كسر الدراما والتحرُّر.. لمَ لا نستطيع قبول الأفكار الجديدة؟/ لـ نجوى صبح

يمرّ كل منّا بتجارب متعدّدة في حياته، يقولون هي التي تصنعه. وكلما كانت هذه التجارب عميقة وعنيفة كلما كانت نتيجتها أقوى، بمعنى أنّ الدّرس الذي نفهمه منها يكون أكثر عمقًا. لكن ما هو أساسي لحصول ذلك الفهم وانتقال المعنى من التّجربة إلى الداخل، أن يكون هذا الداخل جاهزًا ويشغل مكانا فارغا يحتاج إلى تعبئة أو على الأقل هو على استعداد للتخلّي عن القديم وتقبّل الجديد. لكن ما الذي يمنعنا من ذلك، لمَ لا نستطيع قبول الأفكار الجديدة؟

الإنسان والمجتمع

اتفق المفكرون والعلماء على أنّ الإنسان ابن بيئته، بمعنى أنّه يتربّى على قيم مجتمعه ويتبنّى على الأرجح هذه القيم، التي تحكم سلوكه. وقد شدّد العديد من علماء الاجتماع على دور المجتمع في صناعة توجّهات الأفراد، لدرجة أنّ بعضهم أنكر وجود الفرد بصفته مصدرا للقيم واعتبروا أنّ المجتمع هو الذي يصنع الفرد. ويشكّل المجتمع بالنسبة للأفراد كيانًا معنويًا يحمل معتقدات وأفكارًا عامة، تتمظهر من خلال وجود مؤسسات وسلطات لكلّ منها، منظومة فكريّة تجسّد قيمها.

كيف يصنع المجتمع الأفراد، على الرّغم من أنّه يتشكل منهم؟ هل يصنع أفكارهم فقط، أم أنّ له علاقة بحياتهم العاطفيّة والوجدانيّة أيضًا؟ وهل يؤثر المجتمع سلبًا على حريّة الفرد، وعلى اكتشافه لذاته باعتباره كائنًا مستقلًا؟

نميل نحن البشر منذ القدم، إلى بناء سياق درامي قصصي لكلّ ما نعيشه من تجارب، مما يجعل فهمنا لهذه التّجارب والتفاعل معها، انفعالي وعاطفي. ويتماشى هذا السياق في الغالب، مع طبيعتنا العاطفيّة، ومع ما نعيش في ظلّه من منظومات اجتماعيّة فكريّة وسياسيّة سائدة، تغذّي هذه الطبيعة فينا.

في المقابل وانطلاقًا من هذه الوضعيّة العاطفيّة التي تسيطر علينا، نقوم بدورنا وبشكل لا واعٍ، بتغذية هذه المنظومات بطاقة فكريّة ونفسيّة تُقوّي وجودها وتضمن استمراريّتها. نغذّيها عقليًا من خلال إعطاءها مساحة للوجود في ذاتنا، وإعطاءها دورًا وسلطة على هذه الذّات، فنفهم تجاربنا انطلاقًا منها. ونغذّيها كذلك، من خلال تقديم المبرّرات لوجودها، ما يجعلها تعيش دائمًا، وتتجدّد في الحاضر. فلا تتلاشى أو تموت كما يُفترض.

 

إعلان

أمّا عاطفيًا ووجدانيًا فتتغذّى هذه المنظومات على مشاعرنا التي تمدّها بالطّاقة الضروريّة للحياة. لذلك تتوجّه كلّ المنظومات بشكل دائم، إلى مشاعر الجماهير وانفعالاتهم لتستثيرها، ولا تخاطب عقولهم. لأنّ التّوجه إلى العقل يفعّل قدرة هذا العقل على التفكير، ممّا يشكّل خطرًا على وجود هذه المنظومات، أو على الأقل يهدّد سلطتها، فهي إذًن بتوجّهها إلى العواطف والانفعالات تُفعّل أكثر الجانب الانفعالي، وتحصّن نفسها ضدّ النقد.

انطلاقًا من ذلك تستخدم السلطات على أنواعها، الكثير من القصص والأساطير المليئة بالبطولات والتضحيات -المبالغ فيها- التي تجعلنا نتعاطف معها ونتماهى مع أبطالها أو ضحاياها. فتلجأ السّلطات السياسيّة مثلًا إلى تقديم قصص عن بطولات وتضحيات أشخاص قدّموا حياتهم فداء لقضيّة ما، مع تضخيم أحداثها وجعلها ذات وقع وتأثير نفسي قوي على المتلقين. أمّا الهدف من ذلك فهو زرع الخوف في النفوس، أوتغذية مشاعر الانتماء والتعصّب، أو خلق الحماس والاندفاع لقضيّة ما، وبالتالي ضمان تبعيّة الأفراد والمجتمع.

كما لا يخلو أي كتاب ديني من تلك القصص (قصص الأنبياء والقدّيسين التي تعلّم الصبر والتضحية، مثلًا). كذلك على مستوى الأسرة يلجأ الأهل إلى القصص التي تزرع الخوف في نفوس الأطفال بهدف السّيطرة عليهم، أو إقناعهم بالالتزام بفكرة ما.

لكن ما الذي يدفع مجتمعًا، إلى المحافظة على تقاليد تحكمه، على الرّغم من المعاناة التي يعيشها أفراده فترات طويلة؟


كذلك على المستوى السياسي يُطرح نفس السؤال، ما الذي يجعل شعبًا ما، يعيد نفس المسؤولين إلى السلطة على الرّغم من أخطائهم وفسادهم؟

تبادل الدّعم

تستمرّ ثقافة وتقاليد أي مجتمع نتيجة استمرار هذه المنظومات المتداخلة بدعم بعضها البعض. فالنّظم التربويّة في الأسرة والمدرسة مثلًا، تدعم النّظم الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة السّائدة. وهذه الأخيرة بدورها تحافظ على السلطة الأبويّة البطريركيّة في المجتمع من خلال القوانين التي تسنّها. وتحافظ على المنظومة التربويّة من خلال الإبقاء على مناهج دراسيّة تقليديّة. وكأنّ هناك نوع من تبادل المصالح بين منظومات مختلفة تحافظ كل واحدة منها على الأخرى، وتحافظ جميعها على ثبات المجتمع على حاله وعدم تطوّره.

وما يزيد من سلطة منظومة ما وفعاليّتها في التأثير في حياة الأفراد والمجتمع، هو أوّلًا مقدار التأثير النفسّي والعاطفي الذي تمارسه هذه المنظومة من خلال القالب القصصي والدرامي الذي تتجلّى فيه من جهة، (والذي يجذب الانتباه، ويحبه الناس بشكل عام)، وثانيًّا مقدار ما تملك هذه المنظومة من قدرة على زرع الخوف من النّقد والتغيير من جهة أخرى. مما يؤدّي إلى تخدير الوعي قبل تفتّحه، ويعطي الفكر صلابة ومناعة تعيقه عن الانفتاح وقبول الآخر أو التّفاعل مع الأفكار الجديدة.


يصبح الفرد بعد ذلك -ولاحقًا المجتمع- أسير حلقة مقفلة، تتكوّن من مشاعر وعواطف كالخوف والعار والذلّ -خطيئة حواء وطردها مع آدم من الجنّة- التي زُرعت في نفوس الأفراد منذ الولادة، وتولّد أفكارًا سلبيّة، تؤدّي بدورها إلى وجود مشاعر ألم وأحاسيس بالذّنب من جديد تمدّ الأفكار السلبيّة نفسها بالطّاقة والحياة.

هكذا يبقى الفرد يدور في هذه المتاهة بين مشاعر مدمِّرة تتغذى دائمًا من منظومات اجتماعيّة انتقلت لتشكّل سلطة داخليّة لديه، بطريقة لا واعية، وأفكار سلبيّة ناتجة عنها. وكأنّنا دون أن نعي، نعيش على شبكة عنكبوت نُسجت بداخلنا ومن حولنا، ولا نستطيع التخلّص منها. والمؤسف أنّنا نعاني لكن لا نعي هذا السّجن، لأنّه داخلنا، ولأنّه يعطينا في كثير من الأوقات شعورًا بالطمأنينة نتيجة الإحساس بالانتماء لأنّنا لسنا وحدنا فيه، فالمنظومة نفسها تحكمنا جميعًا.

ولم يزِد التطور التكنولوجي وتطوّر وسائل التواصل الاجتماعي هذه المنظومات، إلّا حضورًا أقوى، وانتشارًا وتأثيرًا أوسع. فقد ألبساها شكلًا متمدّنًا ومتحضّرًا ساعد أكثر على فرض هيمنتها وتسلّطها على العقول أكثر وأكثر. وقدّم العالم الافتراضي أدوات جديدة لهذه المنظومات سهّلت عملها وجعلتها أسرع، مثل شبكات التّواصل، الصّورة الرقميّة وغيرها من الأدوات.

المواجهة

على الرّغم من ذلك، يمكن القول أن نفس هذه المشاعر المؤلمة التي نعاني منها قد تكون سببًا لتحرّرنا إذا وعيناها جيدًا. فقد يقودنا إحساس كبير بالانسحاق إذا تمسكنا به، إلى لحظة نغوص فيها إلى الأعماق لنواجه كلّ ما يخيفنا، مما يؤدي إلى حالة يقظة او صحوة. للوصول لهذه اللحظة نحتاج إلى التحلّي بمواصفات مهمّة مثل الشّجاعة والصّدق مع الذّات. فنحن نواجه مشاعر اختُزنت في داخلنا، لكن هذه المشاعر ليست مشاعر خاصة فينا فقط، بل هي مدعومة من الخارج بشكل دائم، وتستند إلى مجتمع وتاريخ مليئان بالأساطير، التي حَبكت على عواطفنا سنين طويلة أثوابًا وأقنعة، فألبستنا شخصيّات ووجوهًا بات جزءًا منّا، لذلك فالمواجهة صعبة، لأنّها بالنتيجة تحاول سلخ أجزاء منّا، وعنّا.

نتيجة هذه المواجهة، ندرك أنّنا أسرى، وأنّنا بحاجة ماسّة للتحرّر. وأنّ هذا الوعي هو الشرط الأساسي لذلك، وبه نستطيع اكتساب المقدرة على استعادة حياتنا وتطويرها.

تفكيك المنظومة من الداخل

تقدّم لنا الفلسفة والعديد من أنواع المعارف والعلوم الأخرى، أنواعًا مختلفة من المنهجيّات والتقنيّات المختلفة في التفكير والعيش، تساعدنا في فهم وتحليل ما تراكم في ذاتنا وفي التعامل معه. إحدى هذه الطرق هي تفكيك هذه المنظومات بدقّة وفعاليّة، ثمّ إعادة بناء هذه الذّات على أسس جديدة نختارها بعناية.

والتفكيك يبدأ أولًا بتقييم سلوكاتنا وحياتنا على كافّة المستويات. من خلال طرح مجموعة من الأسئلة، حول ما نملكه من أفكار، مثلًا:

ما هو مصدر هذه الأفكار؟ هل مصدرها خارجي؟ أم داخلي؟

إذا كان مصدرها داخلي، هل هي نتيجة تحليل منطقي، أم هي نتيجة حالة عاطفيّة أو انفعاليّة؟

إذا كان مصدرها خارجي، هل هو مصدر موثوق بالنّسبة لنا؟ وما الذي يجعله موثوقًا؟

وهل نحن في كل الأحوال بحاجة للتّأكد من قيمتها الحقيقيّة؟.

الإجابة على هذه الأسئلة تجعلنا نُدرك أنّنا نختزن في داخلنا انفعالات ومشاعر لا واعية تحرّكنا تبعًا لمتطلّبات المنظومات الاجتماعيّة المختلفة. وتُشكّل هذه المشاعر خطّ الدفاع الأول عن المنظومات الاجتماعيّة السائدة، المتجذّرة فينا. لذلك مواجهتها صعبة والتخلص منها ليس سهلًا، لأنّها تتنكّر وتختبئ خلف تبريرات وأفكار يقدّمها عقلنا لتأمين حمايتها، فلا نستطيع تمييزها بسهولة عن قناعاتنا الشخصيّة وأفكارنا ومشاعرنا. لكن المفاجأة تكون أنّنا حين نكتشف حقيقتها فهي تتلاشى تدريجيًّا أو تذوب، وتصبح ذكرى من الماضي نستطيع البناء على أنقاضها.

البناء

لبناء منظوماتنا الخاصة نحن بحاجة إلى تكوين أفكارنا الخاصة التي تصلح لأن تكون أُسسًا ومبادئ للحياة، ليس لأنّها تريحنا، أو لأنّها نتيجة لحالات عاطفيّة وانفعاليّة، بل لأنّنا اخترناها نتيجة وعينا لأهميّتها.

أهمّ هذه المبادئ:

أولًا: أنّنا جزء من الطبيعة ونحن نخضع لقوانينها.

ثانيًّا: المبدأ الأساسي الموجود في الطبيعة هو التوازن، فعلينا دائمًا محاولة استعادة توازننا.

ثالثًا: إن القداسة للحياة نفسها، والمحافظة على هذه الحياة وتطويرها، هو معيار الصحّ والخطأ.


رابعًا: إنّ التغيّر هو المبدأ الوحيد الثّابت في الحياة، والحياة تكون من خلال عيش اللّحظة فقط.

خامسًا: إنّ الحقيقة دائمًا أكبر من أن يستطيع شخص أو مجموعة أشخاص امتلاكها أو الإحاطة بها.

صنع الحياة

بدون هذه المحاولات للتفكّر بالحياة، وللعيش بحريّة، لا يمكن القول أنّنا نعيش حياتنا الخاصّة أو أنّنا نملك حياة. بل تكون حياتنا مجرّد أوقاتًا نمضيها بانتظار ساعة الرّحيل، دون أن نستمتع بما وُهب لنا، وكأنّنا وافقنا على أن يكون من يقرّرون شكل حياتنا ونوعها مسبقًا.

بعد المواجهة مع الذّات ومحاولة الكشف عن حقيقتها، نكتشف أنّ هذه الذّات قد اختبأت طويلًا خلف كيانات وهميّة فكريّة ونفسيّة، بفعل الخوف كنّا قد صنعنا منها أوثانًا قدسناها.

وبمجرّد نزع أثواب القداسة عنها نجد أنّها ضلال ليس أكثر، توهّمنا بفعل الخوف أنّ لها وجود حقيقي، وظننّا أنّها قدر نحن محكومون به. لكن الحقيقة أنّ الحياة تُصنع وتعاش. صحيح أنّ هناك تجاربا وأحداثا وظروفًا خارجيّة تُفرض علينا، لكنّ الصحيح أيضًا أنّنا أحرار في كيفيّة عيشنا هذه التجارب وفي ردّات فعلنا تجاه هذه الظّروف. وإذا كنا نرى أنّنا لا نجد حلولًا في أوقات كثيرة لمشاكلنا، فذلك لا يعني أنه ليس هناك حلولًا، بل يعني أنّنا لا نعرف كيف نبحث عنها جيدًا.

لكلّ ذلك يمكن القول، إنّ استعادة القدرة على تحديد مستوى وعينا لذاتنا، والتدرّب على رفع مستوى هذا الوعي، يشكّل بالنسبة لنا التحدّي الأساسي في الحياة، ليكون لنا حياة، وتكون حقًا حياة جديرة بأن تُعاش.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: نجوى صبح

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا