مراجعة فيلم CREATION الوجه الآخر لداروين

التناسق الذي تكنه الحياة بتعقيدها هو مصدر لشعور عميق بالمهابة والإيمان بالله، ولكن ليس بالطريقة البسيطة المباشرة التي أقنعت العديد من الناس قبل مجيء داروين، لا ينبغي للمؤمن أن يخشى أنَّ البحث في التطوِّر سيخلع الوجود الإلهي عن مقامه، إذا كان الله حقاً قادراً على كل شيء فلن تهدِّده أبحاثنا التافهة لفهم قوانين عالمه الطبيعي.
فرانسيس كولينز تعليقا علي نظرية داروين.

“قصة الخلق ”

يبدو من وقع الإسم أننا بصدد مشاهدة عمل يناقش كيفية نشوء الخلق، وعندما نعلم أنَّ فيلم CREATION يتناول قصة حياة داروين، سننتظر بالطبع التطرق إلى نظريات تشارلز داروين عن التطوِّر والانتخاب الطبيعي والنشوء وإشكاليات الخلق والدين، ومن ثم الحرب الطاحنه بين الدارونيون والمؤمنون إلى آخره.

ولكن سيخيب آمالكم بعض الشيئ فهذا العمل يذهب إلى الأهم من ذالك، ففيلم creation يقدِّم لنا المعاناة النفسية التي مرَّ بها داروين والدافع لإخراجه تلك الاطروحة الأكثر شهرة في العالم (أصل الأنواع) فالعمل يقصِّ حياة داروين الشاب الطموح الذي جاب العالم في رحلة بيجيل البحريه؛ للبحث عن أنواع الكائنات واكتشاف سلالات متعدِّدة ودراسة الكائنات البحرية آملًا في التوصُّل الى السلف المشترك لكل الأنواع الحية.

يعرض الفيلم فترتين زمنيتين في حياة داروين الأولى قبل موت ابنته الكبري والثانيه بعد فقدها، الفترة الأولى يحياها كوالد طبيعي تراوده بعض الشكوك حول خلق الإنسان والعالم، أما زوجته فتؤمن برب أسرة سعيدة اجمالًا. في تلك الفترة ينشر داروين بعض الأبحاث في نظرية الإنتخاب الطبيعي وفكرة البقاء للأصلح، فيتلقَّي العديد من الاعتراضات من المجتمع والكنيسة، وزوجته تبدي بدورها تبدي قلقها حول زوجها وأفكاره التي ستغضب الإله.

وتمرض ابنته الكبرى مرضًا خطيرًا في مشهد، يُعتبَر من أقسى المشاهد في الفيلم، فيذهب داروين إلى الكنيسة متوجِّهًا للرب وداعيًا اياه أن يشفي ابنته، ومن ثم سيصبح مؤمنا طوال حياته. وإذا دقَّقنا في هذا المشهد نجد أنَّ دعاؤه ذاك ينم علي إيمانه بوجود الخالق في أعماق نفسه فكم من أوقات تمر علي المرء بين الحيرة والشك، ثم ما إن نكون في مفترق الطرق فنحن وحسب اعتقاد البعض لا نتجِّه للإله رافعين عن أعيننا تلك الغشاوة ليبق لدينا هذا اليقين الفطري بوجود الإله .

إعلان

وتتوفى ابنة داروين بعد الصراع مع أمل ولا أمل ورجاء ودعاء، فيفق إيمانه في حالة من السخط والغضب تجاه الرب الذي لا يكترث به. وينعزل في معمله وحيدّا يستكمل من خلال قوة السخط بداخله نظريته عن وحدة النشوء وأصل الأنواع.

ويتردَّد كثيرًا في نشر الكتاب بعد اكماله فيأتي إليه أحد أصدقاؤه ليعلم بالسبب الذي يؤخِّره عن نشر كتابه أصل الأنواع. فيجيب داروين بعباره تحمل الكثير في فحواها: «لا أعتقد أنها فكرة جيدة أن نعطي للمجتمع شيئًا يجعله يفقد الثقة في وجود الاله، فالناس تحتاج لشيئ ما يؤمنون به حتى يدفعهم للاستمرار بالحياة».

بعد تردُّد نشر العمل، وبين عدم وجود الأدل. الكافية  للتصديق على النظريه أيضًا، يسلَّم داروين أخيرا بنشره مهما تكن النتائج.

رؤيه واقعية 

يركِّز فيلم CREATION أكثر على الحاله النفسية والحروب الداخلية والاجتماعية في حياة داروين، وحياته الشخصيه ومعاناته النفسية، فالوجه الانساني لهذا العالِم لم نتعرَّض له قبلًا إلَّا من خلال أبحاثه، لذا العمل بين أيدينا يجعلنا نطل بقرب علي داروين الانسان.

فبداية لم ينكر داروين وجود الله ولم يدعِّي أنَّ نظريته كفيله بدحض فكرة الإله الخالق، ففي إحدى عباراته صرَّح قائلا…«إنَّ نظرية تشرح طريقة سير التطوُّر الطبيعي للكائنات الحيه لا يمكن أن تكون ذريعة للالحاد»

وقد كانت هذه الفترة الأولى بحياته، إلى أن انقلب عالمه عقب وفاة ابنته فمن الحاحه ورجاؤه والتعلُّق بأمل ما لإنقاذ ابنته إذ به يصطدم بأنَّ لا فائدة من دعاء أو رجاء، وربما لم يكن من إله ليستمع له.

دعونا نتوقَّف قليلًا لتفسير المشهد، فالأب المذعور لفقد ابنته اعتزل الأسرة وظل وحيدًا في معمله، ولم يستطع تقبَّل حقيقة أنها اختفت من الوجود وللأبد. بينما تتقبَّل الأم وفجأة ابنتها وتتعايش مع الفقد كحقيقهة واقعة لأنَّ الفقد في مفهومها ليس أبديًا. والفرق في الواقع بين الحالتين هو الفرق بين وجود اله وعالم أخر وانكارهما معا.
لم يجد داروين عزاءً لنفسه من قبيل احتمالية أنَّ الحياة الأخرى بعد الموت ستجمعهم مرة أخرى، غير أنَّ السخط بداخله جعله يفقد اليقين بوجود عالمٍ آخر فكانت هذه أكثر مشاكله، فإما أن يسلِّم بوجود الإله والحياة الأخرى. فيهتدي نوعًا ما إلى أمل الالتقاء بابنته، وإما أن يظل على اعتقاده فيسلِّم بأنَّ الموت نهاية كل شيئ .

إنَّ القضية ليست فقط قضية التسليم بوجود إله من عدمه، فالتسليم بوجود…. حياة… الخير الشر… الأخلاق.. الأمل …الإبداع والفن، كل ذلك من شأنه أن يسلِّم بوجود معنى آخر لهذه الحياة هي امتداد بعد الموت، حيث يقتضي المنطق أنَّ لكل عمل جزاء وما دامت الحياة امتحان بنظر الكثيرين فيمكننا التسليم إلى وجود دار أخرى للجزاء .

وهذا المفهوم إنَّما فطن إليه داروين وإن لم يكن عليه التصريح به. إنَّ التردد البالغ لديه حد القلق والتوجُّس إنَّما لادراكه خطورة ما توصل إليه كذالك في جملته السابقه لأحد أصدقاؤه

لا أعتقد أنها فكرة جيدة أن نعطي للمجتمع شيئا يجعله يفقد الثقه في وجود الاله فالناس تحتاج لشيئ ما يؤمنون به ليدفع بهم للاستمرار بالحياة.

من وجهة نظر موضوعية يمكننا الخلاص إلى أنَّ العلم والدين لا يحمل كلا منهما تناقضًا للآخر كذا العلماء لم يكن بالسهل عليهم اكتشاف النظريات، ومن ثم الخروج على الملأ ليصرِّحوا بكل بساطه لا وجود للإله، وهم لا يفعلون ذالك مطلقًا، بل هم أصحاب الذرائع الذين يجدون في نظريات العلم تبريرا علميًا لمزاعمهم ولما يروجون له متتحايلين على العلم.

ليس بالضرورة أن يسير العلم والدين باتجاهين متضادتين كما يرى الماديين، فالعلم يفسِّر الوجود والدين لا يتعارض مع الفهم والبحث، ومن ثم فطريق العلم يبدأ بنهاية طريق الدين وكلاهما لازمان للبشريه .

 


فيلم Creation عمل بريطاني من إنتاج مؤسسة BBC بطولة الممثل “بول بانتي” بدور داروين، والذي أتحف المشاهدين ببراعة الأداء وأضفى جانبًا إنسانيًا على الشخصية كما أتقن ببراعة ايصال معاناته ومعاركه وتوتُّره الداخلي الذي يجعلك في بعض المشاهد تعايش ما مر به في تجربه بالفعل شاقه ذهنيًا.

كما أدت جنيفر كونولي دور الزوجه المتديِّنة التي تخشى على زوجها من هجوم المجتمع، وكذا أن توصله أفكاره تلك إلى التفريق بينهم في الحياة الأخره وبرعت في أدائها المتميز .
فيلم CREATION استعراض شيق لجزء مهم من حياة صاحب أكثر نظريات علم الاحياء جدلا مما قد يجعلنا نبصر بعدا اخر في تناول النظرية.

إعلان

اترك تعليقا