القديسة مود: أن تحيا مدفوعًا بالذنب | كريم إيهاب

في الفقرة الثانية من أحد أشهر كتبه، جينالوجيا الأخلاق، يتحدّث الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) عن منشأ الإحساس بالذنب، وبشكلٍ مُختصر، يُرجِع نيتشه أصل الإحساس بالذنب، إلى الشعور بالمسؤولية، وهو الشعور الذي يميّزنا -بحسب نيتشه- عن بقية الكائنات الحية، فالضمير الإنساني ينشأ عن طريق القدرة على إعطاء الوعود والقيام بالتصرّفات اللّازمة لنقل تلك الوعود من ظلِّها المثالي المتخيّل في عقل الإنسان إلى أرض الواقع، للوصول في نهاية الأمر إلى الوفاء بتلك الوعود، في علاقة يشبِّهها نيتشه بالعلاقة بين الدائن والمدين، فالمدين مُلزمٌ أمامَ الدائن بسداد ديونه، وفي حالة فشله في سدادها، يحقُّ للدائن أن يتَّخذ الإجراء المناسب في نظره ضد المدين.
وهنا تكمن الأزمة، فعندما يفشلُ الفرد في الوفاء بوعوده، يصبحُ أمام نفسه ومن حوله فردًا مُستحِقًّا -بلا شك- للعذاب والإيذاء، وهنا يهيمن على الفرد المدين الإحساس بالذنب الناتج عن فشله في تنفيذ وعوده، وينمو لديه ما أسماه نيتشه “بالضمير المعذب”، وهو ما يتماس مع الموضوع الرئيسيّ المسيطر على فيلم Saint Maud موضوع المقال ألا وهو ما يُعرف بمبدأ (الذنب الكاثوليكي).

أحداث فيلم Saint Maud

تبدأ أحداث فيلم Saint Maud، والذي صدر في عام 2019، بالممرضة (مود) وهي تقبعُ في زاوية غرفة إحدى المستشفيات ووجها ملطَّخٌ بدماء مريضةٍ فشلت مود في إنقاذ حياتها، إلا أن ذلك الحادث لم يكن وليدًا للصدفة، وإنما كان نتيجة إهمالٍ وخطأٍ طبيٍّ من مود، لتقرّر على إثر ذلك، وكاهلها مثقل بالذنب، الابتعاد تمامًا عن العمل في المستشفيات، والاتجاه إلى رعاية المرضى في المنازل، ليجمعها قدرها بـ(أماندا)، وهي راقصةٌ وفنانةٌ معاصرةٌ معروفةٌ تعيش آخر أيامها بعد تدهور حالتها الصحية نتيجة إصابتها بمرض السرطان، وتلك المرحلة في الفيلم هي بمثابة نقطة التحول، حيث يجتمع الأضداد وهما مود بشخصيتها التي تحوّلت إلى الإيمان الراديكالي العميق نتيجة تملك الذنب منها، وأماندا التي تعيش حياة بعيدة عن الرب من وجهة نظر الأولى.

ويعرض فيلم Saint Maud بعد ذلك المحاولات الحثيثة لِمود لتغيير نمط حياة أماندا، فتستشعر مود المسؤولية تجاه الأخرى، وتسعى جاهدة إلى إنقاذ إيمانها قبل ملاقاة خالقها، لعل ذلك يخفف من وطأة إحساس الذنب الذي لا ينفك يطاردها.

تحرِّك عقدة الذنب مود طوال أحداث الفيلم، وكأنَّ نيتشة يشخِّص حالتها بشكلٍ كاملٍ، فنتيجة شعورها بأنها لم تستطع أن تتحمّل مسؤولية وظيفتها كممرضة يقع على عاتقها إنقاذ حيوات البشر وليس سلبها منهم، وشعورها بأنها لم ولن تستطيع ردّ الدين إلى الإله للتكفير عن ذنبها.

إعلان

تتحوّل إلى الإيمان ولكن بهيئته السامة والمدمرة، تصفها (روز جلاس)، مخرجة الفيلم، بأنها كمزيج تخيلي بين (ترافيس بيكل)، الشخصية الرئيسية لفيلم (Taxi Driver)، وبين شابة كاثوليكية تعيش في إحدى المدن الإنجليزية، فكلاهما مُعذّبٌ بأفكاره، وكلاهما، نتيجة صدماتٍ وأزماتٍ نفسية، أصبح ناقمًا على واقعه ويسعى للعيش في نسخةٍ مثاليةٍ مُتخيّلةٍ من الواقع. فالأمر مع سير أحداث الفيلم لم يعد بالنسبة لِمود مجرَّدَ محاولةٍ لهداية شخصٍ ما وتقريبه إلى الإله، بل تحوّل إلى سعيٍ هيستيريّ للوصول لمرتبة القديسين الذين يظهرون في أوقات الفتن والامتحانات الإيمانية لقيادة البشر نحو الحياة الأبدية في النعيم، لينتج عن هذا السعي هلاوس سمعيّة وبصريّة تدَّعي مود أنها تستطيع من خلالها أن تسمع صوت الرب، وأعراض نفسجسمانية تشبه في جانب كبير منها حالة النشوة الجنسية، تظهرُ عندما تشعر مود بالرضا الإلهي عنها نتيجة أي فعل أخلاقي تقوم به، ولا تتوانى عن معاقبة نفسها جسديًا في الأوقات التي تتبع قيامها بأي فعل منافٍ لتعاليم دينها كشكل من أشكال التطهير الذاتي للنفس.

القديسة مود وموجة الرعب الجديدة

يكتسب فيلم Saint Maud تميَّزه على مستوى السرد من كونه لم يُظهِر أي علامات تشير من قريب أو بعيد بالفئة التي ينتمي إليها الفيلم، فعلى الرغم من تصنيفه كفيلم رعب، وعلى الرغم من زمنه القصير نسبيًا، إلا أنه يُحسَب لِروز جلاس، في تجربتها الأولى على مستوى إخراج الأفلام الروائيّة الطويلة، أنها لم تسقط في فخ استعراض العضلات الإخراجية والرغبة في إثبات الذات التي تسيطر على أيِّ صانع أفلام في تجربته الأولى، وبالتحديد في تجربة أولى تنتمي لنوع فيلمي مزدهر وشديد التنافسية في الوقت الحالي؛ ألا وهو سينما الرعب، والذي يشهد صعود لأسماء استطاعت أن تثبت نفسها سريعًا مثل (آري أستر) و(روبرت إيجرز) و(جوردان بيل).

تأثّرت جلاس بالطبع بأعمال كلٍّ منهم، وبالتحديد في الثلث الأخير من الفيلم، إلّا أنها ركّزت على بناء الفيلم بشكلٍ تصاعديّ دون المغالاة في الاستعانة بأي مشاهد تجعل المشاهد يشعر بالرعب، فبمجرد الاعتماد على عناصر سينمائية كالموسيقى التصويريّة المتميّزة والألوان والأداء الملفت لبطلة الفيلم (مورفيد كلارك) واللَّقطات المقرّبة لوجهها استطاعت جلاس أن تخلق جوًا عامًا للفيلم يبعث على القلق وينبّئ بنهاية مأساوية لبطلته الرئيسية.

وتحقَّق البناء التصاعدي لحبكة فيلم Saint Maud من خلال التدرُّج في نقل مود من حالة لأخرى لنصل في نهاية الأمر إلى انغماسها بشكلٍ واضٍح في هلاوسها وجنونها واعتقادها أنها قديسة بالفعل، كما أن هناك جانبًا آخر من الفيلم أضفى عليه تميّزاً في تناول قضية التشدُّد؛ ألا وهو الإشارة في كثير من مواضع الفيلم إلى ماضي مود الذي اتّضح أنه لم يخلو من العلاقات الجنسيّة والإدمان، وهي نقطة انطلاق ينطلق منها العديدون في رحلتهم مما يوصف دينيًا واجتماعيًا بالانحراف الأخلاقي إلى الإيمان الزائف أملًا في الغفران، ليتبيّن بذلك للمشاهد أن عقدة الذنب التي تعاني منها مود ليست ناجمة عن واقعة إهمالها الطبي بشكلٍ حصريٍّ، وإنما تمتد لتشمل نمط حياتها في السابق بشكل عام.

بالعودة لتأويل نيتشه لمنشأ الإحساس بالذنب، كان الحل عند الفيلسوف الألماني هو كسرُ علاقة الدائن والمدين، والتوقّف عن الشعور بالذنب وذلك من خلال استبعاد كل ما يساهم في تعميق عقدة الذنب واحتقار الذات عند البشر وتأصيل ما أسماه بأخلاق العبيد بداخلهم، وهو ما طبقت مود عكسه تمامًا، فلم تستطع تقبّل ماضيها ونقائصها والمضي قدمًا في حياتها، واحتضنت احتقارها لذاتها وهلاوسها، لتستمع لصوت الرب لمرة أخيرة -أو بالأحرى صوت دواخلها-، والذي يعطيها تصريحًا لفعل أيًّا كان ما تظنه صحيحًا في سبيل الوصول للملكوت الأعظم، وهو ما تشرع في تنفيذه بالفعل، فهي لم تعد تقوى على الفشل مرةً أخرى في تنفيذ وعودها أمام المدين كما فشلت في السابق، لتقرّر الذهاب مرة أخرى لـ(أماندا) بعد أن قامت هذه الأخيرة بطردها في السابق نظرًا لتجاوزها لحدودها وتدخّلها السافر في حياتها، لتعرض عليها مود لمرة أخيرة أن تستسلم لمحاولاتها في إنقاذ روحها التي ضلّت، وهو ما تقابله أماندا بالغضب والسخرية من إيمانها، إلا أن انقلاب الفيلم تحقق في اللحظة التي قامت فيها أماندا بتعرية إيمان مود المزيف، وذلك حين وصفتها بأنها صاحبة إيمان هشٍّ وغير حقيقي ناتجٌ عن وحدتها وضعفها، وفي تلك اللحظة ستستحيل أماندا من مجرّد روح تائهة في نظر مود إلى قوة شيطانية تحارب كلمة الله في الأرض، وهو ما سيجعل مود تنفذ التصريح الإلهي بقتلها، لتنطلق بعد ذلك في ذروة الفيلم، في الشوارع بحركة كاميرا توحي أنها تتحرّك بخفة ملائكية، وكأن قدميها لا تلامسان الأرض، بعد أن استطاعت رد الدَين والتكفير عن أخطائها.

إِنْ كَانَ قُرْبَانُهُ مُحْرَقَةً مِنَ الْبَقَرِ، فَذَكَرًا صَحِيحًا يُقَرِّبْهُ. إِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ يُقَدِّمُهُ لِلرِّضَا عَنْهُ أَمَامَ الرَّبِّ.

سفر اللاويين (1:3)

وحتى قرب نهاية الفيلم، نستمر في رؤية أحداثه من المنظور الكاذب للبطلة، فنرى من خلال كاميرا روز جلاس ظهور الأجنحة الملائكية التي تعبّٓر عن تحوّل مود لكائن فوق إنساني، فلم تعد الممرضة المذنبة ولكنها أصبحت القديسة (مود)، في ارتقاء أشبه بارتقاء (مريم المجدلية) من حياة الخطيئة الى مرتبة الصالحين.ولأنَّ التكفير في الأغلب يتطلب تقديم تضحيةٍ أو قربان، وحسب تفاسير العهد القديم، يجب أن يكون القربان من أرقى الأنواع، صحيحًا وبلا علل، حتى تُقبل توبة مقدّمة، وهي الخطوة الأخيرة في طريق صعود (مود) إلى الملكوت الأعظم، بحسب الوعد الذي قُدِّم لها من قبل الرب أثناء توهمها لحديثه معها. وبما أنَّ روايتها للحكاية تأتي في صالحها بشكلٍ تام، فهي في نظر نفسها أرقى قربان يمكن أن يقدَّم للإله، فتقوم بحرق نفسها، لتتجلى بشكل نوراني أثناء احتراقها، ويستمر المنظور الكاذب لِمود في تصوير خرور الناس ساجدين أمام روعة ومهابة تجليها كقديسة، لينتهي سرد مود للحكاية، ويعود الفيلم بالمشاهد إلى الواقع الذي يقضي بأنه لم يعد هناك قديسين على هذه الأرض.

وتُظهر آخر لقطة، والتي لم تستمر لأكثر من ثانيتين، أن جسد مود تلتهمه النيران بلا رحمة، وأنَّ ألمها ظل مصاحبًا لها حتى آخر لحظات حياتها، ومن النقاط التي تُحسب للفيلم أنه لم يطلق حكمًا أخلاقيًّا أو قيميًّا على شخصية البطلة، وكأنه لا يسعى الى تكرار أخطائها أو إعادة إنتاج نرجسيتها الناجمة عن شعور بالتفوّق الإيماني على غيرها من البشر.

وعلى الرغم من بعض الجوانب السلبية للفيلم، كمباشرته الواضحة في بعض الأحيان، إلا أنه كان تجربة فنية راقية بحق، يمكن اعتبارها حجر أساسٍ وجزءًا مهمًّا من موجة رعب جديدة تتشكّل وتتطور سريعًا مفادها أن الخطر والشر لم يعد يكمن في الشياطين أو الأشباح أو الموتى الأحياء، وإنما أصبح يكمن في الأحياء نفسهم، فدائرتك الأكثر حميمية -كجيرانك أو أصدقائك أو حتى عائلتك- قد تصبح كابوسًا لا تتمنى بأيِّ حالٍ من الأحوال أن تكون جزءًا منه.


المراجع

متلازمة المسيح في إطار رعب لاهوتي
https://cutt.ly/MVtuXUQ
Catholic guilt (Wikipedia article)
https://cutt.ly/WVtuNOx
Blind faith: Rose Glass on Saint Maud
https://cutt.ly/uVtu8Gm
The Law of Burnt Offerings (Leviticus 1:1-17))
https://cutt.ly/cVtu77K
Saint Maud Explained | Movie and Ending Explained
https://cutt.ly/hVtiq4H
The Rise of New Wave Horror
https://cutt.ly/jVtirqT
Nietzsche: The Genealogy of Morality (Essay 2 – Guilt, Bad Conscience…)
https://cutt.ly/nVtiylg
On the Genealogy of Morals
https://cutt.ly/OVtioM2

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: كريم إيهاب

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا