فيلم Mother: البشر الذين لفظتهم الأرض والسماء
ساعتان من دون موسيقى ولا أسماء -تعابير الوجه كانت كافية- لا يُصنّف على أنه رعب ولا دراما ولا هو علاقة بين زوجين، الفيلم الغريب Mother!
توافرت للفيلم العديد من العوامل ليصبح فيلمًا ناجحًا فهو من كتابة المخرج: “دارين أرنوفسكي” وبطولة “جينيفر لورنس” و”خافيير باردم” و”إد هاريس” و”ميشيل فايفر”. يثير الجدل ويقدم إسقاطاتًا لمواضيع فلسفية ودينية بطريقة مذهلة.
فيلم Mother يصوِّر قصة الأم (الطبيعة) وزوجها (الإله) يسكنان في بيت ناءٍ حيث يعاني الزوج الشاعر من فقدان الإلهام أو ما يعرف ب”block” فيقرر الإله خلق آدم، وهو الزائر الذي يقرر اقتحام حياة الزوجين صاحبًا معه التوتر في منزلهما المتواضع. ونلاحظ هنا ألم الطبيعة الأم بتعبيرات وجهها في إشارة لبداية الفساد في الأرض، ثم يخلق حواء من ضلع آدم وبوسوسة من حواء يكسر آدم الكريستالة (التفاحة) فيطردهم الإله من الطابق العلوي (الجنة) فينزلان إلى الأرض وبعدها يتشاجر الأبناء (قابيل وهابيل) فيقتل أحدهما الآخر. فيبدأ شلال الدماء على الأرض إلى أن يحدث الطوفان العظيم (طوفان نوح) فيخرج الجميع إلا أصحاب البيت.
بعد مدة يعود البشر الى الأرض حتى نصل إلى الربع الوقت المتبقي من الفيلم فيبدأ الضجيج في كل مكان من المنزل، نرى البشر المعجبين بكتاب الشاعر (الرسالة السماوية) وقد انقسموا إلى طوائف وملل، فيبدأون بتدمير البيت، بتسامح من الشاعر الذي كان يأبى طردهم ولا يخضع لكلام الطبيعة التي طلبت طردهم من المنزل، يتصاعد التوتر والازدحام في البيت وتبدأ في داخله الحروب وتحطيم كل شيء لم يكن حينها أمام الأم سوى الصراخ كسلوك دفاعي نتيجة الألم التي تتعرض له، إلى أن تنجب الطفل (السيد المسيح) فيأخذ الأب الطفل إلى الزوار وبسبب غبائهم ووحشيتهم يقتلون الطفل في مشهد دموي ثقيل على أعين المشاهد فينتهي الفيلم بإحراق الأم للبيت.
ويطرح الفيلم معضلة الشر التي سنحاول في الفصل القادم تبيان رأي الفلاسفة بهذه الإشكالية:
معضلة الشر عند لايبنتز وبيير بايل
يشير لايبنتز الذي صاغ مصطلح” الثيوديسيا” أو العَدالة الإلهيَّة، وهي محاولة إيجاد تفسير للشر بشكل لا يتعارض مع وجود الله بأن عالمنا هو أفضل العوالم الممكنة فبحسب لايبنتز اللّه لا يستطيع أن يخلق عالمًا أفضل من هذا العالم، ويرجع ذلك للحرية التي منحها الله للإنسان وإرادته الحرة وهذا يتوافق مع حب الله للإنسان وعدم فرضه لهذا الحب، فكيف فسر لايبنتز وجود الشر في العالم؟
لا ينظر لايبنتز للشر الموجود في العالم على أنه شر على الإطلاق، إذا نظرنا له بنظرة كلية لا محدودة، لأن الشر محتوى في الخير الكلي والشامل، فهو مثل التراجيدية في المسرحية يعطي جمالها وقيمتها، ففي رأيه كما أشرنا فإن هذا العالم أفضل العوالم رغم وجود النازية والفاشية.. وصحيح أن بوسع المرء أن يتصور عوالم ممكنة لا خطيئة فيها ولا ألم، ولكن هذه العوالم لا بد أن تكون أدنى قيمة من عالمنا بمنزلة.
أما بيير بايل فيصرح بالمقابل بكل بساطة بأنه كيف لإله رحيم وخير أن ينجب كل هذا الشر؟ فيرى أنه ليس بإمكاننا التوفيق بين وجود الشر في العالم من جهة ووجود إله كلي الخير والرحمة والعدل من جهة أخرى، فإذا صحة هذه الفرضية غير المنطقية والمتناقضة نحن أمام استنتاجات ثلاثة:
- الله إما محدود الخير أو شرير لأنه يستطيع منع الشر ولا يفعل.
- الله إما عاجز يريد منع الشر وغير قادر.
- الله لا يريد منع الشر وغير قادر.
وبهذه الاحتمالات الثلاثة سيكون الإله غير جدير بالألوهة كما يرى بابل
ويسأل بيير بايل الذين يعتبرون الإنسان كائنًا طيبًا بطبيعته، إذا كان الإنسان مخلوقًا طيبًا ومقدسًا وقادرًا وخيرًا ورحيمًا فمن أين أتته نزعة الشر هذه؟ إذا لم تكن موجودة من الأصل التي أتت منه فهل للقداسة الكاملة التي تتمثل بالإله أن تنتج مخلوقا مجرمًا على هذا النحو.
فيخلص بيير بايل أن على الإنسان أن يختار بين عقله والإيمان بالغيب.
المؤمنون والملحدون والشر الطبيعي
يختلف الفلاسفة كما أوردنا بنظرهم للشر ويتفق الناس المؤمنون منهم والملحدون بوجود الشر، الكثير من المؤمنين يؤمنون بإله كلي المعرفة والقدرة وكلي النزعة للخير لكن الملحدون يحاججون بأن هذه الرؤية تخلق تناقض فلا يمكن أن تكون هذه الصفات صحيحة بنفس الوقت مع ما يجري في العالم فهو يعلم بالشر قبل حدوثه، فإذا كان مطلق الطيبة والخير عندها سيقوم بإيقافه. وبعضهم ذهب لتفسير الشر ووجود الإله بأن الإله لم يخلق الشر، لكن الشر لا يمكن تجنبه بدون نزع حريتنا، وعالم بدون حرية سيكون عالم أسوء. هذا التفسير يحتفظ بطيبة الإله لأنه خلق أفضل عالم ممكن فالبرغم من معرفته بوجود الشر وقدرته على إيقافه فلديه سبب لعدم فعل ذلك باختصار لكي يحافظ على حريتنا.
نأتي إلى الفكرة التي طرحها البعض بأنك لا تستطيع أن تستوعب مفهوم المتعة بدون ألم ولا شعور الدفء إذا لم تكن تشعر بالبرد. إذا سلمنا بذلك أي أننا نحتاج للشر لفهم الخير أليس بإمكاننا أن نفهم الفرق عن طريق مستوى أقل من الشر كجرعة ضرورية للاستمرار في الحياة مثل جرح بسيط في اليد أو التعب من العمل يليه الشعور بالراحة؟ لكن المشكلة التي تفاداها الفيلم هو الحديث فقط عن الشر الأخلاقي أو الشر الذي يتم ارتكابه بواسطة البشر عن قصد. بالطبع نحن مسؤولون عن الكثير من الأمور السيئة ولكن الفيلم يحمّلنا مسؤولية كل شيء، فلماذا تحميلنا مسؤولية تحرك الصفائح الأرضية وما تسببه من زلازل مدمرة وعاصفة تتسبب بسقوط شجرة على منزل أحدهم؟ فالشر الطبيعي يحصل خارج إرادتنا كبشر.
خاتمة:
يتمحور فيلم Mother عن الاختلاف بين صفات الأنوثة (النعومة، الرغبة في الإحتواء، المرونة، الخجل، الحياء والرغبة في تكوين أسرة والاحتماء بها) والذكورة (الإقدام، الشجاعة، حب العمل، الخروج والاختلاط بالمجتمع، العنف، الجرأة غير المحسوبة) أو الطاقة الأنثوية والطاقة الذكورية يخبرنا دائما المهتمون بهذه الشؤون عن ضرورة التوازن بين الطاقتين لتحقيق الكمال (لم يغب موضوع الكمال عن المخرج دارين أرنوفسكي الذي طرحه في فيلم”Black Swan”.
يفترض فيلم Mother أن سبب الاضطراب الحاصل في العالم افتقاده للصفات الأنثوية وتغليب الذكورة التي تتجسد في الأنا والتي تبتعد عن الذات. عند سؤال أرنوفسكي عن النصف الساعة الأخيرة في الفيلم قال أنه كان غاضب جدًا من تصرفات البشر تجاه الأرض وحاول هنا إظهار هذا الغضب من غباء الإنسان المتصاعد.
يدل المشهد الأخير في الفيلم على الحب الذي أعطته الأم لزوجها عندما كانت محترقة وتلفظ أنفاسها الأخيرة قالت: “أكثر ما يؤلمني هو أني لم أكن كافية“، فيرد عليها زوجها: “هذا لم يكن خطأك، لا يكفيني شيء، علي أن أبدع وهذا ما أفعله، هذه هوايتي، الآن يجب أن أجرب كل شيء من جديد” فيقتلع قلبها ويضعه في أنثى جديدة، وتبدأ الحياة مرة أخرى.