عَقلية القَطيع .. تفسيرًا لِبعض تصرفاتنا غير المبرّرة
هل تسائلت يومًا عن سبب التفاتك لنفس الإتجاه الذي التَفت إليه الشخص الذي بجانبك فجأة؟. أو عن سبب توجُّسك وخوفك من التعليق على موضوع للأغلبيةِ فيه رأيٌ مخالفٌ لرأيك؟. أو عن تصنعِكَ بإعجابك بشئٍ كان الأغلبيةِ قد أبدو إعجابهم فيه؟.
إنَّ وجودنا داخل جماعة لها نفس صفاتنا وعاداتنا وثقافتنا تُملي علينا التصرف بنفس السلوك الذي يتَصرفهُ الأغلبية، فغالباً نملُك ذلك الخوف من كوننا مختلفين عن الأشخاص المحيطين بِنا فنسارع بتعديل سُلوكنا ليتناسب مع صِفاتنا الجَمعية المُتَفق عليها ثقافيًا واجتماعيًا ودينيًا في بَوتَقة من المعايير الصارمة التي تَضعنا بدائرة حدودها محظورة وداخلها متاح وآمن، فالتصرُّف الذي نراه مريح هو الذوبان الكامل داخل هذه الجماعة والتصرف بما تمليه علينا الأغلبية لنتخلص من صعوبة أن نكون منبوذين من هذه الجماعة العُظمى .
إنَّ أَفكارنا و توجُّهاتنا عادة ما تخضع لتصفيات قبل اتخاذ الحكم عليها لكن في حالة الوجود داخل الدائرة الإجتماعية المباحة فإنَّ الفكرة أو ذاك الرأي لا يتم تصفيته أو دراسته بل يؤخذ كما نقل عن المصدر، سواء كان المصدر ديني أم ثقافي اجتماعي فيتم قبوله والعمل به والتسليم به وتقديسه.
والسؤال الآن: متى سيصبح الفرد يُفكّر بكل ما قد يصله من أفكار قبل اتخاذ القرار ولا يسلِّم بأية فكرة دون أن يدعها تمر بتصفيات عقلية ذهنية خاصة به؟
إنَّ المجتمعات العربية يَغلُب عليها طابع الجمعية collectivism، وتعني أن الفرد هو الجماعة والجماعة هي الفرد فيعكس الأخير آراء الجماعة، ويُحاسَب على مخالفة أرائهم، أو التفرد ببعض الخصائص المختلفة عن جماعته، وإنَّ التاريخ القبلي العربي وحماية القبيلة من الاختراقات التي تهدِّدها يُفسِّر سبب هذه الخاصية في المجتمعات العربية، في حين نرى قيم الفردانية تسود بالمجتمعات الغربية أكثر؛ فالحرية في التعبير عن الرأي تظهر تبعًا لذلك، ولا يتم نبذ ذلك الشخص أو وضعه على قائمة المفسدين للمجتمع لأنَّ رأيه مختلف!
الفردانية individualism هي أن يعتمد الفرد على نفسه. ولأهدافه ورغباته قيمة معنوية عالية لا تسيطر عليها المعايير الإجتماعية والدينية سيطرة متحكِّمة بل لنفسه وجود متحكِّم على آراءه الشخصية؛ فيدع عقله يقرّر ما الذي سوف يتقبله كسلوك وما الذي سيرفضه حتى لو تعارض مع ثقافته أو السلوك المتعارف عليه بعائلته على سبيل المثال.
نستطيع من مقياس الفردانية والجمعية معرفة مقدار تجذُّر الثقافة المتوارثة، فكلَّما تعمَّقت الجمعية في المجتمعات كلَّما كانت الثقافة المنقولة أكثر قداسة وتطبيقًا أعمى وغير مُدرِك لتقدم الزمن والحضارة الحالية.
إنَّ عقلية القطيع تكمن في توغل صفات الجمعية في المجتمع فينتج لدى الفرد ذاك العقل الجمعي الذي يتصرَّف بآلية الجماعة فتنمحي ذاته لتظهر روح الجماعة فيه وتصبغ على سلوكه السلوك الذي من المفترض أن يقوم به .
وهذا ما يفسِّر لنا لِما قد نلتفت بالتفاتة شخص بجانبنا إلى نفس الاتجاه، لأننا ندرك أنه يتعرض لخطر أو منبِّه ما وهذا الخطر يقع علينا بوقوعه عليه … ولِما قد نَخاف أن نُعطي رَأينا المُختلف عن رأي الأغلبية خوفًا من النبذ المُتوقَع… ولما قد نَصطنع الإعجاب بشئٍ لا يُعجبنا كَونه قَد حصل على إعجاب الأغلبية خوفاً من نفس السبب.
ولو أنَّ هذا التمسُّك بالآخرين كان سبب في دوام الثقافات والتراث منذ القدم الى الآن إلا أنه قد يكون أيضا سبب في غرس التمييز العنصري أو الجنسي أو العِرقي وبعض الصور النمطية السلبية في دماغنا فقط لأن جماعتنا أملت علينا ذلك.
واقتباس لـ د. يوسف زيدان في صُلب الموضوع حيث يقول:
“القداسة فعل الجماعة لا الأفراد. فلا يوجد مقدّسٌ فى ذاته! لا يوجد مقدّس إلا في مجتمع.. وكلما امتدت جذور الجماعة في التاريخ وانبسطت رقعتها الجغرافية؛ كلما تكثَّفت مشاعر التقديس عندها، وتأكدت لدى أفرادها قداسة هذا المقدّس أو ذاك. ومع طول الأمد، لا تصير قداسة هذا المقدس تأملية، مثلما كانت أول الأمر، وإنما تغدو بدهية .. موروثة”.
الطبيعة البشرية مليئة بالاختلافات، والتقدم الحضاري حالياً يملي علينا أن نخرج من مظلة الجماعة لنواجه الآخر وننفتح على ما هو جديد ومختلف، فالعقلية القديمة بالتمسّك والتشبث بالآراء المتوارثة لم يعد يُجدي نَفعاً.
يجب أن نخرج من هذه الدائرة المرسومة لنا من المجتمع أحيانًا، وندع لعقولنا أن تجرب عناء البحث وسؤال النفس و العقل، وأخيراً الاختلاف هوية وكلٌ لهُ هويته.