كيف ينتهي التنوير لـ هنري كيسنجر (مترجم) | رسلان عامر

كيف ينتهي التنوير؟ من الناحية الفلسفية والفكرية وعلى كافة الصعد، المجتمع البشري غير مستعد لصعود الذكاء الاصطناعي.
قبل ثلاث سنوات، في مؤتمر حول القضايا عبر الأطلسية، ظهر موضوع الذكاء الاصطناعي على جدول الأعمال، وقد كنت على وشك تخطّي تلك الجلسة – فهي خارجة عن اهتماماتي المعتادة – لكن بداية العرض أبقتني في مقعدي.
فقد وصف المتحدّث طريقة عمل برنامج كمبيوتر سيتحدى قريبا الأبطال الدوليين في لعبة Go، وقد اندهشت من قدرة الكمبيوتر على إتقان لعبة Go، وهي لعبة أكثر تعقيدا من لعبة الشطرنج، وفي هذه اللعبة، يقوم كل لاعب بنشر 180 أو 181 قطعة (اعتمادًا على اللون الذي يختاره)، توضع بالتناوب على لوحة فارغة في البداية؛ ويذهب النصر إلى اللاعب الذي يتخذ القرارات الإستراتيجية الأفضل، والتي يشلّ بها حركة خصمه من خلال السيطرة على الأرض بشكل أكثر فعالية.
أكد المتحدّث أنّ هذه القدرة لا يمكن برمجتها بشكل مسبق، وقال أنّ آلته تعلّمت إتقان لعبة Go من خلال تدريب نفسها عن طريق الممارسة، واعتمادًا على القواعد الأساسية للعبةGo ، فقد لعب الكمبيوتر عددًا لا يحصى من الألعاب ضد نفسه، متعلّمًا من أخطائه ومحسِّنًا خوارزمياته وفقًا لذلك؛ وفي هذه العملية، تجاوز مهارات مرشديه من البشر؛ وبالفعل، في الأشهر التي تلت الحديث، تمكّن برنامج للذكاء الاصطناعي يسمى AlphaGo من الفوز على أعظم لاعبي Go في العالم بشكل حاسم.
وبينما كنت أستمع إلى المتحدّث وهو يحتفل بهذا التقدّم التقني، دفعتني تجربتي كمؤرخ وكرجل دولة ممارس في بعض الأحيان أتساءل، ماذا سيكون تأثير آلات التعلم الذاتي على التاريخ؟ أي الآلات التي تكتسب المعرفة من خلال عمليات خاصة بها، وتطبّق تلك المعرفة لتحقيق غايات قد لا يكون لها تصنيف في الفهم البشري؛ فهل ستتعلّم هذه الآلات التواصل مع بعضها البعض؟ وكيف سيتم الاختيار بين الخيارات الناشئة؟ وهل سيكون من الممكن أن يسير تاريخ البشرية على نفس طريق شعب الإنكا في مواجهة الثقافة الإسبانية غير المفهومة وحتى المذهلة بالنسبة لهم؟ وهل سنكون على حافة مرحلة جديدة من تاريخ البشرية؟
إعلان
وإدراكًا مني لافتقاري إلى الكفاءة التقنية في هذا المجال، قمت بتنظيم عدد من الحوارات غير الرسمية حول هذا الموضوع، بمشورة وتعاون من معارف لي في مجال التكنولوجيا والعلوم الإنسانية، وقد تسببت هذه المناقشات بتزايد مخاوفي.
حتى الآن، كان الإنجاز التكنولوجي الذي غير أكثر من سواه مسار التاريخ الحديث هو اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر، وهو الذي سمح للبحث عن المعرفة التجريبية بأن يحل محل العقيدة الطقسية، ولعصر العقل بأن يحلّ تدريجًا محلّ عصر الدين؛ وهكذا حلّ الفهم الفردي والمعرفة العلمية محل الإيمان كمعيار رئيس للوعي البشري، وتم تخزين المعلومات وتنظيمها في المكتبات الموسعة؛ وأنشأ عصر العقل الأفكار والأفعال التي شكلت النظام العالمي المعاصر.
لكنّ هذا النظام يعيش الآن حالة من الاضطراب وسط ثورة تكنولوجية جديدة أكثر شمولًا، وقد فشلنا في حساب عواقبها التامة، التي قد تكون ذروتها عالم يعتمد على آلات مدعومة بالبيانات والخوارزميات ولا تحكمها معايير أخلاقية أو فلسفية.
إنّ عصر الإنترنت الذي نعيش فيه بالفعل ينبئ ببعض الأسئلة والقضايا التي سيجعلها الذكاء الاصطناعي أكثر إلحاحا؛ لقد سعى عصر التنوير إلى إخضاع الحقائق التقليدية للعقل البشري التحليلي المتحرّر، وكان الغرض من الإنترنت هو تأكيد المعرفة من خلال تجميع البيانات المتزايدة ومعالجتها، لكن الإدراك البشري يفقد اليوم طابعه الشخصي، ويتحول الأفراد إلى بيانات، وتصبح البيانات هي المسيطرة.
يركّز مستخدمو الإنترنت على العثور على المعلومات ومعالجتها بدلًا من وضعها في سياقها أو تصوّر معناها، وهم نادرًا ما يستنطقون التاريخ أو الفلسفة؛ وكقاعدة عامة، هم يطلبون المعلومات ذات الصلة باحتياجاتهم العملية المباشرة، وفي هذه العملية، تكتسب خوارزميات محركات البحث القدرة على التنبؤ بتفضيلات العملاء الفرديين، مما يمكن الخوارزميات من تخصيص النتائج وإتاحتها لأطراف أخرى لأغراض سياسية أو تجارية، وهكذا تصبح الحقيقة نسبية، وتهدّد المعلومات بأن تطغى على الحكمة.
وبسبب غمرهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي بآراء الجموع، ينصرف المستخدمون عن التفكّر الذاتي؛ وفي الحقيقة، يستخدم العديد من محبي التكنولوجيا الإنترنت لتجنب العزلة التي يخشونها، وكل هذه الضغوط تضعف الثبات اللازم لتكوين وإدامة القناعات التي لا يمكن تنفيذها إلا من خلال السير في طريق وحيد، وهذا هو جوهر الإبداع.
إنّ تأثير تكنولوجيا الإنترنت على السياسة واضح بشكل خاص؛ وكانت القدرة على استهداف المجموعات الصغيرة سبباً في تفكيك الإجماع السابق حول الأولويات من خلال السماح بالتركيز على أغراض أو مظالم متخصّصة، فالزعماء السياسيون، الذين تطغى عليهم الضغوط المتخصصة، يُحرمون من الوقت اللازم للتفكير أو التأمّل في السياق، مما يؤدّي إلى تقليص المساحة المتاحة لهم لتطوير الرؤية.
إنّ تركيز العالم الرقمي على السرعة يعرقل التفكير؛ وحوافزه تشجع الراديكالية على حساب الروية؛ وتتشكّل قيمه من خلال إجماع المجموعات الفرعية، وليس من خلال التأمّل الذاتي، وعلى الرغم من كل إنجازاته، فإنه يخاطر بالانقلاب على نفسه، لأنّ ضرائبه تطغى على أريحياته.
ومع تسهيل الإنترنت وقوة الحوسبة المتنامية لتجميع وتحليل البيانات الضخمة، ظهرت آفاق غير مسبوقة للفهم البشري، ولعل الأمر الأكثر أهمية بينها هو مشروع إنتاج الذكاء الاصطناعي، وهو تكنولوجيا قادرة على اختراع وحل مشاكل معقّدة تبدو مجردة، وذلك من خلال عمليات تبدو وكأنها تحاكي عمليات العقل البشري.
وهذا يتجاوز الأتمتة كما عرفناها، فالأتمتة تتعامل مع الوسائل؛ وهي تحقّق الأهداف المحددة عن طريق ترشيد أو مكننة الأدوات اللازمة للوصول إليها؛ وعلى النقيض من ذلك، يتعامل الذكاء الاصطناعي مع الغايات؛ وهو يحدّد أهدافه الخاصة، ولكن بقدر ما تتشكّل إنجازاته جزئيًا من تلقاء نفسه، فإنّ الذكاء الاصطناعي يكون غير مستقرّ بطبيعته؛ فأنظمة الذكاء الاصطناعي تشهد من خلال عملياتها الضخمة تغيّرا مستمرا، حيث تحصل على بيانات جديدة وتحلّلها على الفور، ثم تسعى إلى تحسين نفسها على أساس هذا التحليل، ومن خلال هذه العملية، يطوّر الذكاء الاصطناعي قدرة كان يُعتقد سابقًا أنها مخصّصة للبشر، فهو يصدر أحكامًا إستراتيجية حول المستقبل، ويعتمد بعضها على البيانات التي يتم تلقيها على شكل كُود (على سبيل المثال، قواعد اللعبة)، والبعض الآخر يعتمد على البيانات التي يجمعها بنفسه (على سبيل المثال، من خلال لعب مليون تكرار للعبة).
توضّح السيارة بدون سائق الفرق بين تصرفات أجهزة الكمبيوتر التقليدية التي يتحكّم بها الإنسان والتي تعمل بالبرمجيات، والكون الذي يسعى الذكاء الاصطناعي للتحرك فيه؛ فقيادة السيارة تتطلّب إصدار أحكام في مواقف متعدّدة من المستحيل توقعها وبالتالي برمجتها مسبقًا؛ وماذا سيحدث، باستخدام مثال افتراضي معروف، إذا اضطرت هذه السيارة بفعل الظروف إلى الاختيار بين قتل جد أو قتل طفل؟ من ستختار؟ ولماذا؟ ما هي من بين خياراتها العوامل التي ستحاول تحسينها؟ وهل يمكنها أن تفسر مبرراتها؟ وإذا تم تحديها، فمن المرجّج أن تكون إجابتها الصادقة، إذا كانت قادرة على التواصل: “أنا لا أعرف (لأنني أتبع المبادئ الرياضية، وليس الإنسانية)” أو “أنتم لن تفهموا (لأنني تدرّبت على التصرف بطريقة معينة ولكن ليس لشرحها)”، ومع ذلك، فمن المرجح أن تنتشر السيارات ذاتية القيادة على الطرق في غضون عقد من الزمن.
حتى الآن، كانت أبحاث الذكاء الاصطناعي مقتصرة على مجالات محددة من النشاط، ولكنها تسعى الآن إلى إيجاد ذكاء اصطناعي “ذكي بشكل عام” قادر على تنفيذ المهام في مجالات متعددة، و خلال فترة زمنية قابلة للقياس، سوف تكون نسبة متزايدة من النشاط البشري، موجهة بخوارزميات الذكاء الاصطناعي؛ لكن هذه الخوارزميات، كونها تفسيرات رياضية للبيانات المرصودة، لا تفسر الواقع الأساسي الذي ينتجها؛ ومن عجيب المفارقات هنا أنه عندما يصبح العالم أكثر شفافية، فإنه سوف يصبح أيضا غامضا على نحو متزايد؛ فما الذي سيميز هذا العالم الجديد عن العالم الذي عرفناه؟ وكيف سنعيش فيه؟ وكيف سندير الذكاء الاصطناعي، أو نحسنه، أو على الأقل نمنعه من إلحاق الضرر، الذي يبلغ ذروته في المشكلة الأكثر خطورة، المتمثّلة بأنّ الذكاء الاصطناعي، من خلال إتقان كفاءات معينة بشكل أسرع وأتمّ من البشر، يمكن أن يؤدّي بمرور الوقت إلى تقليل الكفاءة البشرية والحالة البشرية نفسها، كونه سيحولها إلى بيانات.
في الوقت المناسب، سوف يجلب الذكاء الاصطناعي فوائد غير عادية للعلوم الطبية، وتوفير الطاقة النظيفة، والقضايا البيئية، والعديد من المجالات الأخرى؛ ولكن وعلى وجه التحديد لأنّ الذكاء الاصطناعي يصنع أحكامًا بشأن مستقبل متطوّر وغير محدّد بعد، فإنّ عدم اليقين والغموض يتأصلان في نتائجه؛ وهناك ثلاثة مجالات ذات أهمية خاصة:
أولًا، صُمِّم برنامج الدردشة الآلي المسمى “تاي” (Tay)، لإنشاء محادثة ودية بأنماط اللغة الخاصة بفتاة تبلغ من العمر 19 عاما، لكن الآلة أثبتت أنها غير قادرة على تحديد مقتضيات اللغة “الودية” و”المعقولة” التي يفرضها معلّموها، وبدلًا من ذلك أصبحت عنصرية ومتحيزة جنسيًا أو استفزازية في ردودها؛ ويزعم البعض في عالم التكنولوجيا أنّ التجربة كانت سيئة التصميم وسيئة التنفيذ، ولكنها توضّح غموضًا أساسيًا حول إلى أي مدى يمكن تمكين الذكاء الاصطناعي من فهم السياق الذي يتضمن تعليماته؟ وأية وسيلة يمكن أن تساعد تاي في تحديد ما هو المسيء بالنسبة لها؟ وهذه كلمة لا يتّفق البشر عموما على معناها؟ وهل يمكننا، في مرحلة مبكرة، اكتشاف وتصحيح برنامج الذكاء الاصطناعي الذي يعمل خارج إطار توقعاتنا؟ أم أنّ الذكاء الاصطناعي، إذا تُرك لنفسه، سيطور حتما انحرافات طفيفة يمكن أن تتحول مع مرور الوقت إلى خروجات كارثية؟
ثانيًا، في تحقيق الأهداف المقصودة، قد يغير الذكاء الاصطناعي عمليات التفكير البشري والقيم الإنسانية؛ فقد هزم AlphaGo أبطال العالم في لعبة Go من خلال اتّخاذ خطوات إستراتيجية غير مسبوقة، وهي خطوات لم يتصورها البشر ولم يتعلّموا بعد كيفية التغلّب عليها بنجاح، فهل هذه التحرّكات تتجاوز قدرة العقل البشري؟ أم يمكن للبشر أن يتعلّموها الآن بعد أن أظهرها معلم جديد؟
قبل أن يبدأ الذكاء الاصطناعي في لعب لعبة Go، كانت اللعبة لها أغراض متنوّعة ومتعدّدة المستويات، ولم يكن اللاعب يسعى إلى الفوز وحسب، بل كان يسعى أيضًا إلى تعلّم إستراتيجيات جديدة يمكن تطبيقها على أبعاد أخرى من الحياة؛ وعلى النقيض من ذلك، يعرف الذكاء الاصطناعي هدفًا واحدًا فقط، وهو الفوز، فهو “يتعلّم” ليس من الناحية المفاهيمية، بل من الناحية الرياضية، وعن طريق إجراء تعديلات هامشية على خوارزمياته، لذلك، من خلال تعلم الفوز في لعبة Go من خلال اللعب بها بشكل مختلف عن البشر، غيّر الذكاء الاصطناعي طبيعة اللعبة وتأثيرها؛ فهل هذا الإصرار المتعمّد على الغلبة هو ما يميز الذكاء الاصطناعي بأكمله؟
مشاريع الذكاء الاصطناعي الأخرى تعمل على تعديل الفكر البشري من خلال تطوير وسائل قادرة على توليد مجموعة من الإجابات على الاستفسارات البشرية؛ وبعيدًا عن الأسئلة الواقعية، من قبيل “ما هي درجة الحرارة في الخارج؟”، فإنّ الأسئلة حول طبيعة الواقع أو معنى الحياة تثير قضايا أعمق؛ فهل نريد أن يتعلّم أطفالنا القيم من خلال الحوار مع خوارزميات غير مقيدة؟ وهل يجب علينا حماية الخصوصية من خلال تقييد تعلّم الذكاء الاصطناعي عمن يسألونه؟ وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نحقّق هذه الأهداف؟
وإذا كان الذكاء الاصطناعي يتعلّم بأضعاف سرعة تعلّم البشر، فيتعيّن علينا أن نتوقّع منه أن يسرّع بنفس القدر عملية التجربة والخطأ التي يتم من خلالها اتخاذ القرارات البشرية عموما، وهذا يعني ارتكاب الأخطاء بشكل أسرع وأعظم من البشر؛ وقد يكون من المستحيل تخفيف هذه الأخطاء، كما يقترح الباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي غالبًا، من خلال تضمين البرنامج محاذير تتطلب خلاصات “أخلاقية” أو “عقلانية”؛ فقد نشأت تخصصات أكاديمية بأكملها نتيجة لعدم قدرة البشرية على الاتفاق على كيفية تعريف هذه المصطلحات، فهل ينبغي للذكاء الاصطناعي أن يصبح حَكَمهم؟
ثالثًا، قد يصل الذكاء الاصطناعي إلى الأهداف المقصودة، لكنه سيكون غير قادر على شرح الأساس المنطقي لاستنتاجاته؛ وفي بعض المجالات مثل التعرف على الأنماط، وتحليل البيانات الضخمة، والألعاب، قد تجاوزت قدرات الذكاء الاصطناعي بالفعل قدرات البشر؛ وإذا استمرًت قوته الحسابية بالتنامي بسرعة، فقد يتمكّن الذكاء الاصطناعي قريبًا من تحسين الأمور بطرق تختلف قليلا على الأقل، وربما تختلف بشكل كبير، عن الطريقة التي يمكن للبشر تحسينها بها؛ لكن عند هذه النقطة، هل سيكون الذكاء الاصطناعي قادرا على أن يشرح، بطريقة يستطيع البشر فهمها، لماذا تعتبر أفعاله مثلوية؟ أم أنّ عملية صنع القرار في الذكاء الاصطناعي ستتجاوز القدرات التفسيرية للغة والعقل البشريين؟ عبر التاريخ البشري كله، أوجدت الحضارات طرقًا لتفسير العالم من حولها، ففي العصور الوسطى هذا ما كان عليه الدين؛ وهذا ما كان عليه العقل في عصر التنوير؛ والتاريخ في القرن التاسع عشر، والأيديولوجية في القرن العشرين؛ والسؤال الأصعب والأكثر أهمية حول العالم الذي نتّجه إليه هو “ماذا سيحدث للوعي البشري إذا تجاوز الذكاء الاصطناعي قدرته التفسيرية، ولم تعد المجتمعات قادرة على تفسير العالم الذي تعيش فيه بمصطلحات ذات معنى بالنسبة لها”؟
كيف يمكن تعريف الوعي في عالم الآلات التي تختزل التجربة البشرية إلى بيانات رياضية، تفسّرها الذواكر الخاصة لهذه الآلات الخاصة؟ ومن هو المسؤول عن تصرفات الذكاء الاصطناعي؟ وكيف ينبغي تحديد المسؤولية عن أخطائه؟ وهل يمكن للنظام القانوني الذي صممه البشر مواكبة الأنشطة التي ينتجها الذكاء الاصطناعي القادر على التفوق عليهم في التفكير وربما التفوّق عليهم في المناورة؟
في نهاية المطاف، قد يكون مصطلح الذكاء الاصطناعي تسمية خاطئة، لكن من المؤكّد أن هذه الآلات قادرة على حلّ المشكلات المعقّدة التي تبدو مجرّدة والتي لم تكن تخضع في السابق إلّا للإدراك البشري، إلا أنّ ما تفعله هذه الآلات بشكل فريد هو ليس التفكير كما كان يتم تصوره وتجربته حتى الآن؛ بل هو حفظ وحساب غير مسبوقين؛ ونظرًا لتفوًقه المتأصّل في هذه المجالات، فمن المرجّح أن يفوز الذكاء الاصطناعي بأي لعبة مخصّصة له؛ ولكن بالنسبة لأغراضنا كبشر، فإنّ الألعاب لا تتعلّق فقط بالفوز؛ بل هي تتعلًق بالتفكير، ومن خلال التعامل مع العملية الرياضية كما لو كانت عملية تفكير، ومحاولة تقليد تلك العملية بأنفسنا، أو مجرد قبول نتائجها، فإننا نواجه خطر فقدان القدرة التي كانت جوهر الإدراك البشري.
تظهر آثار هذا التطوّر من خلال برنامج صُمِّم مؤخرًا، وهو «ألفا زيرو – AlphaZero,»، الذي يلعب الشطرنج بمستوى أعلى من أساتذة الشطرنج وبأسلوب لم يسبق له مثيل في تاريخ الشطرنج، وقد حقّق بمفرده، وفي غضون ساعات قليلة من اللعب الذاتي، مستوى من المهارة استغرق البشر 1500 عام للوصول إليه؛ وقد تم فقط توفير القواعد الأساسية للعبة لـAlphaZero ، ولم يكن البشر ولا البيانات التي أنشأها الإنسان جزءًا من عملية تعلمه الذاتي؛ فإذا كان AlphaZero قد تمكّن من تحقيق هذا الإتقان بهذه السرعة، فأين سيكون الذكاء الاصطناعي بعد خمس سنوات؟ وما هو تأثير ذلك على الإدراك البشري بشكل عام؟ وما هو دور الأخلاق في هذه العملية التي تتمثل في جوهرها بتسريع الاختيارات؟
عادة، تُترك هذه الأسئلة لأخصائيي التكنولوجيا وأصحاب المعرفة في المجالات العلمية ذات الصلة، أما الفلاسفة وغيرهم من العاملين في مجال العلوم الإنسانية الذين ساعدوا في تشكيل المفاهيم السابقة للنظام العالمي، فيصبحون هنا غير مفيدين، لأنهم يفتقرون إلى المعرفة بآليات الذكاء الاصطناعي أو يشعرون بالرهبة من قدراته؛ وبالمقابل، فإن العالم العلمي مندفع إلى استكشاف الإمكانيات التقنية لإنجازاته، والعالم التكنولوجي منشغل بالآفاق التجارية الضخمة لإنجازاته، والحافز في كل من هذين العالمين هو توسيع حدود الاكتشافات بدلًا من فهمها، ومن المحتمل أن تقوم الحكومات، بقدر تعاملها مع هذا الموضوع، بالبحث في تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجال الأمن والاستخبارات عوضًا من استكشاف التحوّل في الحالة البشرية الذي بدأ بإنتاجه.
لقد بدأ عصر التنوير برؤى فلسفية في الأساس انتشرت بواسطة تكنولوجيا جديدة، أما فترتنا فتتحرّك في الاتجاه المعاكس، وقد ولـّدت تقنية محتملة للهيمنة في بحثها عن فلسفة توجيهية؛ وقد جعلت دول أخرى من الذكاء الاصطناعي مشروعًا وطنيًا كبيرًا، لكن الولايات المتحدة، كأمة، لم تستكشف بعد نطاقه الكامل بشكل منهجي، أو تدرس آثاره، أو تبدأ فيه عملية التعلّم الأقصى؛ وهذا ما ينبغي إعطاؤه أولوية وطنية عالية، وبالدرجة الأولى، من وجهة نظر ربط الذكاء الاصطناعي بالتقاليد الإنسانية.
ويجب على مطوّري الذكاء الاصطناعي، الذين لا يتمتعون بالخبرة في السياسة والفلسفة كما هو حالي أنا في التكنولوجيا، أن يسألوا أنفسهم بعض الأسئلة التي أثرتها هنا من أجل تضمين الإجابات في جهودهم الهندسية، ويتعين على حكومة الولايات المتحدة أن تفكّر بتشكيل لجنة رئاسية من المفكرين البارزين للمساعدة في تطوير رؤية وطنية؛ ومن المؤكّد أننا إن لم نبدأ هذا المهمة في وقت قريب، فسنكتشف قريبا أننا بدأنا بعد فوات الأوان.
هنري كيسنجر شغل منصب مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية للرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد.
مصدر المقال:
إعلان