“المحطة” تنفرد بنشر فصل من رواية “الوقوف على العتبات” لمحمد عبد الرازق

لا تستطيع النوم. تتقلّب في ظلامِ الصالة. تتقافز في خيالك ملامحُ أبيك في الصّورةِ التي خبَّأَتْها أمُّك. غريبة تلك الصورة، مع أنّ ملامحه تظهر فيها أكثر حيوية، لكنّها تبدو كأنها التَقَطَت استعدادًا للموتِ أو الرحيل. تتذكّر أنك كنت تملك له عدة صور.

تتحرّك في ظلامِ الشقة، تدخل غرفة النوم، تضيء اللمبة السهاري، تواجه السريرَ بنظرةِ تحدٍّ، تبرهن له أنك لم تعد إلى هنا مشتاقًا إلى مي، بل لسببٍ آخر. تبحث في أدراج التسريحة. لا تجد فيها أيّ صورة، كلها أشياء لا قيمة لها من خيوطٍ وإبر وأزرار. تبحث في أدراج الدولاب السفليّة، ثم في سندرته العلوية، حيث كانت مي تحتفظ بألبوم الفرح، تزيح بطانية حمراء مكوَّمة من زمن. تقع البطانيّةُ من يدك، فتتغبّش الغرفة بأتربتها. تجد ألبومَ الفرح مرميًا خلف البطانية. تلتقطه بخفّة، وتنفض عنه التراب. تفتحه على أول صفحةٍ، لتجد صورةً لك وحدك مبتسمًا، ومكتوب تحتك بالإنجليزية “just married“. لا تقلّب فيه؛ لأنك تعرف أنه لا يحتوي على صورة أبيك.

تعود إلى الصالة. تضيء لمبةً واحدةً، ترمي الألبوم على السفرة، وتبحث في أدراج الشيفونيرة. لا وجود لأيّ صورة عائلية نهائيًا، لا أبوك، ولا أمك، ولا أعمامك، كأنّ الصور اختفت باختفاء مي.

تذهب لتعود إلى أريكتك، لكنك تنسى أن تطفئ اللمبة. في عودتك إلى مفتاح النور، تلمح خيالَ شيءٍ خلف الشيفونيرة. تتوقّع أنه فأر أو حشرة كبيرة، فتزيح الشيفوينرة قليلًا بصعوبةٍ، لتكتشف عدة صور عائلية، بعضها مشوّه الأطراف، وبعضها مقطوع رؤوس شخوصها، أو مشطوب عليها بقلمٍ أزرق، لا لهدف محدد سوى التشويه لأجل التشويه. تقفز في ذهنك مي وهي تمزق هذه الصور قبل رحيلها، لا أحد غيرها كان يمكنه الوصول لهذه الصور وتشويهها بهذه الطريقة. صورةٌ واحدة لم يطُلها أيّ تشويه سوى قَطع صغير في حدها السفلي، كأن القَطْع توقَّف فجأةً لانشغال اليد المشوِّهة بشيءٍ آخر.

 تتمعَّن في الصورة، هي نفسها المعلقة في بيت العائلة بالمنيل، وفي وكالة القماش في السيدة، يقف أبوك فيها بين عميك حامد وعبد العزيز، يرتدون ثلاثتهم بلوفرات مخطَّطة نفس التخطيط، ويضعون أكفّهم فوق بعضها في إشارةٍ إلى الاتّحاد طول العمر.

إعلان

تتأمّل الصور مدةً طويلة، حتى أنك لا تشعر بمرور الوقت. ترسم قصةً لليوم الذي التُقِطَت فيه، بل وحياتهم وحكاياتهم التي عاشوها سويًا. يهب في ذهنك يوم ذهَبْتَ إلى عمّيك في المنيل، ثم أخبراك ألّا تخبر أحدًا برحيل مي، كأنهما تواطَآ عليك، وعلى أبيك، وعلى اتحادهم ذلك. ماذا لو كان أبوك حيًا؟ هل كان سيتواطأ معهم، أم سيقف في صفك ويأمرك أن تطلقها في الحال؟

تشعر برغبةٍ مُلِحّة في الخروج من الشقة، بل والخروج من ذاتك. تنظر إلى الساعة، لكنك لا تهتم لعقاربها. تمزع جسد أبيك من الصورة، تضعه في جيبك، وترمي عمّيك فوق كومة الصور العائلية المشوهة، ثم تنزل.

تتمشّى ببطء، على رصيفٍ تعلوه أعمدة صفراء باهتة، بمحاذاة سور أصفر باهت. السور مكتوب عليه “ممنوع الاقتراب أو التصوير“. تقترب قليلًا من الجملة، لتقرأ فوقها بخطٍ باهت جدًا “تحذير! منشأة عسكرية“. يبدو كل شيء باهتًا الليلة، حتى ذكرياتك عن هذا الشارع وهذا السور، تتذكر أنك كنت تمر من هنا أنت وأبوك في صغرك، عندما كان يصطحبك إلى المدرسة، قبل ذهابه إلى عمله في مستشفى التأمين الصحي. ظلَّ مواظبًا على اصطحابك جيئةً وذهابًا كل يوم، حتى أنهيت المرحلة الإبتدائية. كان حنونًا جدًا، لكنه صامت طوال الوقت. كنت تعرف ذلك لأنه كان يضجر من تعليمات أمك، لكنه لم يكن ليخالفها أبدًا.

تتساءل، ماذا لو كان أبوك حيًا اليوم؟ يواجهك السؤال ولا تقدر على مواجهته، ليس لأنه سؤال مقلق وموجع، بل لأنه يتردد في داخلك كأنه شيء تكميلي للمهزلة التي حدثت في حياتك، ولأنك لم تكن متعلقًا بأبيك يومًا، وإنما كنت معتادًا على وجوده بشكلٍ لم تتخيل معه أبدًا أنه سيغادر. يومها كنت تذاكر درسًا في مادة الأحياء، ودخل عليك، كان يسحب آخر نفس من سيجارته، ابتسم، فظهرت أسنانه المشوهة. وضع يده على كتفيك، وأراد أن يقول شيئًا، لكنه سعل بشدة حتى انكتمت أنفاسه. لما هدأت نوبة السعال، سألك عما تذاكره، أجبته بأنك تذاكر الجهاز التنفسي. نظر في رسومات كتاب الأحياء، وقال “عاوزك تبقى دكتور.. ما تبقاش خايب زيي”، ثم نظر خلفه ليتأكد أن أمك ليست موجودة، وأكمل “الحب حلو أوي.. بس فكك منه وأنت لسة صغير”. تركك ودخل غرفته، بينما لم تفهم سببًا لجملته الأخيرة، ولم تفهم لِمَ ينصحك في شكل اعترافٍ مبهم، مع أنك أنك لم تفصح له عن أي مشاعر تراودك، ولم يجر بينكما أي حوار بهذا الشكل من قبل.

قبل المغرب، دخلت عليك أمُّك الغرفةَ متلهوجةً، أخبرتك أنه أصيب بنوبة سعال حامية، وأمرتك أن تستدعي طبيبًا أو أي شخص يساعدكما. وقفتَ في الصالة، كانت أضواء الشقّة مطفأة، وباب غرفته مفتوحًا على آخره، كان وجهه مخنوقًا، ويسعل كأن رئتيه ستقفزان من حلقه. تلجَلجَتْ قدمك في مكانها، أردت أن تدخل إليه وتسنده، وأردت أن تنزل بسرعة لتحضر أي شخص. كانت أمك تسند ظهره، وتمسّد عليه، وهو يزم شفتيه، ويدور بوجهه يمينًا ويسارًا ليلتقط أي ذرة هواء.

 تقدمتَ خطوتين ناحية الغرفة، لكن أمك أمرتك أن تنزل بسرعة.

جريت نحو الصيدلية، كانت تبعد عنكم عشر عمارات. بعد سبعة عمارات، سمعت بومة تنعب من أحد الشقق الفارغة في الأدوار العليا. كررت البومة نعيبها ثلاث مرات، كأنها تنادي حبيبًا أو ولدًا بعيدًا. أكملتَ جريك نحو الصيدلية. سحبت واحدًا من الصيادلة بجهاز ضغط وحقنة أدرينالين، وجريت به نحو عمارتكم، كان الصيدلي يجري خلفك، وكل دقيقة يعدل نظارته، حتى وصلتما شقتكم في الدور الثالث. وجدتما جيرانكم يملؤون الصالة، وكانت أمك جالسة على طرف السرير، تنتحب بصوت مسموع ولا تقول شيئًا، عرفتَ أنه قد مات، وعرف الصيدلي أيضًا من أول نظرة، لكنك أصررت على أن يفعل أي شيء. وضع أذنه فوق  قلبه، ثم هز رأسه نافيًا ومتأسفًا. وضعت أذنك مكان أذنه، وحاولت أن تسمع أي شيء، لم يكن هناك شيء سوى الصمت.

بعد وفاته بأسبوعين، أخبرتك أمك أن تخرج لتشم بعض الهواء، واقترحت عليك زيارة أعمامك. كانت تتكلم ورائحة بخار فمها منفرة، كرائحة طعام عطن منذ فترة. وافقت على اقتراحها دون أن تناقشها.

قبل أن تخرج من مدخل عمارتكم، توقّفتَ ووضعت يدك أمام فمك، حاولت أن تشم بخار فمك أيضًا، كانت الرائحة كريهة وقاسية، بحثت في جيبك عن أي شيء تأكله ليغيّر منها، لم تجد شيئًا.

دخلت بيت المنيل قبل المغرب، كان الجو حارًا لا يطاق، والبيت صامت جدًا، عرفت أنهم ما زالوا مثلك غارقين في حزنهم، أو في تفاجئهم من اختطاف أبيك بهذا الشكل. لم تتكلم مع أحد، خفت أن يشموا رائحة فمك، لكن الأقسى أن رائحة أفواههم أيضًا كانت سيئة، كأنهم لم يأكلوا أي شيء منذ سماعهم الخبر.

خرجتَ بسرعةٍ هاربًا من تلك الروائح، تمشّيت على الكورنيش، أملًا في أي نسمة هواء تلطّف الجو، لكن الهواء لم يتحرك. ركبت أول أتوبيس قابلك، ونزلت عند كوبري قصر النيل؛ طمعًا في أي نسمة هواء أيضًا. حملتك قدماك إلى طلعت حرب، توقفت قليلًا أمام محل صغير متخصص في بيع الأقلام فقط، ظللت تمرر عينيك على لمعان الأقلام، ذهبي، فضي، برونزي، وعلى الأسعار الخرافية لها. هزئت من فكرة بيع الأقلام تلك، وعبرت الطريق إلى الجانب الآخر، فوجدت نفسك أمام سينما راديو. كان معلقًا على بابها ثلاث بوسترات طويلة. لم تكن قد دخلت سينما في حياتك من قبل، وكان خالد ابن عمك قد حكى لك ما يفعله مع البنات في ظلامها، فاستجمعت شجاعتك واقتربت من الشباب الواقفين أمامها، سألت واحدًا منهم عن فيلم جيّد تراه، فأشار إلى أحد الأفلام وقال لك “صريخ ضحك”.  شكرته وذهبت لتقطع تذكرة، فأضاف الشاب “وكمان هتلاقي نفسك فيه”.

في الفيلم الذي كان يحكي عن شاب صعيدي دخل الجامعة الأمريكية في القاهرة، كانت القاعة ترتجّ كل دقيقتين بضحكاتٍ عالية على الكلام والمواقف. كنتَ تبتسم ابتسامة عريضة، أو تضحك ضحكة متوسطة، وأنت تغطي فمك بيدك. أصابتك لوثة خجل من تلك الرائحة الكريهة في فمك، كما أصابك إحساس بأن أحدهم سيتعرف عليك في أي لحظة، ثم يخبر الجميع أنك تشاهد فيلمًا في السينما بعد وفاة أبيك مباشرةً. غصت في الكرسي، وحاولت التحكم في إيقاع ضحكاتك، تحكمًا أفسد عليك مشاهدة الفيلم حتى انتهى. بدأ الناس يخرجون واحدًا تلو الآخر، بينما كان الفيلم مصحوبًا بأغنيةٍ ختامية، يؤديها ممثل بصوتٍ مجروح ببحّة لذيذة. ظللتَ في كرسيك تستمع إلى الأغنية حتى انتهت. خرجت من السينما، شممت رائحة فمك، ثم بكيت.

تفكر الآن في كل ذلك، تحاول استرجاع كلمات الأغنية، لكنها لا تتردد على لسانك أبدًا. تمسح دمعةً فرّت على خدك، ليس بكاءً على حالك، ولا رثاءً على والدك المتوفّي، وإنما دمعة لا تعرف سببها، ككل شيء لا تعرف ماذا ستفعل فيه. مي التي رحلت، وعبير التي ظهرت، وصفاء التي اعترفت، وأمك التي تغيرت، وأعمامك الذين لا تفهمهم، وأنت الذي لا تعرف كيف تتخلص من كل ذلك.

تعبر الطريق عائدًا إلى البيت، تخرج الهاتف من جيبك، تقرر أن تتصل بهم كلهم، لتخبر كل شخص منهم عن حقيقة ما تشعر به تجاهه، مهما كان الثمن. لكن سيارة تمسك فراملها أمامك مباشرةً، فتنتبه لوقفتك وسط الطريق، ويخرج السائق رأسه من الشباك، يقول لك “ما تفتح يا أعمى”.

يمكنك الحصول على الرواية من المكتبة العربية في معرض القاهرة الدولي للكتاب

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد عبد الرازق

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا