لعنة القلق وعصاب اللا-يقين
واحدة من عبارات جدتي المفضلة: “الشيء الوحيد المؤكد في هذه الحياة هو أن لا شيء فيها مؤكد” فهل علينا قبول عدم اليقين كشيء علينا أن نتكيف معه في هذه الحياة؟ الكثير منا لا يقبل ذلك. لو أنّك شخصٌ شديد التوتر دائمًا، فإنك لن تسمح لشيء مدمر مثل عدم اليقين بالوقوف في طريقك. لذلك ستُضيع الكثير من وقتك في قلق لا فائدة منه محاولًا الوصول إلى حالة من اليقين لا يمكن الوصول إليها، ما يزيد قلقك.
بعضنا يقلق بشكل مرضي فيتطور هذا القلق لديه إلى عداء ونفور من كل حالة عدم يقين. لكن عدم اليقين سيظل وراء كل قلق يساوره في حياته. هذه الحالة يطلق عليها علماء النفس (عصاب اللايقين) وهذه الحالة ترتبط بحالة القلق المرضي الشديد. وتعتبر أيضا من أوائل أعراض اضطراب القلق العام، ومن سماته الأساسية أنه قلق مؤلم لا يمكن السيطرة عليه. كما قال «دان جروب» من جامعة «ويسكونسن-ماديسون»: إنه يشبه ردة فعلك حين تكون مصابا بالحساسية؛ حيث يشبه ذلك بأن تعاني حساسية من المكسرات وتتناول قطعة من تورتة عيد ميلاد بها قطع من اللوز. سيكون رد فعلك الجسدي عنيف تجاه ذلك. فكمية بسيطة من مادة غير مضرة لمعظم الناس يمكن أن تجعل جسدك يتصرف على هذا النحو. كذلك عصاب اللا-يقين هو حساسية ولكن من النوع النفسي. عندما يتعرض شخص مصاب به إلى قدر بسيط من عدم اليقين يظهر منه رد فعل عنيف بشكل غير متوقع. لا يجعله ذلك يشعر بالقلق وحسب بل يخلق لديه حالة التوتر والهياج العصبي أيضا.
لو كان الوصول إلى حالة اليقين التام بنسبة 100% مستحيلا، إذن كيف للقلقين الذين يعانون من عصاب اللا-يقين أن يشعروا حيال ذلك؟ حسنًا، يمكن أن يجعلهم هذا محاصرين داخل دائرة لا نهائية من قلق يستحيل أن ينتهي. أن تكون غير متسامح مع فكرة عدم اليقين سيجعلك تتساءل هذا السؤال التقليدي: ماذا لو؟ التساؤل لمحاولة تقليل الفجوة داخل الدائرة. سيولد ذلك المزيد من القلق الافتراضي والذي غالبًا ما يكون قلقًا حول أشياء من المستحيل أن تحدث. وهذا ما يشعر به القلقون من عدم التحكم: أنهم لا يستطيعون إيقاف هذا.
كيف يمكن لهؤلاء أن يخرجوا من هذه الدائرة المفرغة؟ إنهم لا يستطيعون ببساطة التوقف عن القلق – ليس هناك زر يمكن ببساطة إطفاؤه. هناك عدد من الطرق المختلفة يمكن توظيفها لتشتيتهم عن قلقهم أوتقليل مسؤوليتهم نحوه، لكن هذه الطرق لا توقف القلق بل تقلل فقط من مستويات التوتر العصبي المؤلمة التي يسببها عدم اليقين. بعض الناس مثلا تحرص على أن تظل مشغولة طوال الوقت قدر الإمكان لتحمي أنفسها من عدم اليقين ولتحدَّ من إمكانية تعرضها له. البعض الآخر يُبعدون أنفسهم عن القلق أو ببساطة يتهربون منه. فلو قررت مثلًا ألا تفعل شيئًا ما فلن تضطر أن تشعر بعدم اليقين وأنت تتخذ قرارا بعدم فعله، لأنك بطريقة التهرب ستجعل شخصا آخر يتخذ القرار بدلًا منك فتقع عنك مسؤوليته. إنها حالة من الإفراط في البحث عن يقين أن تسأل شخصا آخر عن رأيه في قرار لا تستطيع اتخاذه لأنك لا تستطيع الهروب من حالة عدم اليقين التي يحتمله هذا القرار. كأن تسأل صديقك هل يجب أن آخذ مظلتي معي اليوم؟ فيجيب ب”لا”،لكنك لا تستطيع أن تتوقف عن سؤاله, هل أنت متأكد؟ إنك تعيد التأكيد على أن مسؤوليته يمكن الإتكاء عليها.
يستطيع المصاب بعصاب القلق أن يستفيد من هذه الطريقة لأنها تقلل من توتره وتضع عنه مسؤولية القرار. لكن ماذا لو أمطرت؟ سيظهر القلق القابع من وراء حجابه ويوجه اللوم على صديقه لأنه اتخذ القرار الخاطئ وهذا لا يجعل صديقه سعيدا على أية حال.
من الواضح أن عصاب اللايقين له دور كبير في جعل القلق غير متحكم فيه أو غير قابل للإيقاف. إن محاولة إبعاد عدم اليقين عن طريقك مهمة مستحيلة. وستحتاج إلى تعلم كيف تتعايش معه مع الوقت.
هنا يظهر السؤال: كيف يصاب بعض الناس بعصاب اللا يقين؟ إننا لا نعلم كيف على وجه الدقة، لكن هناك فئة ممن تظهر عليهم أعراض هذا العصاب مصابةٌ كذلك باضطراب التوحد، وهناك دليل يوضح أن المستويات العالية من التوتر والقلق في الأشخاص المصابين بالتوحد تكون أحيانا ناتجة عن عصاب اللايقين في مراحله المتقدمة. يمكن لهذا العصاب أن يكون سبب بعض الأعراض الأساسية للتوحد مثل الإصرار على التكرار وعدم القدرة على التعامل بمرونة والتكيف مع التغيرات. إن شعور المصابين بهذه الحالة من التوحد يجعل العالم مليئًا بالشك وغير متوقع، وبشكل عكسي يمكن لعدم اليقين أن يغذي لديهم الشعور بالتوتر والقلق المزمن.
بالرغم من أن الأشخاص الذين تم تشخيصهم بالتوحد غالبا ما يظهر عليهم أعراض مرحلة متقدمة من عصاب اللايقين, فإنهم بالتأكيد ليسوا الوحيدين الذين يؤلمهم عدم اليقين. مؤخرا تم تشخيص عصاب اللايقين ليس فقط كأحد العوامل الخطيرة في القلق المرضي لكن في العديد من المشاكل النفسية أيضا مثل الاكتئاب والتوتر العصبي والوسواس القهري واضطراب القلق العام واضطرابات الأكل. ويمكن لعصاب اللايقين أن يظل كامنًا ويتحول ويتحور داخل العديد من المشاكل النفسية العادية الأخرى.