ماركس ونيتشه: مقارنة لنظرياتهما في أصل الدين والأخلاق ونقد الفلسفة الغربية
على الرغم من أنهما لم يعاصراه، كان كلًا من كارل ماركس (1818 – 1883) وفريدريش نيتشه (1844 – 1900) من أهم مفكري القرن العشرين، وكان لهم تأثير عميق في مفكريه وأحداثه؛ حيث قاموا بعمل تغيير جذري في طريقة تفكيرنا حول الفرد والمجتمع والحالة الإنسانية. ففي كتابه “إرادة القوة” يؤكد لنا نيتشه أن الاستنتاج المنطقي والسلوك الإنساني ليس سوى مظهر من مظاهر “إرادة القوة“. ومن ناحية أخرى، جادل ماركس أن النظم الاجتماعية تمتاز بشكلٍ أساسي بالصراع الطبقي بحيث تتحكم السلطة الحاكمة في وسائل الإنتاج عن طريق استغلال الطبقات الأخرى. إذًا، دعونا نلقي نظرة على وجهة نظر كلٍ من ماركس ونيتشه حول الدين وأصل الاخلاق والمسيحية والفلسفة الغربية، ونبحث في أوجه التشابه والاختلاف في تفكيرهما.
الصراع الطبقي والدين
في كتابه “العلم المرح”، يتأمَّل نيتشه التَّأثير المُتضائل للمسيحية على المجتمع الأوروبي؛ فيكتب في طريقة شعرية: “الله قد مات، يبقى الله ميتًا، ونحن قتلناه“، وعلى الرغم من أن الله لا يزال على قيد الحياة إلى اليوم -فحتى يومنا هذا لا يزال المليارات من الناس ينتمون إلى أحد أشكال الدين المنظم- فإن ما قصده نيتشه هو أنَّ العقلانية الحديثة قد أزالت الله من التَّصور الغربي المعاصر للكون، واستبدلت عبادة الدين بعبادة العلم. وبالرغم من أن تصريح نيتشه بموت الله غالبًا ما يوصف بأنه بداية الفلسفة العدمية، فقد عارض نيتشه العدمية على أساس أنها تضعف من شغف الفرد بالحياة. فيقول نيتشه: “ماذا تعني العدمية؟ – أن القيم العليا تقلل من قيمتها بنفسها”. فقد أدرك نيتشه تناقص دور الدين في المجتمع الأوربي، وأدرك الحاجة إلى نظام قيم أخلاقية غير مسيحي يمكن من خلاله أن تعيش البشرية حياة مجدية وتتقبل دراما الوجود.
استخدم نيتشه مفهوم “إرادة القوة” كمحور أساسي في استجابته لتناقص الدور الديني. يمكننا القول بصورةٍ عامة أن هذه الفكرة هي الفكرة القائلة بأن كل كائن حيّ يسعى جاهدًا لتحقيق سيادة أكبر في الحياة، ليستمر في التقدم بدلًا من الاكتفاء بالنجاة. فإرادة القوة -عند نيتشه- هي الدافع المسبب لجميع أشكال الاستنتاج المنطقي والسلوك الإنساني. وفي كتابه “ما وراء الخير والشر” يشرح نيتشه كيف يتم توجيه الفلاسفة -على غفلة منهم- بواسطة أهدافهم، قيمهم الشخصية وبيئتهم، ويكتب بسخرية أنه بدلًا من أن يقوم الفيلسوف بالبحث عن المعرفة، فإن “المصلحة الحقيقة للباحث تكون في سبيل شيء مختلفٍ تمامًا، ربما لأجل أسرته أو رغبةً في المال أو طموحاتٍ سياسية”.
يمكن أن يوفر لنا تحليل نيتشه نظرة ثاقبة حول العلاقة ما بين الدين والقوة، إضافة إلى الأسباب النفسية التي تجعل الناس يمارسون الممارسات الدينية. فيمكن أن يزودنا الدين بشعورٍ من القوة في حياة فوضوية، ويمكنه التقليل من شعورنا بالعجز في مواجهة المعاناة عن طريق إعطاء تلك المعاناة معنى ما، وكذلك يساعدنا على ممارسة القوة على الآخرين. لا يحتاج المرء إلا إلى نظرة للوضع المالي للقساوسة المسيحيين الأثرياء، أو سلطة وسيادة الأساقفة في العصور الوسطى كي يتعرف على كيفية عمل الدِّين على زيادة ثروة الفرد.
رأى ماركس كذلك أنَّ الدين هو مظهر من مظاهر القوة. ومع ذلك، فإن مفهوم ماركس للقوة يختلف تمامًا عن مفهوم نيتشه. ففي كتابه “رأس المال” يقول ماركس: “إن الدين المنظم في المجتمع الغربي هو أداة تستخدمها النخبة الرأسمالية للحفاظ على التبعية الاقتصادية”، أو كما يكتب في “نقد فلسفة الحق عند هيجل”: “الدين تنهيدة الإنسان المُضطهد، قلب عالمٍ لا قلب له، كما وأنَّه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعب”. وعلى الرغم من أن اقتصاد السوق يوفر لنا السلع والمنتجات والخدمات، إلا أنه لا يقدم أي معنى للمغزى الروحي، بمعنى أن الناس تنفر من ظروف الحياة السيئة التي أوجدتها الرأسمالية لدرجة أنهم يلجؤون للدين لكي يلبي احتياجاتهم الروحية. لكن ماركس يوضح :”إن إلغاء الدين، لكونه سعادة وهمية للشعب، هو ما يتطلبه صنع سعادتهم الفعلية له”.
يرفض ماركس الأسس الميتافيزقية للدين بطريقة مشابهة لنيشته، حيث ينظر إليه على أنه ظاهرة يصنعها المجتمع، ويؤكد قائلًا: “إن الإنسان يصنع الدين، وليس الدين هو الذي يصنع الإنسان. الدين هو بالتأكيد وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان الذي لم يجد بعد ذاته أو الذي فقدها مرة أخرى”. بالنسبة لماركس، فإن مفهومي “الله” و”الروح” لا أساس لهما في الواقع، ولكنهما مجرد تفسيرات مريحة لأولئك الذين لا يجدون معنى للحياة. وتشبه هذه الفكرةُ فكرةَ نيتشه بأن الناس يستخدمون الدين كوسيلة للزيادة من قوتهم، ومع ذلك لا يربط ماركس قوة الدين بمفهوم قوة الإرادة الكلي، فبدلًا من ذلك يرى أنَّ الحاجة النفسية للإيمان هي نتيجة الاستضعاف الذي ينتج عن ظروف حياة الرأسمالية التي تضطهد الفرد. لذلك يحلل ماركس الدين من منظور اجتماعي-اقتصادي مختلف عن فلسفة نيتشه. لم يقم أيٌّ من المفكِرَين بمعالجة الحجج الفلسفية بحثًا عن الحقيقة الدينية. بدلًا من ذلك، فهم يسعون إلى فهم دين كظاهرة اجتماعية وثقافية ونفسية.
القيم المسيحية كمظهر للقوة
يقدم كلٌ من ماركس ونيتشه في نظرياتهم حول الدين أفكارًا تتعلق بأصول الأخلاق المسيحية. وعلى الرغم من أن ماركس لم يعلق أبدًا على هذا الموضوع بشكل مباشر، إلا أننا نستطيع أن نطبق نظريته في الصراع الطبقي على تطور الاخلاق المسيحية. ومن هنا، تصبح الأخلاق المسيحية أداة تستخدمها السلطة الحاكمة لإبقاء سيطرتهم على وسائل الإنتاج. فمثلًا “أدر خدك للآخر” أو “هكذا يكون الآخرون أولين والأولون آخرين” تُفيد السلطة الحاكمة عن طريق تشجيع التبعية السلبية بين الطبقات العاملة. فإذا قاومت الطبقةُ العاملة (البروليتاريا) الاستغلالَ الرأسمالي بشكل نشِط سينتج عن ذلك ثورة اشتراكية. وهكذا يُمكِّن الخنوع المسيحي الرأسمالية من مواصلة استغلالها للطبقات العاملة.
لذلك يمكننا القول أن فكرة الفوز بالجنة على أساس الشخصية الأخلاقية للفرد تساعد السلطة الحاكمة في السيطرة على وسائل الإنتاج،؛ نظرًا لأنَّ المسيحية لا تشجع السلوك المرتبط بالثورة -كتأكيد الذات باستخدام العنف والرغبة في الانتقام. لذلك -من منظور ماركسي- تستخدم البرجوازية المؤسسة الدينية كأداة يمكن من خلالها التحكم بالطبقات العاملة وإبقائهم في حالة من عدم المقاومة.
لذلك يتشابه نيتشه مع ماركس لاعتباره المسيحية مظهرًا من مظاهر القوة.
وبالرغم من ذلك، فإن نظرته للأمر تتناقض مع وجهة نظر ماركس. فبالنسبة إلى نيتشه، المسيحية هي تعبير “العبيد عن أخلاقهم” – أي الأخلاق التي يخلقها من لا يمتلكون القوة اللازمة لاغتنام حياتهم بالكامل. ففي “جينولوجيا الأخلاق”، يجادل نيتشه بأن الإغريق القدماء وصفوا صفات الجبابرة والأقوياء بأنها “جيدة” بينما وصفوا صفات الضعفاء بأنها “سيئة”. رغم ذلك وبسبب امتعاضهم واستيائهم من طبقة الأرستقراطيين، قامت الطَّبقات الدنيا بقلب النموذج الثقافي وخلقت نظامًا أخلاقيًا يمجد سمات الضعفاء، وكان هذا النموذج الأخلاقي بمثابة بدايات للمسيحية، تمجدت فيه صفات الضعفاء -كالشفقة وعدم الأنانية- وتمَّ ذم صفات الأقوياء -كتأكيد الذات والاعتماد على النفس. وهنا نجد اختلافًا جوهريًا بين المُفكِّرَيْن، فماركس اعتقد أن الطبقات الحاكمة هي التي طورت الدين كأداة للسلطة الرأسمالية كي تمنع ثورة الطبقة العاملة؛ بينما يرى نيتشه أن المسيحية منحت الطبقات الدنيا وسيلة للإساءة إلى فضائل الأرستقراطيين وتحقيق السمو الأخلاقي.
على الرغم من أن نيتشه لم يعلق إطلاقًا على نظريات ماركس، إلا أنه بلا شك كان سيعارض رؤية ماركس لمجتمعٍ متساوٍ. ففي كتابه “غثق الأوثان” أعلن نيتشه بكل جدارة أن “نظرية المساواة! ليس هناك من سم أكثر تسممًا من هذه النظرية: فهي تبدو كما لو أنها تعليم من تعاليم العدالة نفسها، بينما هي نهاية العدالة” فتصريح كهذا من نيتشه يوضح التناقض الموجود بين نيتشه وماركس في نظرتهما للإنسانية.
نقد الفلسفة الغربية التقليدية
يصرح نيتشه في كتابة “ما بين الخير والشر” أن الفلسفة لم تكن موضوعية أبدًا في سعيها وراء الحقيقة؛ حيث يكتب: “كل شيء شخصي بالنسبة للفيلسوف. وفوق ذلك، فإن تصوراته الأخلاقية هي شهادة قاطعة على من يكون”. لذلك يستحيل بالنسبة لنيتشه أن يظل الفلاسفة محايدين، لأنهم يتأثرون -دون وعي- بقيمهم الشخصية ومعتقداتهم وتجاربهم الحياتية.
وفي “غسق الأوثان”، هاجم نيتشه بشدة حجة إيمانويل كانت في وجود حقيقة أخلاقية شاملة، على أساس أنها تدعم إحدى صور الأخلاق المسيحية. بالنسبة لنيتشه، يسعى إيمانويل إلى فرض أفكاره الشَّخصية غير الموضوعية حول ماهية الصواب على العالم وإشباع “إرادته للقوة” من خلال ستارة الفلسفة الأخلاقية الموضوعية، ووصفه بأنَّه “مسيحي متخفٍ، في نهاية الأمر”. نقدُ نيتشه لإيمانويل وغيره من الفلاسفة المُِعاصرين يسلط الضوء على نقد أوسع للفلسفة الغربية عمومًا. فيتمثل نقده كالتالي، بدلًا من أن تكون الأفكار الفلسفية ناتجةً عن بحث موضوعي فهي صورة من صور إرادة القوة لأولئك الذين ينتجونها. بهذا المعنى، يمكننا أن نقول أنَّ نيتشه هو الأب الفعلي لما بعد الحداثة؛ نظرًا لأنَّه ندد بوجود الحقيقة المطلقة وأكَّد أنَّ الفلاسفة لا يمكن أن يظلوا موضوعيين في استنتاجاتهم.
يختلف ماركس عن نيتشه في هذه النظرة لأنَّ نيتشه يتوسع في أفكار الفلسفة المعاصرة. ورغم ذلك، فإنَّ نقد ماركس لهيمنة الطبقة البرجوازية كان بمثابة أساس لنقد واسع للفلسفة الغربية. حيث زعم ماركس بأن الفلسفة قد نشأت في ظل الرأسمالية وفشلت في تحرير الطبقات الدنيا من الاضطهاد الاقتصادي. ويقول هذا في إحدى تصريحاته المشهورة:
قام الفلاسفة بتفسير العالم بأشكال مختلفة، لكنَّ المهمة الحقيقيَّة تتمثَّل بتغييره.
وكما ترون، ينتقد كلٌ من نيتشه وماركس الفلسفة الحديثة. ومع ذلك، فإن نقد ماركس ينبع من نقده لاقتصاد الرأسمالية؛ في حين يرى نيتشه أن كل الأفكار الفلسفية هي صورة من صور إرادة القوة وليست نتيجة بحث موضوعي. مرةً أخرى، يبدو أن الفرق بين نيتشه وماركس يكمن في أن ماركس يفسر تطور الفلسفة الغربية ضمن السياق الاقتصادي الاجتماعي (السوسيولوجي) للنزاع الطبقي، بينما ينظر نيتشه إليها كتعبير عن “الإرادة القوة” الفعالة التي تقود كلًا من السلوك الإنساني والاستنتاجات الفلسفية.