المخيفة وهم بعد أطفال ثم يتصدون لها وهم في شرخ الشباب بقيادة راوي الرواية هادي الحجار الذي يشير اسمه إلى طبعه المتأمل ووراثة المقاومة الصخرية عن الأجداد، فحتى لو نسي الجميع ما زال هو يتذكر.
تبدأ رواية “تحت الجبال والمدن” بمقاطع سردية وصفية بلغة شاعرية، إن الشاعر يعرف بمقدساته وبما يبيحه لنفسه من حريات، وهو في الحالين يختلف عن معظم الناس، ويختلف الشعر عن النثر في أنه ليس بالقيود نفسها كما أنه ليس بالحرية نفسها إن جوهر النثر هو الفناء، أى أن “يفهم” ويذوب، ويقضى عليه إلى الأبد، وتحل محله كليًا الصورة أو الحافز الذي يدل عليه رفعًا لمصطلحات اللغة، فالنثر يتناول دائمًا دنيا التجارب والأفعال، وهي الدنيا التي ينبغي لمدركاتنا وأفعالنا أو مشاعرنا فيها أن تتلاءم آخر الأمر إحداها مع الأخرى، أو تستجيب إحداها للأخرى بطريقة واحدة: هي طريقة التوافق والتطابق.
إن الدنيا العملية تتلخص في مجموعة من الغايات وعندما تتحقق غاية محددة تموت الكلمة إن هذه الدنيا لا تقبل الالتباس أو الغموض بل تستبعده استبعادًا، وهي تتطلب السير إلى الغايات من أقصر السبل، وهي تخنق على الفور العلاقات المنسجمة لكل حدث بمجرد تولدها في الذهن. وعند تطبيق هذه الرؤية على الرواية نجدها عملية ترتيب لمستويات فهمنا لطبيعة المواجهة من خلال مستويات تفكير كل واحد من الأبطال، لقد أفاض كولن مكيب في بيان هذه المسألة وضرب لها العديد من الأمثلة وعنده أن النص الواقعي الكلاسيكي يمكن تعريفه بأنه النص القائم على هيراركية مستويات الخطاب التي يتألف منها، الأمر الذي تناوله المؤلف في هذه الرواية ببراعة، إذ نجد لغتين مختلفتين تتمثلان في الحوار بين الأطفال، وبين المحيط الخارجي معهم وهم كبار، ثم التلميح إلى اللغة الأولى وقت العودة لتذكير القاريء بروح البداية. بل إن الهيراركية التي نقصدها هنا لا تشير في رواية “تحت الجبال والمدن” إلى الفارق بين حوارين فحسب، بل بين الحوار في مجموعه وبين السر نفسه الذي يتخلل الحوار وهو الكلام الذي يتخلل الحوار ويكتنف معانيه ويطلق عليه لفظ ما وراء اللغة ودائمًا يأتي في ضمير الغائب ومناقشة صلته بالحقيقة التي تكشف عنها وتبينها لغة السرد.
بل يطالعنا في الرواية فصل مهم يبدو مقتحمًا كإشارة تنبيهية بين الأب وزوجته الممسوسة وبين الحوار حوار إضافي من مطالعات الأب الدينية المسيحية تترجم ما يمكن أن نستشفه من وجهات نظر خفية ودخيلة، والخطاب الذي له وضع متميز هنا يظهر في الجزء غير الحواري الذي يصف الحقيقة النفسية التي تخامر الشخصيات في السرد الذي يسيطر عليه ضمير الغيبة دائمًا والذي هو مبدأ الرواية في مجموعها بالرغم من تحرر الكاتب من أنا الراوية الذي بدأت به الأحداث، فالحقيقة التي يشتمل عليها جوهر النص لا يدركها حتى البطل الرئيس هادي الحجار وهو الذي يبدو كأنه كلي المعرفة من البداية مما يلقي عليه بروح إنسانية عادية، ولكننا ندركها نحن القراء لأن السرد أفضى بها إلينا.
هذه الأقوال المتناثرة كالزخارف المشتتة بين هيكل محكم تعطي فكرة عن خواطر كاتب ومتأمل وهو يحضر التعليق على أحد أعماله الفلسفية فهو يرى فيه ما كان ينبغي أن يكون، وما كان يمكن أن يكون، أكثر مما يراه كما هو كائن، فماذا يمكن أن يثير اهتمامه أكثر من النتائج التي تصل إليها دراسة مدققة، والانطباعات التي يستمدها شخص آخر من هذا العمل؟ إن الوحدة الحقة للرواية ليست في داخل ما يعتمل من أفكار وخواطر في نفوس ونوايا شخصياتها، بل ما رماه المؤلف في ثنايا النص تحت الأرض في عمق الجبال ككنوز دفينة أو أشباح تسكن التقاليد والتراث تمثلها العشيرة الغامضة، وبين المدن التي ينوب عنها الأبطال بصفتهم رموز الحاضر والغد، لقد كتب المؤلف “مقطوعة” شعرية لا روائية فحسب لثمانية أبطال في حيز محدود، لكني لا أستطيع أن أسمعها إلا عندما يعزفها شخص آخر بروحه وعقله وهو الراوي في الأحداث، الصديق المخلص للمجموعة (هادي الحجار).
ولذا أجد الجهد الذي بذله المؤلف قريبًا جدًّا إلى ذهن القارئ اليقظ، لقد سعى إلى تحديد أغراضه بعناية ملحوظة ودأب شديد. لقد استخدم إزاء هذا النص المعاصر العلم الواسع نفسه والدقة المتشددة نفسها في رسم الخطوط العامة لبناء هذه القصيدة الروائية بأبطالها في مصر (مها وأحمد ومحمد وزينب وهادي والمجموعة) وأمريكا (ديفيد والقوى المخابراتية الأمريكية والبريطانية الاستعمارية)، كما أوضح تفاصيلها بإشارته إلى تلك العبارات التى لا تفتأ تتردد بذاتها، والتي تكشف عن ميول خاصة للعقل واتجاهه لتكرار عبارات لها دلالتها.. هناك كلمات تتردد داخل نفوسنا أعلى من جميع الكلمات الأخرى، وكأنها الأنغام الأساسية لأعمق أعماق طبيعتنا.