في انتظار جودو … الانتظار في مواجهة عبثية الحياة
المواجهة، الهروب، رفض الواقع، الإنكار، الانشغال بأفعال غير ذات معنى لتشتيت الانتباه، أو ربما الانتحار! كثيرة هي الطرق التي يسعى بها المرء لقضاء حياته. لكنه كي يحدد الطريقة التي سيحيا بها، عليه أولًا أن يتوصل لمعنى الحياة الخفي. فإذا ما توصل إلى أن الحياة ذات معنى عميق ومغزى، فعليه أن يشحذ عزيمته للوصول لهذا المعنى وتحقيق المراد منه. لكن ماذا لو كانت فكرته عن الحياة هي أنها دون معنى من الأساس وعبثية؟ ماذا ستكون طريقته في مواجهتها أو قضاء الوقت حتى النهاية المحتومة؟
مسرح العبث
تولّدت فكرة مسرح العبث واللامعقول بعد الحرب العالمية الثانية، إثر التحولات الجذرية التي حدثت في تلك الحقبة وجعلت النظام السائد في أوروبا عرضة للانهيار. ظهرت هذه الفكرة كي تعبِّر عن لا معقولية الوضع الإنساني، وعن مأزق الفرد وعزلته، وانزلاقه في بئر عميق من البؤس والضعف والعجز والشقاء.
ولأن المسرح هو من أكثر أنماط الفن تعبيرًا عن حال الإنسان، قدّم رواد مسرح العبث، منهم صمويل بيكيت وارتوادموف وجان جينيه وغيرهم، تلك الفكرة من خلال نمط جديد من الدراما المتمردة على الواقع، فجددوا في شكل المسرحية ومضمونها، وتخلّوا عن الشكل الدرامي السابق، وسعوا إلى رسم الشخصيات مجرَّدةً من الأبعاد المعروفة، وكانت غالبًا ما تتسم بالروح التشاؤمية وبالقلق الروحي والانعزال، وحققوا ذلك من خلال تصور شخص لا شخصية له يواجه موقفًا عارضًا، ويعيش في أي زمن، ففكرة تحديد زمن يقتضي بتسليم وجود تاريخ ومستقبل مما يتطلب إعمال العقل للتنبؤ مما يتنافى مع فكرة اللامعقول. كذلك فمعظم تلك الشخصيات العبثية تدور في دائرة مفرغة ولا تتطور إلا عن طريق تكثيف الموقف الدرامي.
في انتظار جودو
تدور أحداث المسرحية حول رجلين مشردين (فلاديمير واستراجون) يقفان على قارعة الطريق في أرض قاحلة، بالقرب من شجرة جرداء، منهمكَيْن في مهمة مكررة وغير ذات معنى وهي انتظار (جودو)، الذي لا يأتي أبدًا، على أمل أن يخلصهما من الحالة البائسة التي هما عليها.
هذان الرجلان قد قيل لهما أن ينتظرا جودو عند تلك الشجرة، لكننا لا نعلم من قال لهما ذلك أو متى. أما بالنسبة إلى جودو، فلا نعرف أيضًا ما هو أو مَن هو، غير أن البطلين ينتظران لقاءه بشدة منذ مدة غير محددة. وفي كل مرة يحاولان فهم المعنى والغرض من انتظارهم ينتابهم قلق شديد فيحاولان تشتيت انتباههم مرة أخرى. فهم إذا أسلموا أنفسهم للصمت قد يجعلهم ذلك يعودون للتفكير في معنى الحياة وماهيتها. لذلك في كل مرة يواجهان لحظة صمت، أو لحظة توقف، يصابان بالذعر في الحال، ويسقطان في اليأس، ويحتضنان بعضهما بسرعة، ويتحدثان أكثر.
ويتضح لنا من ذلك أن انتظارهم ما هو إلا عبث حقيقي خالص، خاصة وأن الشيء المنتظر لا وجود له أصلًا أو لا معنى له، بل لا هيئة له. فلُغزية هذا القادم (جودو) الذي لا يجيء أبدًا وابهامه المطلق نسف تقاليد الدراما المتعارف عليها وتقاليد الحوار وتطور الحبكة المسرحية. لا يتخلل المسرحية العديد من الأحداث، فكل ما يفعله الرجلان هو الثرثرة دون توقف والقيام بأفعال عبثية، ولكنهم لا يستطيعون أو لا يريدون الرحيل؛ فلديهم مهمة عليهم إتمامها وهي انتظار جودو.
أثار النقاد عددًا من الاحتمالات عن من قد يكون جودو وماذا يرمز له؛ هل هو إنسان حقيقي أم وهمي؟ هل هو مجرد رمز للأمل؟ هل هو الموت؟ تعددت تلك التأويلات بين فلسفية ودينية واجتماعية، لكن اجتمعت كلها على تقديم نقد لاذع وتهكم للواقع المُعاش ومعنى الحياة بشكل عام.
قتل الوقت أم قتل حياة؟
قد يظهر للبعض أن أبطال مسرحية في انتظار جودو يعملون على قتل الوقت بشكل أو بآخر بانغماسهم في ثرثرة لا تنتهى دون معنى، والتي تشي بأفكارهم المتولّدة من فكرة عبثية الحياة، مثل الرغبة في الانتحار مع عدم تحقيق ذلك، أو الانكار، أو تجاهل ذلك وتشتيت انتباههم لشيء آخر كالحديث عن الطعام أو قيامهم بالغناء. كل ذلك يصب في بوتقة عدم مواجهة الحياة ومحاولة طعنها خلسة بشكل أو بآخر.
من المقاطع التي تُظهر بشدة اعتقادهم في عبثية الحياة ومحاولة أن يكونوا سعداء لتمضية الوقت، حتى ولو بطريقة ساذجة، لكنها هي واقعهم المعاش الذي عملوا على اختلاقه والعيش فيه والرضا به.
فلاديمير: لا بد أن تكون سعيدًا أيضًا، في أعماقك، فقط إذا عرفت ذلك.
استراجون: سعيدًا تجاه ماذا؟
فلاديمير: لأنك عدت إليَّ مجددًا.
استراجون: هل هذا ما تقوله؟
فلاديمير: قل إنك كذلك، حتى لو لم يكن صحيحًا.
استراجون: ماذا أقول؟
فلاديمير: قل، أنا سعيد.
استراجون: أنا سعيد.
فلاديمير: وأنا كذلك.
استراجون: وأنا كذلك.
فلاديمير: نحن سعيدان.
استراجون: نحن سعيدان. (صمت) ما الذي نفعله الآن، الآن ونحن سعيدان؟
فلاديمير: ننتظر جودو.
استلهام فكرة المسرحية
تعددت الآراء حول مصدر استلهام بيكيت لفكرة المسرحية. يشير بعض النقاد إلى أنه استلهمها من “أسطورة سيزيف” التي كتب عنها ألبير كامو في مقاله المنشور عام 1942، والذي يوضح فيه أن سيزيف يجسد هراء وسخف ولا منطقية ولا عقلانية الحياة الإنسانية، ولكنه يختم بقوله أن المرء لابد أن يتخيل أن سيزيف سعيد مسرور على الرغم من قيامه بنفس العمل الشاق كل يوم دون الوصول لأي نتيجة أو فهم المعنى من قيامه بهذا العمل الذي لا طائل منه ولا أمل فيه من الأساس.
بينما يشير آخرون أن بيكيت استلهم مسرحيته من لوحة كاسبر دافيد فريدريش “رجل وامرأة يرقبان القمر” التي رُسمت في الفترة ما بين 1830 – 1835، ويقف فيها رجل وامرأة يرتديان زيين ألمانيين شعبيين تقليديين على ربوة عالية إلى جانب شجرة عجوز ومنزوعة الجذور ومائلة نحو صخرة، كلاهما ثابت وشاخص البصر نحو السماء والقمر. يظهر وجه الشبه بين اللوحة والمسرحية في الشخصيات التي تبدو وحيدة وتشعر بالعزلة في مكان مقفر. يكتب الناقد روبرت هيوز “إذا كان هناك كلمة واحدة تصف حالة لوحة فريدريش فهي (الحنين). هناك رغبة غير مشبعة في الهرب من الظروف الزمنية للحياة إلى الوحدة مع الطبيعة البعيدة والاستغراق بداخلها والحلول في اﻵخر العظيم، سواء كان ذلك اﻵخر جرفًا جبليًّا أو شجرة قديمة راسخة، أو هدوءَ بحرٍ ممتد في اﻵفاق أو سكون السحاب”.
نهاية مفتوحة
لا تدور مسرحية “في انتظار جودو” حول معرفة اﻹجابات، هذا ما أراده بيكيت، فهي عمل يدور في الأساس عن المحتجب مما يرخي لكل قارئٍ العنانَ في تخيّل النهاية والمعنى المقصود من هذه الرمزية. لكن مما لا شك فيه أنه عند العودة لقراءة أو مشاهدة المسرحية فنحن نخرج منها أكثر وعيًا بحالنا لأنها توقظنا بشكل أو بآخر من سبات قد نظنه هو الواقع أو الطريقة المثلى للتعامل مع الواقع. فنحن قد نقرأ “في انتظار جودو” عمدًا كي لا ننتظره!
عن صمويل بيكيت
يعد بيكيت (1989-1906) أحد أعظم الأدباء والمسرحيين في القرن العشرين، فهو أديب أيرلندي، وروائي ومسرحي وشاعر وكاتب قصة قصيرة بالإضافة إلى كتابة المقال، وقد عمل مراسلًا ومترجمًا، حيث كان يترجم من اللغة الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية والعكس.
في أثناء الحرب العالمية الثانية انخرط بيكيت في المقاومة ضد الألمان، وعمل مراسلًا ومترجمًا، حيث أثرت هذه الوظيفة في أدبه، فأخذ أسلوبه يميل للبساطة والإيجاز، واستخدام اللغة المكثفة بما تقتضيه طبيعة المراسل، كما أن تلك الأحداث أعطته ثقافة واسعة.
كتب بيكيت (في انتظار جودو) باللغة الفرنسية في الفترة بين أكتوبر 1948 و يناير 1949، وترجمها للإنجليزية بعد ذلك بعامين، وحصل على جائزة نوبل للآداب في عام 1969.