ساميزدات- اختبار حدود الحرية السوفيتية
عُرفت السنواتُ التي تلَت وفاةَ ستالين عام 1953 باسمِ “فترة ذوبان الجليد”. ألقى نيكيتا خروتشوف،الزعيم الجديد، خطابَه السرّي عام 1956 مستنكراً عبادة ستالين للشخصية والحكم القمعي. ولم يكن ذلك العصرُ عصرَ الحريّة الكاملة، لا للسجناء الذين أُطلِق سراحُهم من السجون، ولا لباقي الشعب؛ وإن انتهى زمنُ الإرهاب الستاليني فإنَّ القمع الإداري قد استمر. ففي عهد ستالين، كان اختبارُ حدودِ الحريةِ يعني احتمالَ إرسالِ الشخص إلى معسكراتِ العمل السايبيرية أو إلى أقبية السجون وإعدامَه رميًا بالرصاص. ما سيُثيرُ النظام؟ وما هي الحدود المسموحة للانتقاد؟ وماذا ستنتقد بالضبط؟ وما الحقائقُ الصعبةُ التي يمكنك نطقُها بصوت يتجاوز الهمس؟
كانت ساميزدات الأرضَ الخصبة لاختبار هكذا أسئلة، وهي النتاجُ الفريد لهذهِ الحقبة، إذ اضطَّر المنشَّقون عن الاتحاد السوفيتي إلى إنشاء وسيطٍ خلّاق ٍ أكثرَ خصوصية لتبادل الأفكار فيما بينهم بعيدًا عن أعينِ الرقابة، بعد أن سيطرت الدولة حرفيًا على جميع وسائل النشر، لدرجة تسجيل كل آلة كاتبة ليتمّ تقصي كلِّ نقرةِ مفتاح، وينشرونها بطريقةٍ سمحت لهذهِ الأفكار بخلقِ حالة جدال وطرحِ تصوّر جديد عن العالم. ويرجع المصطلح “ساميزدات” للشاعر نيكولاي غلازكوف في أربعينيات القرن الماضي ويعني “نشر ذاتي”. كانت ساميزدات الطريقةَ السريّة لقراءة الروايات والقصص القصيرة والقصائد والمقالات السياسية والمذكرات التي منعتها رقابة الدولة السوفيتية في أوائل الستينيات.
صيرورة التغيير
لم تحظَ كتابات ناتاليا غوربانيفسكايا (Natalia Gorbanevskaïa) السوداوية بمقروئية كبيرة بسبب خطورة الشِّعر في الاتحاد السوفيتي آنذاك؛ إذ أُرسِلَ شعراء كثيرون إلى أقبية السجون وأعدم بعضهم بسبب أشعارهم المحظورة. إلا أنّها استفادت من ساميزدات في بواكير ستينيات القرن الماضي وأضافت قصائدَها لتيار الشِّعر السرّي، وكانت توزِّع قصائدَها المكتوبة يدويًا، ثم بدأت طباعتَها على آلتها الكاتبة (التي سيكون لها دورٌ كبيرٌ في حراك المنشقين) بعد أن استبدلت مفاتيحها لكي لا يتعقبها النظام. فانتشرت قصائدُها عن الاغتراب والوحدة وبدأ قرّاؤها ينسخونها، ونشرت أوَّل نسخة ساميزدات عام 1964. انخرطت لاحقًا مع مجتمع المنشّقين من خلال ساميزدات، وإن كان انخراطها بادئ الأمر شخصيًا أكثرَ من كونه سياسيًا، إلا أنّها وجدت نفسها في تحدٍّ لنظام وأيديولوجية تريد السيطرة على النتاج الثقافي؛ فساهمت في تشكيل صحيفتين أثارتا غضبَ السلطات واُعتقل محرِّروها وأُرسلوا إلى معسكرات الاعتقال. صحيح أنَّ ساميزدات بدت وسيلة للتعبير عن الذات بالنسبة إلى ناتاليا، إلا أنّها رأت كيف وحدَّت مجتمع الفنانين والكُتّاب المنشقين الذين تعرَّضوا للهجوم في الوقت الذي أُغلقت كل أبواب الثقافة المعتادة في وجوههم. أدَّى ظهور ساميزدات إلى مزيدٍ من الاعتقالات التي بدورها صعّدت وتيرةَ نشر ساميزدات. أصبحوا الآن يخوضون حربًا مع النظام وسلاحُهم الحقيقي هو حبرٌ وأوراق بالغة الرقة كقشر البصل.
تناول غال بيكرمان قضيّة الـ ساميزدات في كتابه (الهدوء الذي يسبق: تاريخ نشأة الأفكار الراديكالية)، وفردَ لها فصلًا بعنوان “التركيز”،
وذكر أنَّ أشكال الاتصال ما قبل الرقمية تتطلب الصبّر. ونظرًا لأنها كانت تستغرق وقتًا للإنتاج ولتنتقل من شخص لآخر؛ أبطأت وتيرة الأحداث، وفضّلت التراكم المتزايد للمعرفة والاتصال، كما أكسبت الحركاتِ اتسّاقًا، وطريقةً لتشكيل الأيديولوجيات والمشاعر المتناثرة في منظورٍ واحد جديد مقنع. والأشخاصُ الذين انضمّوا لهكذا محادثات، المحادثات المتأنية التي احتاجت لجهد حثيث لإنتاجها، اكتسبوا إحساسًا أقوى بالهويّة والتضامنِ الذي بدوره حرّرهم لتخيّل طريقة تمكنّهم من ترتيب العالم ترتيبًا مختلفًا. بالإضافة إلى الجدال والتنقيح والتحرك نحو أهدافٍ مشتركة.
وقال إنَّ “الوسيط الذي نستخدمه لإجراء محادثة يُشَكِّل نوعَ المحادثات التي يمكن أن نجريها، بل ويضع حدودَ تفكيرنا. بعبارة أخرى، الوسيطُ هو الحاوية التي تحوي أفكارًا محددةً دون غيرها”.
وهكذا، حدَّد شكلُ منشورات ساميزدات المحادثات والأفكار التي انتشرت وقتئذ؛ ولهشاشة الأوراق والخطورة التي اكتنفت إنشاء ساميزدات، كان عليهم التفكير مليًّا فيما يريدون قولَه واختزال أفكارهم وتكثيفها قدرَ الإمكان. وعلى الورقة نفسها قد تجد عدَّة أصوات من خلفيّات مختلفة ولكنّها ضمن المشروع الأكبر؛ كشف إساءات النظام السوفيتي المتكرِّرة، وإماطة اللثام عن الصورة القمعية للدولة السوفييتية. أنتجت ساميزات عالمًا خاصًا للمعارضين، ومنحتهم حريةَ ارتكاب الأخطاء وتجربةَ مفاهيم جديدة وتخيّل نظام جديد أكثر إنسانية. كما مُنحوا حرية التعبير ولم يملِ أيّ شخص آخر شكل الساميزدات أو حدَّ من محتواه.
استخدمت ناتاليا ساميزدات للتوثيق وإنشاء مكان مركزي واحد لتجميع جرائم الاتحاد السوفييتي بالتفصيل ومحاولة إيصال صوت الشعب إلى الصحافة الغربية والعالم، فأسَّست صحيفة كرونيكل التي ستساعدهم على تركيز انتباهم على بناء حجّةٍ مستمِّرةٍ وجمع المنشقين من جميع أنحاء الإمبرطورية الذين تعرضوا للاضطهاد بسبب دينهم أو عرقهم أو انتمائهم لمجموعة وطنيةٍ والمنبوذين السياسيين والذين عوقبوا بسبب صدقهم وعدم مطابقتهم للرؤية الشمولية للحزب الشيوعي.
وبحلول نهاية عام 1968، أصبحت صحيفةُ كرونيكل عنصرًا أساسيًا في الاتحاد السوفيتي ومن منشورات ساميزدات التي تُطبع بانتظام. ساعدت هذهِ الصحيفة المنشَّقين في أن يجدوا المعنى وينظروا إلى أنفسهم كمجتمعٍ في حالةِ حرب مع دولتهم، وبحلول العدد الخامسِ اتسَّعت دائرةُ القراءة اتساعًا كبيرًا لدرجة أنّ معظم قرّائها لم يعرفوا السيدةَ التي كانت تجمع كل تلك المعلومات التي تصلها شفهيًا أو مكتوبةً على قصاصاتٍ ورقية صغيرة تروي قصص القمع والجرائم التي شهدها الأفراد وعانوا منها أنفسهم. أرادت ناتاليا أن تتحرَّى الدقَّةَ في تقاريرها، فقالت لقرّائها في العدد السابع: “كان العمل في الصحيفة عهدًا بأن نكون مخلصين للحقيقة. في الحالات التي لا نكون متأكِّدين تمامًا من وقوع حدث ما، تشير الصحيفةُ إلى أنّ المعلوماتِ مبنيةٌ على الشائعات. ولكن في الوقت نفسه، تطلب صحيفة الوقائع من قرّائها توخي الحذر والدقة في المعلومات التي يقدِّمونها للنشر”. وإذا بدت تلك الأخبار ذات مصداقية، كانت تُدرجها في قسم “الأخبار في سطور”.
وكانت هذهِ الملاحظات تُمرَّر من يدٍ ليد، بالطريقة نفسها التي تُنشر بها صحيفةُ كرونيكل. كلُّ وسيط ينقل الملاحظات، لا يعرف إلا الذي يأخذها منه والذي يُسلّمها إليه. كتبت ناتاليا: “يمكنك إيصال المعلومات إلى محرِّري الصحيفة؛ قُلها ببساطة إلى الشخص الذي أخذتَ منه الصحيفة، وسيُخبر الشخص الذي سلَّمها له، وهكذا دواليك. ولكن، لا تحاول تتبعَ سلسلة الاتصالات بأكملها بنفسك وإلا سيأخذونك إلى قسم الشرطة”.
في عام 1969، اتسَّعت إصدارات ساميزدات، وأصبحت الوقائعُ أكثرَ من ثلاثين صفحة مليئة بالأخبار المختلفة ومقالًا عن اضطهاد كهنة الروم الأرثوذكس. تضمَّن قسم “الأخبار في سطور” ثمانية عشر بندًا قصيرًا، وتقاريرَ من القراء تستند إلى التجارب المحليّة لمختلف المجتمعات المهمّشة: التتار، واليهود السوفييت، والكهنة الأرثوذكس الروس، والقوميين الأوكرانيين.
المصير الثوري
بحثُ نتاليا عن الحقائق والمعلومات ونشرُ المظلومية جعلها أقلَّ حذرًا ممّا ينبغي، ففي إحدى المرات، ما أن سمعت أنَّ الرجلَ قد أمضى عشر سنوات في سجن فلاديمير، حتى أمطرته بالأسئلة حول الظروف، لا سيّما حول أوضاع السجناء السياسيين: كم كان عددهم؟ هل تم إيواؤهم معًا؟ ما نوع الطعام الذي كانوا يأكلونه؟ هل كان الحراس أكثر عدوانيةً معهم؟ ثم انتقلت إلى قضيّة تلميذٍ في مدرسة تارتو تعرّض للضربِ مؤخرًا بسبب توزيعِه منشوراتٍ تتعلق بذكرى الغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا. هل يعرف أيَّ شخصٍ لديه المزيد من المعلومات حول هذا؟ وسلَّمته بضعةَ أعداد من الصحيفة، وعندما جال ببصرهِ ووقع على مقالٍ عن تتار القرم وكفاحهم من أجل “العودة إلى وطنهم” أدرك الرجلُ خطورة الموقف، وانسحب. وقال لاحقًا أنّه بلَّغَ عنها سلطاتِ الـKGB.
عرفت ناتاليا أنَّ احتمال اعتقالها يزداد مع كلِّ قارئ إضافي للصحيفة. خصوصًا بعد العدد العاشر، وكون الصحيفة أصبحت المصدر الموثوق الوحيد للصحافة الغربية مثل BBC وصوت أمريكا. قررت ناتاليا التخلي عن مهمة تحرير الصحيفة بعد مداهمة شقتها واضطرارها إلى تلف المعلومات والأوراق الرقيقة في الحمام وفي قدر الطبخ. كانت خليفتَها الأولى زوجةُ أحد السجناء السياسيين غالينا غاباي.
وفي صبيحة الرابع والعشرين من ديسمبر، داهم عناصر النظام شقتها التي كانت مليئةً بالمخطوطات والملاحظات التي كانت ستُشكل العدد الحادي عشر للصحيفة، وعثروا على كلِّ ما من شأنه أن يدينها، واقتادوها خارج منزلها.
كانت السلطات السوفيتية تُرسل بعض المنشقين إلى مستشفى الأمراض العقلية ويُعلنون جنونهم مستعينين بالطبيب النفسي البروفيسور دانييل لونتس، الذي اُشتهر بتشخيصه للمعارضين على أنَّهم مصابون بـ “الفصام البطيء” وهو مرض نفسي اخترعه الأطباء السوفييت. شُخصِّت ناتاليا بإصابتها بحالة “تقدُّمية بطيئة” من هذا الفصام. على الرّغم من وصفها بأنها طبيعية تمامًا “تتحدَّث عن طيب خاطر، هادئة، والابتسامة مرتسمة على وجهها” – إلَّا أنَّ عدم اعترافها بخطأ سلوكها كان دليلًا على مرضها: “لا تنكر أفعالَها، لكنّها تعتقد أنها لم تفعل شيئًا مخالفًا للقانون. مقتنعة اقتناعًا راسخًا بصحة أفعالها، وتسبغ عليها سمة الأخلاقية، لا سيَّما قولها إنَّها تصرَّفت على هذا النحو “حتى لا تخجل في المستقبل أمام أطفالها”.
جرت محاكمة ناتاليا في السابع من يوليو، بغيابها؛ ذلك أنَّ المرضى النفسيين لا يسمح بحضورهم في المحكمة. واستخدم الادّعاء فورسيل، الرجلَ الذي التقته ناتاليا في إستونيا، لإثبات أنَّها كانت تعمل في الصحيفة. وأثبت الادعاء أنّها كُتبت بالآلة الكاتبة التابعة لناتاليا من مطابقة ضغطات المفاتيح. واتُهِّمت بأنها “أعدَّت بشكل منهجي افتراءاتٍ تشوّه سمعةَ النظام السياسي السوفيتي ووزعتها”. قرَّرت المحكمة أنّها مُذنبة ولكنّها غيرُ سليمةٍ عقليًا وستُوضَع لأجَلٍ غير محدَّد في مستشفى الأمراض النفسية من نوع خاصّ لتلقي العلاج الإجباري.
اقتيدت ناتاليا في يناير تحتَ الأرض وهي تعرف تمامًا المكان الذي تتجِّه إليه، ذلك أنّها ذكرت ويلاتِ سجنِ المرضى النفسيين الذي أُنشِئ في عهد ستالين في قازان وأهوالَه في العدد العاشر: “إذا ارتكب المرضى مخالفاتٍ مثل الامتناع عن تناول الدواء أو المشاجرة مع الأطباء أو فيما بينهم، يُقيَّدون إلى أسرَّتهم لثلاثة أيام أو أكثر ولا يُسمح لهم بالذهاب إلى دورات المياه”. كانت تعرف أيضًا التصميم العام للمستشفى، وما هو متوَّقع منها ومن المرضى الآخرين (السجناء) خلال أيام عملهم التي تستغرق ثلاث ساعات ونصف الساعة (خياطة مآزر وملاءات). كانت تعرف حتى اسم الدواء المضاد للذهان الذي سيجبرها الأطباء على تناوله.
وبرغم ذلك، استمَّرت الصحيفة، وتعاقب المحرِّرون على تحريرها حتى أوائل الثمانينيات من القرن الماضي عندما قضت حملةٌ شرسةٌ على الصحيفة. أصبح تركيزُ المنشَّقين الدؤوب على العدالة. والصحيفة التي عملت على توجيه جهود المنشقين وتركيزها، كانت سفينةَ نجاةِ هذهِ العملية، بلغةٍ هشَّة وغير مزخرفة، جعل إصرارها على الحقيقة من الصعب قبول الأكاذيب. أما مصير مؤسِّستها فكان علاجًا سريريًا لعامين. خرجت غوربانفسكايا إلى الحريّة بعد حملة تضامن واسعة معها في دول الغرب. وصرَّحت بعد إطلاق سراحها أنّ “من بين كلِّ اختراعات السلطة السوفيتية يبقى العقاب النفسي هو الأرهب”. وروَت في مقابلةٍ معها عام 2012 جرت في موسكو، جانبًا من تفاصيل تلك الفترة، وقالت: إنَّ “الفرق بين سجناء معسكرات الاعتقال ونزلاء المصّحات النفسية هو عدم وجودة فترةٍ محددةٍ لاحتجاز نزيل المستشفى العقلي، يمكنهم احتجازه حتى شفائه من وجهة نظرهم”.
من هنا، يمكنُ أن نرى ما تتيحهُ آلياتُ التنظيم الكلاسيكية ما قبل الرقمية، المتمثلة بساميزدات هنا، من خلقِ نقاشٍ حقيقي حولَ العالم وقضاياه، وحشدِ التفافٍ أكبرَ حول الأيديولوجيا الجديدة، وفتحِ مساحةٍ لتخيّل واقعٍ مختلفٍ في وقتٍ كان صنعُ التغيير يتطلبُ صبرًا مرهقًا، وتراكمًا بطيئًا، وجهد إقناع شخصٍ ملتزمٍ تجاه قضيته. وهذا ما سلبتنا إيّاهُ وسائلُ التواصل الاجتماعي التي تتيح الوصولَ السريع للمعلومة وسرعةَ انتشار الحراكات على نطاقاتٍ واسعة إلا أنّها لا تعبّر بالضرورة عن تجذرِها أو تأثيرها على نفوس من يطلّعُ عليها.