صراع الفن مع ذاته

ما وراء الفن – الخالق والمخلوق: جدليّة التملّك والانعتاق

قيل في الروايات العظيمة أنّها تلك التي تتحدّث إلى قرّاء عصرها ونقّاد المستقبل، بعبارة أخرى: هي الأعمال التي تعكس عمق النفس البشرية بشرورها وفضائلها فتتجاوز زمنها.
تناولت رواية “العمل الخالد المجهول” لـ أونوريه دي بلزاك أبعادًا أكثر تعقيدًا لتلك الفكرة؛ فكانت عزيزة على قلب سيزان، كما أنّها فَتَنت كارل ماركس فأرسل إلى صديقه فريديريك إنجلز وهو يستعدُّ لإصدار عمله الخالد “رأس المال” يقول له: “أنصحكَ بقراءة العمل الخالد المجهول لبلزاك. أظنُّ أنني اقترفتُ شيئًا مشابهًا، لن يكتمل أبداً”. كما ألْهَم هذا العمل ببيكاسو لأن يرسم عنه عدّة لوحات، ثم دفعه إلى اكتراء بيت في الشارع الذي دارت به أحداث هذه القصة في باريس، حيث سيقيم في أثناء الحرب العالمية الثانية، وحيث سيُبدع رائعته الفنّية “غارنيكا”.

صورة غلاف رواية العمل الخالد المجهول، أونوريه بلزاك
صورة غلاف رواية العمل الخالد المجهول، أونوريه بلزاك، منشورات المتوسط

 

ما الذي أيقظ في أعماق هذه الشخصيات هوسًا متّقدًا تجاه هذه الرواية؟ ما الفكرة العميقة التي طرحتها، لتتردّد أصداؤها في أرواحهم وتتناغم مع شيءٍ ما في دواخلهم جميعًا؟

لا شكّ أنّ الرواية، رغم غرقها في أجواء فنيّة آسرة، ورغم اهتمامها العميق بعالم الفنّ وعشّاقه؛ قد تجاوزت كونها حكايةً عن لوحةٍ فنيّة، وامتدّت إلى ما هو أبعد، لتستكشف العلاقة الشائكة التي قد تنشأ بين الفنّان وعمله الفنّي، بحيث يظهر الفنّان فيها كخالِق يُقيّده إبداعه بينما يتحوّل عمله إلى مخلوقٍ يكشف عن هشاشة خالقه.

يُمثِّل فريمهوفر، الرسّام الشهير والشخصيّة المحوريّة في الرواية، هذا الصراع من خلال هوسه بتحقيق فكرة “المثاليّة المطلقة”، يذوب في عمله الفنّي حتّى ينتهي به الحال إلى فقدان القدرة على تمييز ما يمكن أن يكون “جميلاً بما يكفي” أو حتّى “مكتملًا بما يكفي”. يصبح الفنّ بالنسبة له عمليّة لا تنتهي تفصله عن الواقع إلى أن يصل به الأمر لإخفاء ثمّ تدمير لوحته.

 

العمل الخالد المجهول
أونوريه دي بلزاك_ كاتب وروائي فرنسي

 

هذه العلاقة المضطربة بين فريمهوفر وعمله تعكس مأزقًا إنسانيًّا أوسع؛ فالإنسان، في سعيه لإنكار نقصه وسعيه نحو المثالية إنّما يقوم بالعبث بتجربته الإنسانيّة حتّى لا تعود تُعبِّر عنه.

إعلان

لعلّ عبارة بديعة لعبد الله القصيمي أن تُوضّح الشرط الإنسانيّ الذي افتقده فريمهوفر بشدّة وهو إنّ “عبقريّة الإنسان تكمن في خلق الأشياء على نموذج نقائصه، لا بخلق نفسه على نموذج نظرية مثالية ليصبح بلا نقائص، أو ليصبح شيئا فوق نفسه”. فهل يمكن للفنان أن يتصالح مع محدوديّته البشريّة دون أن يفقد ارتباطه بجوهر الفن والحياة؟ وإلى أيّ مدى يمكن للجمال الذي نصوغه في خيالنا أن يتعايش حقيقة مع الواقع؟

 

احدى رسومات بابلو بيكاسو (1881-1973) التي تأثرت برواية بلزاك “التحفة المجهولة”_ باريس، أمبرواز فولارد، 1931.

حين ينفلت المخلوق من قبضة الخالق

أوّل ما تظهره العلاقة بين الفنان وإبداعه هو حدود السلطة التي يتمتّع بها كخالقٍ على ما صنع. يجد فريمهوفر نفسه في صراع مع ذاته؛ إذ تكشف لحظة الإبداع عن نقصه البشري؛ فيحاول إخفاء عمله الفني عن عيون الآخرين ويؤجل من انهائه. يرسم بيدٍ مرتجفة، يذيب خطوطه في طبقاتٍ من الألوان التي لا يراها أحدٌ سواه، تمامًا كما كانت شخصيّة “بيجماليون”، الأسطورة في مسرحية توفيق الحكيم، الذي لم يرغب هو الآخر في أن يطّلع أحدٌ على تمثاله، وكأن انكشاف عمله للآخرين ينقل تحفته الفنيّة من جنّة الخيال إلى أرض الواقع خوفًا من ألّا تصمد أمام النقد أو من ألّا تتطابق مع التوقعات. ومع ذلك يملك هوس لحوح برؤية عمله الفنّي وهو ينبض بالحياة، لكن في التي اللحظة انكشفت فيها لوحة فريمهوفر صدفة أمام الآخرين؛ فَقَد سيطرته عليها، وأصبح العمل الفنيّ كيانًا مستقلًا يُعبّر عن ذاته، متحررًا من كونه مجرد انعكاسٍ لخيال صانعه.
كما أدرك بيجماليون أيضًا أن منح الحياة لتمثاله كان مخاطرةً بفقدان بريقه المثالي. في كلتا الحالتين، كان كلٌ منهما يطارد فكرة، لكي تتحقّق، كان عليهما أن يواجها احتمال انهيارها أمام الواقع.

هذا الصراع يتجاوز علاقة الفنان بفنّه ليُعبّر عن علاقة أزليّة بين الإنسان والعالم حوله. يحاول فيها الإنسان دائمًا إعادة تشكيل الواقع وفق تصوّراته الخاصّة، لكن الواقع، بطبيعته العصيّة على الامتلاك، يتسرّب مثل ماءٍ من بين الأصابع. وتصبح الحقيقة أوضح: يزدهر الكمال في مساحات الخيال اللا ملموسة، بينما ينهار عند أول مواجهة ملموسة مع العالم.

لوحة تصوّر بيجماليون وهو أمام تمثال جالاتيا


بعد أن أُجبر فريمهوفر على مواجهة حقيقة لوحته، رأى فيها مرآة تعكس نقصه؛ فدمّرها. كذلك فعل بيجماليون عندما واجه تمثاله الحيّ، تساءل بقلق: هل يبقى الجميل جميلًا حين يصبح حيًا؟
في الحالتين، كان الإبداع انعكاسًا للذات المتخيَّلة، لكنه، في لحظة الخلق، ينفصل عن خالقه ويكتسب كينونةً مستقلة. يصبح العمل الفنّي رمزًا لتحرّر الواقع من سطوة الخيال، ومخلوقًا يتجاوز حدود صانعه، ليُبرز هشاشة الإنسان أمام مثاليّته.

دافع الكمال: ما الذي يُحرك البشر نحو الكمال؟

وصف أحد اللاهوتيّين الفرنسيّين الكمال بأنّه “لا يحدث حين لا يبقى شيء يمكن إضافته، بل حين لا يبقى شيء يمكن إزالته”، وهنا كانت مأساة فريمهوفر؛ الذي لم يدرك أن هذا السعي اللانهائيّ للمثالية ينطوي على خطر فقدان البساطة والتوازن الذي يجعل من إبداعه عملًا مقبولًا أو مفهومًا للآخرين. في حواره مع صديقه حول “العظماء من الفنانين الذين يثابرون إلى أن تُطاوعهم الطبيعةُ، وتخرج من أياديهم في كامل عُريّها مُقدِّمةً سرَّها العجيب”، ذهب بعيدا في رغبته المحمومة تجاه المثالية، إلّا أنّه لم يستطع رغم ذلك أن يُدرك أن فكرة الفن والحياة ليست بالوصول إلى حالة مُطلقة، بل بالقدرة على التوقّف والاعتراف بالضعف الإنسانيّ قبل أن يُضعِف الإبداع من بداهة التجربة الإنسانية.

قد يفسّر لنا ردّ “پولون” على غضب الآلهة فينوس من محاولة بيجماليون تحدّيها بتمثال جالاتيا فائق الدقّة؛ دافع البشر للسعي للكمال: “هؤلاء البشر يا فينوس يمتازون عنّا – نحن الآلهة – فهم يستطيعون أحيانًا أن يَسْمُوا على أنفسهم، أما نحن فلا نستطيع أن نسمو على أنفسنا. إنّ قوّة الفن أو ملكة الخلق عند هؤلاء لقادرة أحيانًا أن توجِد مخلوقاتٍ جميلةً ليس في إمكاننا نحن الآلهة بأن نأتي بمثلها أو نجاريهم في شأوها، لأنّهم أحرارٌ في السّموّ، ونحن سجناء في النواميس! … هؤلاء البشر ينظرون إلينا في أكثر الأحيان نظرة التقديس، حتى انتصارهم علينا لا يشعرون به. هم يسمّونه انتصارًا على أنفسهم!”

تشبه العلاقة بين فريمهوفر وعمله الفنّي وبين بيجماليون وتمثاله علاقة الإنسان بأفكاره وأحلامه، تلك التي قد تتحوّل إلى عبءٍ أو معاناةٍ عندما تواجه الواقع؛ فبعدما واجه بيجماليون حقيقة أنّ الجمال الذي صنعه لم يعد مِلكُه بالكامل، وأنّه لا يستطيع التحكم في إرادة التمثال الحيّ، بعدما تبدّى له مأزق أنّ الإبداع، رغم سحره، قد يتحوّل إلى عبءٍ بعد أن يتحرّر من قيود المبدع ويصبح مستقلًا بذاته.

يعترف بيجماليون قائلا: “ما أعظم الضعف أحيانًا. الضعف! هذا الشيء الإنسانيّ الجميل، الذي حُرمتم إيّاه أنتم أيّتها الآلهة. فيهمس پولون لفينوس: “إنه يخشى أن يصير إلهًا؛ فلقد شعر بحقيقتنا التعسة. يعترف فريمهوفر أيضا قائلا: “آه أيّتها الطبيعة من ذا الذي يُمسك جمالك الطريد، والحال أن المعرفة الكبيرة مثلها مثل الجهل، لا تقود المرء إلا إلى النفي”، فيهمس بوربوس بصوتٍ منخفض: “ها هو ذا يُحاوِرُ شيطانَهُ!”

لكن ما هو شيطان فريمهوفر؟ نجد الإجابة في ردّه عندما يُسأل عمّا ينقص لوحته: “أكاد أقول (لا شيء)، ولكن هذا اللاشيء هو كلّ شيء”.
يشير فريمهوفر حين يقول “لا شيء”، إلّا أنّ العمل قد يبدو منتهيًا للعين الخارجيّة، لكنّه يُدرك أنّ هناك شيئًا غير ملموس، شيئًا يتجاوز المادّي والتقنيّ؛ لا يزال مفقودًا. هذا “الّلاشيء” هو الروح، الحياة، أو ذلك العنصر الغامض الذي يجعل العمل نابضًا بالحقيقة والجمال، لا مجرّد نسخةٍ مُقلِّدةٍ للواقع. 

“الّلاشيء” هنا هو ما يجعل الفنّ مفتوحًا على احتمالاتٍ لا نهائيّة، هو ذلك الفارق الدقيق بين عملٍ مُكتمِلٍ لكنّه جامد، وبين آخرَ ناقصٍ في الظاهر لكنّه ينبض بالحياة. قد تكمن عظمة الفن في هذا التوتّر والتواتُر المستمرّ بين الاكتمال والنقص، وبين الرفض والقبول، حيث يظلّ اللاشيء هو كلّ شيء.


المراجع وهوامش:

– العمل الخالد المجهول، أونوريه دي بلزاك، ناظم بن إبراهيم، منشورات المتوسط الطبعة الأولى 2021

– أعمال بابلو بيكاسو بعد تأثره بعمل بلزاك الروائي العمل الخالد المجهول، انظر هنا:

– الاستوديو الذي انتقل إليه بيكاسو ليكون قريبًا من أحداث رواية بلزاك، الرابط هنا

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: دانا جودة

تدقيق لغوي: عبير الششتاوي

اترك تعليقا