شبح المدنيَّة: عن الأزمة السودانية والمأزق السياسيّ الما بعد حداثيّ
مقدَّمة: شبح المدنيَّة
المدنيَّة: شبح النظاميين وجن الكهنوت. كيف تحكمنا أفْكَار من طينٍ وفي أيدينا بنادق من نارٍ؟ كيف نَشور في أمورنا رجلًا لا يضع الكتَّافات ولا يلبس العمامة؟
أسرد لكم أعزائي أساطيرَ لا تَمُتّ للواقع بصلةٍ، ولكنني أتساءل: إذا كانت حقًا لا تَمُتّ للواقع بصلةٍ، فكيف لها أن تتشابه والواقع إلى هذا الحَدّ؟
لا أعلم لم يظُنّ النسور أن موقفهم موقف ضعف؟ لربما كان ذلك سببه تبلُّدًا في الشُّعُور أو صدمة عصبيَّة، لمّا كانوا قد اعتادوا على مثل هذا الذُّل من إخوانهم في سياقاتٍ مختلفة. لا يُمكن بأي حالٍ من الأحوال أن نُنكِر أن للإنسان سُلْطة نفسيَّة على أخيه الإنسان، ولا يمكننا أيضًا أن نُنْكِر أن معظم سجوننا هي ذهنيَّة في جوهرها. وقد يستهويني هذا الحديث فأطيل فيه، بيد أنني هنا بصدد أمرٍ آخر، لا أريد فيه المجازات ولا أُحبِذّ فيه الكناية.
الأزمة السياسيَّة الما بعد حداثيَّة
فيما يظن البعض أن الأزمة السياسيَّة الما- بعد حداثيَّة هي وجود جيش واحد أم اثنين، أزعم أنا بأن الأزمة السياسيَّة الما بعد – حداثيَّة هي غياب أو قُل عدم وضوح العدو. ففي الماضي، كان العدو يجري تحديده على أساسات قوميَّة، كأن نقول نحن عَرْب وهم يهود، أو نحن رومان وهم يونان، وهكذا. ثُمَّ، بدأ العدو يجري تحديده على أساسٍ أخلاقيٍّ، فالعدو هو المُغْتَصِب، والإرهابيّ، والخارج عن المِلَّة، ومن ينكح أمه، وهكذا. ولكننا وبعد أن هدَّمنا كل القوميَّات بل ونبذنا فِكْرة القوميَّة نفسها، وزعمنا بنسبيَّة الأخلاق ومثاليَّة التحضُّر حتى مع الإجرام والمجرمين، فلا يجوز لنا أن نضرب مُجرمًا مثلًا أو أن نقتله، بعد كل هذا العمل الهدَّام ها نحن ذا نقف كالمغشي عليه من الموت، نُصوَّب جميعًا نحو هدفٍ خفيٍّ لا نعرفه.
إن من يظن أن كفة ميزان الأزمة السياسيَّة السودانيَّة تطُبّ لطرفٍ دون الآخر، ظنه باطل على الأغلب، فإن كان أحد الطرفين على ثقةٍ كافيةٍ من دعم الشَّعب له، لأصدر على الفور مُنَاشدات تدعو إلى التعجيل بالانتخابات، أو لطالب بحُرِّيَّة الإعلام وفتح المجال العام على الأقل.
إن المشاعر السودانيَّة ما تزال مُتَضَارِبَة تجاه الجيش، فمن ناحية، هناك سنين عجاف طوال قد عاشها السودانيون تحت حكم الجنرالات، أعوام يسخطها السودانيون بل ويود بعضهم أن يثأر لأجلها. فالشَّعب إذًا لا يطيق تخيُّل المزيد من العمر الضائع تحت حُكْم الجنرالات، ولا يأبه بانتمائاتهم السياسيَّة أو ما يتخذون لأنفسهم من أسماءٍ وشعارات.
ومن ناحية ثانية، لن يستطيع الشَّعب تقويض مخالب الجيش أو تشذيبها بالفِكْرة والكلمة وحدهما، وحتى المثاليين الذين يدَّعون أن هذا ممكن يُنَاقِضون أنفسهم بالضرورة، فلو كان ذلك ممكنًا لما تمكَّن الجنرالات من السَّيطرة على السودان وتكميم الأفواه لكل هذه السنوات. فالأزمة إذن ليست في سؤال: من يستحق أن يكون رقيبًا على من؟ بل هي بالأحرى في سؤال: من سيكون رقيب الرقيب؟ ثُمَّ من سيكون رقيب رقيب الرقيب؟
وبصيغةٍ أوضح: إذا مالت الكفَّة ناحية القوَّات المسلَّحة، من يضمن أنها لن تنفرد بالسُّلْطة كما في الماضي؟ وإذا مالت ناحية المُنشَقين عن القوَّات المسلَّحة، من يضمن أنهم لن يمارسوا القمع ذاته لمّا كانوا من الطينة نفسها أو قل لهم السُّلْطة المُطْلَقة نفسها؟
للاحتدامات السودانيَّة إيجابياتها مع ذلك، فالشَّعب الذي عاش لسنينٍ خارسًا لسانه خوفًا على أطفاله وخشيةً على مصيره، قد صار الآن في خضم مواجهة لا مفرّ له منها. إن تجارب كهذه هي ما تثري أذهان الشُّعُوب وتجعل خيالاتها خصبة سخيَّة، فتصير أقْدَر على خَلْق الحلول وتحليل التجارب.
والمواجهات فِكْريَّة في جوهرها، حتى وإن كان لأطرافها مطامع وحتى وإن وقعت إثرها ضحايا. يمكننا الحديث مثلًا عن أن جنرالات الجيش هم من يرفضون التخلي عن مناصبهم لما يجنون من وراء هذه المناصب من ترفٍ وثراءٍ فاحش، وسيكون زعمنا صحيحًا. ويمكننا أيضًا أن نزعم بأن المنشقين لهم مطامعهم الخاصة في التربُّح من وراء مناجم الذهب والتآمر مع الخليج، وسيكون زعمنا صحيحًا أيضًا. ولكننا، وبرغم صحة هذين الزعمين، لن نكون قد أصبنا لُبّ الموضوع، ذلك أن الأزمة سياسيَّة محضة.
أوهام المسيح المُخلِّص وعبادة الحُكَّام
ما يزال العَالَم العربيّ يتصوَّر السُّلْطة على أنها تكوين هرميّ له رأس وقاع، وما تزال أكثر بقاع العَالَم تحلم بالمسيح المُخلِّص الذي سيرأس العَالَم ليُحرِّره بإيثاره وحكمته ورحمته. والواقع أنه ليس ثَمَّة هكذا مسيح، ولن يكون هناك هكذا مسيح في المستقبل. على البَشَر أن يقبلوا واقع محدوديَّتهم وضآلة تجاربهم، لأن ذلك ما سيُمكِّنهم من التخلُّص من أوهام الموناركيَّة والاستبداديَّة وعبادة الحُكَّام.
إننا حقًا لدينا أحلامنا السياسيَّة وتخيُّلاتنا الثريَّة عن الحَاكِم الذي يضرب “العدو” ولا يرحم، ولكننا الآن وبعد أن قضينا على كل الأعداء، روحنا نهرع لخَلْق نزاعات جديدة بهدف مواجهة أعداء جُدُد. إننا غير قادرين على تجريد فِكْرة الشيطان، على الرَّغْم من أننا قد ظللنا سنينًا نقول إن الشيطان غير مرئيٍّ.
إنما الشيطان فِكْرة، لا وجه له ولا ذيل. ذلك ما ذكرته جميع الأديان. العدو هو الطمع على سبيل المثال، أو الظلم، وليس الطمَّاع أو الظَالِم. والسؤال ليس: كيف نقضي على الظَالِم؟ لأننا إذا قضينا عليه سيظل الظلم موجودًا، وبالتالي سيكون هنالك ظالمون آخرون. ولكن السؤال: كيف نُحيل بين الجنرالات والظلم؟ كيف نُسلِّمهم البنادق ونأمن شرهم في الوقت نفسه؟
ويخيَّل إليَّ أنّ الجميع على درايةٍ بطُرُق تحقيق ذلك، بدليل ما نسمعه من دعاوٍ لاستقلال المنظومتين التشريعيَّة والقضائيَّة، ودعاوٍ أخرى لإعادة صياغة الوثيقة السياسيَّة، بحيث تضع الجميع تحت وطأة القانون، ودعاوٍ ثالثة تُنَاشِد وتطلب التدخُّل الخارجيّ وخلافه. لم يفشل المدنيون إذًا في تقديم حلول للأزمات السياسيَّة القائمة، ولم يفتقروا إلى الخيال اللازم لمواجهة الوضع. إَلّا أن ما يبدو لي هو أنَّ الجنرالات والمدنيين لديهم مطامعهم الخاصة التي يأبون التخلّي عنها، ونزاعاتهم الداخليَّة التي يرفضون الاعتراف بها.
نظرة سيكولوجيَّة إلى النزاع السياسيّ
فكِّر في الأمر لوهلةٍ. قد تجلس إلى أريكتك ممتعضًا تسب سيادة رئيس أركان لا أدري ماذا، ثُمَّ يهاتفك صديقٌ يقضي خدمته العسكريَّة فتجيبه مبتهجًا: إنك هنا، وبعد أن تخوض هاتين التجربتين، لن تكون قادرًا على سبّ المنظومة العسكريَّة أو مدحها حقًا، وإذا تصاعد الأمر وتفاقمت المشكلات حَدّ التراشق بالرصاصات، فلن تكون قادرًا على مؤازرة المؤسَّسة العسكريَّة أو محاربتها بإخلاصٍ.
ولكنك بمشاعرك المضطربة تلك لن تشعر أبدًا بمدى اضطراب من هو مُجبر حقًا على إشهار السلاح، هنالك نزعة غريزيَّة تدفعه إلى محاولة تحريف سرديَّة الواقع وتلفيقها، ولهذا ابتدع البَشَر البروباجندا وأطالوا في شرحها وتقسيم علومها. قد يزعم البعض أنَّ ذلك كان سببه مطامع شخصيَّة، وقد أوافقه في الرأي، إلَّا أنني ما أزال أشُكّ في كَوْن هذه المطامع هدفًا رئيسًا. إن الإنسان مجبرٌ على تحريف سرديَّة الواقع ليجد مفرًّا من نزاعه الداخليّ، ذلك أن إنسان العصر، كما ذكرت، لم يَعُدّ يعلم مَن عدوه أو ماذا يُحَارِب.
والواقع أن البَشَر على مَرّ العُصُور يواجهون المشكلات نفسها، ويُدوِّنون الأساطير نفسها، ولكن بلغاتٍ مختلفة: هنالك فئة تنهب، وفئة تُنٍهَب، سادة، وعبيد، جنرالات، وعساكر. وذلك لا يعني أن الجنرالات شياطين، وإنما هو محض تساؤل عن السبب وراء أن هؤلاء الجنرالات يجنون كل هذا الكَمّ من المال ويتصفَّحون بهذا الكم من النفوذ، وتساؤل أيضًا عمَّ قد يحدثه ذلك في صحتهم العقليَّة.
فكِّر فيها، تخيَّل أنك تملك ملايينَ في البنك، وابنك وابنتك يأكلون الولائم والفواكه وخلافه، وتمشي بين أصحابك الذين هم جميعهم تحت خط الفقر، تفعل فيهم ما تفعل بلا حسابٍ أو عقاب، تأمر وتنهي وتحرِّك الجُيُوش والكتائب بحركة إصبع، كيف سيؤثر ذلك في صحتك العقليَّة؟ ألن تظن أنك الرَبّ؟ ألن تنصت لنفسك فحسب وتأتي على أي شيءٍ يقف أمامك؟ إننا إذ نُجرِّد الجنرالات من أوهامنا عن قدسيتهم، نرى قبحًا يلزمه تدخُّل طبيّ عاجل.
عن تخاذل الدَّعْم الخارجيّ
إنَّ ما يحدث في السودان هو تمثُّل لِمَا قد يحدث في دول مجاورة عِدَّة في غضون السنوات القادمة، ويبدو لي أنه لا أحد حقًا يريد تغيير الواقع. إن ما اعتدنا عليه لسنين نألفه ويألفنا، بكل ما فيه من بؤسٍ وتعاسة، وأي تغيير جذريٍّ راديكاليٍّ يقلب الموازين ويبدِّل المعادلات يبث فينا الرعب والفزع. من ناحية أخرى، نجد أنفسنا مندفعين بكل ما أوتينا من سرعة ناحية الهاوية، بل يُخيَّل إلى بعضنا أننا أصبحنا على شفا حفرةٍ من نار.
إن تخاذل الدَّعْم الخارجيّ سببه أنَّ السودان تشهد تصعيدات محليَّة لمأزقٍ بشريٍّ عَالَميٍّ، فبعد قرونٍ من استبداد الدولة، عُدنا نستكشف الأسئلة الأناركيَّة القديمة: كيف نقوِّض سُلْطة القوَّات المسلَّحة دون سلاح؟ وكيف نضمن ولاء القوَّات المُسلَّحة للمدنيَّة والديموقراطيَّة دون أن يكون لنا أن نعاقبها؟ كيف نأمن خطر العدوان الداخليّ والخارجيّ دون جيش بكل هذا العتاد؟ وكيف نأمن ألَّا تصرف القوَّات المسلَّحة أموال العتاد على إقحام نفسها في الاقتصاد والتربُّح للسادة والجنرالات؟ كيف نأمن تسليم بقاع الأرض للقوَّات المسلَّحة لمواجهة “العدو”، دون أن تنتابنا بعض الشُكُوك بأن الاستحواذ كان بغرض التربُّح واستعمار الأرض باسم الديار؟
على السودانيين إذًا ألَّا يضعوا الكثير من الآمال على الدَّعْم الخارجيّ، وألَّا يثقوا كثيرًا في صحة جنرالاتهم العقليَّة، وإنما الأجدر لهم أن يسعوا إلى مخرجٍ وسطٍ غير متطرِّف بين الإيمان الأعمى والشَكّ المُستَبِد، وألَّا يطمحوا إلى مجرَّد إعادة الوضع إلى ما كان عليه، لأن ذلك قد أصبح ضربًا من ضروب المستحيل، علاوة على أن الخيارات السياسيَّة التي يُمكِّنهم الوضع الحاليّ من استكشافها هي أفضل بكثير مما كانت عليه في السابق، وتملك من الإمكانات ما هو قادر على إعادة إحياء الأُمَّة برمتها.
تعقيب: عن استقلاليَّة العمل السياسيّ وأهمية أخذ المبادرة
لطالما كان الانتصار والحُكْم للشَعب، ذلك أنه حتى الصمت قرار يتخذه الإنسان. وإنما ما حدث هو أننا ما نزال نستكشف وسائل ترويض الطبيعة واستغلالها. وكنا قد انتهينا إلى بعض الفرضيَّات، ثُمَّ جربناها، فأخذنا منها ما استحسنا وتركنا ما لم نستحسن، وتلك طبيعة التفاعل بين الإنسان والطبيعة، وعلى الإنسان ألَّا يسخط هذه الطبيعة أو يضمر لها حقدًا.
وإن طبيعة الوضع البشريّ قد آلت بنا إلى الظن بأن الاستبداديَّة أو الملكيَّة هي أفضل وسيلة لحُكْم أي مجموعة من الأفراد، سواء كانوا أفراد أسرة أو قبيلة أو دولة. فإنك لتجد أفراد الأسرة ملتَّفين حول الذَّكر، وتجد أفراد القبيلة ملتَّفين حول زعيم القبيلة، وتجد أفراد الدولة ملتَّفين حول رئيس الدولة.
ولكننا، ومع مرور العُصُور، أخذنا نسفك دماء بعضنا، وأخذت الفجوة الطبقيَّة بيننا تكبر، وأخذنا نغرق في الاكتئاب وغيره من المشكلات العقليَّة والاضطرابات النفسيَّة. إنّ كل ذلك قد دفعنا إلى إعادة النظر في كل شيءٍ، لأن كل ذلك كان واقعًا مُصوَّرًا لم يجرؤ أحد على التشكيك أو الطعن فيه.
وكل هذه النكبات قد دفعتنا إلى إعادة النظر إلى الوراء ومراجعة الأخطاء، فأخذنا نُبدِّل الأوراق ونُرتِّب القطع طامحين في مخرجٍ لا يجحد ماضيه ولا ينكر واقعه. ولكن محاولات الانزواء عن العَالَم والتبرُّؤ الكامل منه هي محاولات أثبتت فشلها مرارًا وتكرارًا، سواءً أكان ذلك في حل الأزمات الداخليَّة أو الخارجيَّة، ذلك أنه لا مشكلة تُحَلّ من تلقاء نفسها، علاوة على أن إنْكَار الخطر المحدق هو ضرب من ضروب إنكار الواقع، والذي يفضي بصاحبه بلا شَكٍّ إلى الهاوية.
وعليه، فإن الدول المجاورة لا ينبغي أن تتهاون بأي حال من الأحوال مع تصعيدات القوى السودانيَّة المُنشقَّة، وينبغي النظر إلى هكذا تصعيدات باعتبارها تهديدًا للأمن العالميّ. فإذا استطاعت ميليشيَّات عسكريَّة أخذ أسرى مقيمين مُتفق على إقامتهم مسبقًا، فكيف تأمن أي دولة سواء أكانت مجاورة أو غير مجاورة إرسال مواطنيها إلى السودان؟
تدقيق لغوي: أمل فاخر