قراءة في رواية أخف من الهواء لفريديريكو جانمير
إنّ الشّعراء والرّوائيّين هم أعزّ حلفائنا، وينبغي لنا أن نقدّر شهادتهم أحسن تقدير، لأنّهم يعرفون أشياء بين السّماء والأرض لم تتمكّن بعد حكمتنا المدرسيّة من الحلم بها؛ فَهُم، في معرفة النّفس، شيوخُنا، نحن النّاس العاديّين، لأنّهم يغرفون من منابعَ لم ينجح العلم، بعدُ، في الوصول إليها [1].
فمن خلال الحكاية نصلُ بمنتهى التّلقائيّة لأمور يصعب علينا معاينتها في الواقع مباشرةً، لذلك بوَّأ عالِمُ النّفس النمساوي فرويد الرّوائيين المكانةَ المَرموقةَ، إذ اعتمد في بناء نظريّته في التّحليل النّفسيّ بشكلٍ كبيرٍ على مجموعة من الرّوائيين المرموقين، [لقد كان جواب فرويد لمّا سُئِلَ ذات مرةٍ عن الأساتذة الذّين أثّروا في تكوينه، أنْ أجاب بإشارةٍ من يده مُومِئًا إلى مكتبته حيث اصطفّت روائع الآداب العالميّة][2].
في تجربةٍ جديدةٍ وبطرحٍ مُغايرٍ لما هو معهودٌ من نصوص سرديّة روائيّة يُطالِعُنا الرّوائيّ الأرجنتينيّ فيديريكو جانمير بروايته المُثيرة [أخفّ من الهواء]، مانحًا سلطًة كاملًة للبطلةِ العجوز/السّاردة لنسجِ خيوط الرّواية، وإدارة دفّة أحداثها، سيجدُ القارئ نفسه -لا محالة-واقعًا في شراك نسيجها العنكبوتيّ منذ الوهلة الأُولى، ليعيشَ مع العجوزِ المُسنّة حياتها، ومعاناتها وآلامها، وهواجسها، وعلاقتها العاطفيّة، وأفكارها.
[أرجوك، اجلس فوق غطاء المرحاض، لا تحسب أنّي أجبرك، إني فقط أظنّك سترتاح أكثر عليه، أنا أيضًا سأجلب مقعدًا وأضعه بجوار الباب، سأقصّ عليك أمرًا ما، لا تُزَمجِر، سيسوءك هذا الحال، ولن تكتسب شيئًا، وربّما قد يرتفع ضغطك، أقسمُ لك، سبق أنْ حدثَ هذا لي. هناك حكايةٌ، حكايةٌ ما سأقصُّها عليك وأرغب في البوح بها، أرجوك، تأدَّب واصمت، اهدأ، توقّف عن الضّرب على الباب كأبلهٍ وأنصتْ بهدوء. […] أنا أعرف ما أقوله، كبارُ السّن هم نبع المعرفة، قد يبدو لكم -وأتحدّث عن معشر الشّباب- أنّه لا يمكن تعلُّم شيءٍ من عجوزٍ في مثل سِنْي، ثلاثة وتسعون عامًا وعلى مشارف أربعةٍ وتسعين، عمر طويل، أليس كذلك؟] (ص7).
من خلال هذه الرُّؤية الفنيّة نَلِجُ مباشرةً إلى عوالِمِ الرّواية، لنكتشفَ لاحقًا أنّ هذا المقطع جزء من تِيْمَةِ النّص وفكرته، فقد جسّدت الرّواية صراعًا محتدمًا غير متكافئٍ إطلاقًا، أدارته السّاردة/العجوزُ ببراعةٍ تامّةٍ، فبعدما حاول شابٌ يافعٌ اعتراضَ سبيلها للسّطو عليها ينتهي به المطاف مُحتجزًا في حمامٍ بعدما أوهمته بوجود المال هناك، ليجدَ نفسَه مُرغمًا على سماع حكايتها المُتخنة بالمآسي والخذلان والحريّة، حكايةٌ ظلّت حبيسة النّفس أمدًا طويلًا، فكما تقولُ الثّقة الزّائدة تؤدّي إلى سقوط السّارق فما على المراهق إذن سوى الاستماع إليها مُرغمًا، فالمنطلق والمنتهى في الرّواية هو الحمام، اللّهم مع بعض التَّحرُّكات داخل المنزل، فمحدودية الأفضية، والشّخصيات، تعود لكون الرّواية تعتمد بالأساس على صهوة الخيال، فالرّواية إذن بشكل عام هي عبارةٌ عن مونولوج مثيرٍ ومبهرٍ نجحَ جامبير في نسج تفاصيله.
تقنيّات الكاتبة/عناصر الإجادة
لم يُراهن فيديريكو جانمبو على تقنيّة كشف السّر في الآخر، وإنّما مصدر البراعة والإجادة كامنة في العزف البارع على وتر الانتقالاتِ السّلسة بين الأزمنة: الماضي والحاضر، هذه التّقاطُعات أكسبت السّرد ديناميّة وحيويّة، أمّا عن نبرة الخطاب فمن خلالِ المقطع أعلاه وعلى طُول الرّواية نجدُها تتلوّن بين استعطافٍ وأَمرٍ، تارةً بصوتٍ هادئ وتارةً أُخرى بصوتٍ قويّ عالٍ، بحسب نزعاتٍ سلوكيّةٍ مُتباينةٍ، وكأنّها تعتمدُ آليّات المُثير والاستجابة.
إلى جانب اللعب على وتر التّقاطُعات الزّمانية نجد هناك حركًة تناوبيًّة بين الزّمان والمكان، فبينما نحن نتابع ما يحدث في البيت (وهو المكان) تنتقل بنا السّاردة إلى حُقَبٍ زمانيّةٍ مُتفاوتةٍ كتشكيلٍ للإطارِ التّاريخيّ للحكاية (وهو الزّمن)، فاحتمال وجود حكاية أُخرى أصدقُ ما دامت السّاردة خاضعًة لسلطانِ الخيال، كما أنّ هناك خطّين متوازيين في الحكاية: حكاية الأمّ والتّي لم تنقضِ مع الأمّ وإنّما استمرّت مع العجوز حتّى تأتّت لها فرصة البوح (المراهق الذّي وجدَ نفسه مُرغمًا على سماعِ الحكاية كشرطٍٍ للإفراجِ عنه)، في مشهدٍ انقلابيّ مُبهرٍ بين الضّحيّة والجلّاد.
إضافةً إلى اعتماد تقنيّةِ الحوار غير المباشر، فالصّوت الوحيد في الرّواية هو صوتُ العجوز، أمّا إجاباتُ المراهق فتُستَنتَجُ من كلامها، الشّيء الذّي جعل من السّاردة/العجوز المُتحكّمة الوحيدة في مساراتِ السّرد وسراديبهِ، فالقارئُ لا يعرِفُ عن الشّخصيّات إلّا ما تحكيه العجوز، هذه الطّريقةُ زادت من حيويّة السّرد وعنفوانِهِ، مع توسيع هامش التّأويلاتِ لدى القارئ لملء الفراغاتِ لتخمينِ الدّوافع والأسباب المَسكُوتِ عنها.
دهاليز المضمر
في رواية “أخف من الهواء” روحٌ تحاولُ الانسلاخ من آثارِ وبقايا وأفكار وطقوس وتقاليد وعادات بالية خالية من أيّ معرفةٍ حياتيّةٍ، وهي ما زالت متسلّطة، ومن جوانب متعدّدة، المجتمع، الدّين، التّقاليد، وسلوكيّات باتت غير مرغوبةٍ في العصر يجبُ أن تزول، طالَ أمدُ السّكوت عنها، والرّواية بما هي مادة ووسيلة للإيصال الثّقافي تُعطي فرصًة مواتيًة للبوح عبر الحكاية بلسان العجوز؛ ليكونَ هذا البوحُ الجارفُ تتويجًا لمسار هذا النّص.
فسلسلةُ الانقلاباتِ التّي وسمت الرّواية بطابعِ التَّمرّد قد أسهمت بشكلٍ بارزٍ في تشكيل النَّص المُضمَر لينبلِجَ من بين ثناياه، ليوجّه العمليّة السّرديّة ككلٍّ، حيثُ الإدانةُ الواضحةُ للموقفِ من المرأةِ على وجه التّحديد، لتقريبِ معاناتها بلغةٍ شاعريّةٍ تجمعُ بين البساطة والعمق في آن واحدٍ، لتبيانِ كيف يتمُّ التّعامل معها بقسوةٍ وعنفٍ، هذا التّعاملُ المُدان تَضرِبُ جذورُهُ في أعماقِ الماضي (حكاية الأم/ديليتا)، مسلسلٌ لم ينقطعْ مداه هناك، بل ظلَّ مُستمرًا في نفس العجوز حيثُ تتقافزُ في ذاكرتها صورُ الظُّلم والقهر والاغتصاب والفساد الأخلاقيّ.
“يبدو لي أنّه حتّى الرّب نفسه في الوضع الحاليّ لا يستطيع تغيير هذا التّعفُّن الشّديد الذّي آلَ إليه العالَمُ، لابدَّ وأنَّ الوقت قد تأخَّر، فالرَّبُ قد فاضَ به الكَيلُ منذُ أمدٍ من هذه الحماقة البشريَّةِ” (ص147 ).
“صحيحٌ أنَّني انتهيت من قصِّ حكاية أميّ لك، لكنْ حينما اتّفقنا لم أكنْ أعلمُ أنّك مريضٌ أخلاقيًا هكذا، كيف أتركُكَ تخرجُ إلى الشّارع وأنت في مثل هذه الحالة؟” (ص 138).
حريٌّ بنا في الختام أنْ نُشيرَ إلى المُترجِم محمد الفولي، الذّي استطاع أن ينقلَ بحرفيّة كبيرة الرّواية من اللُّغة الإسبانيّة إلى اللّغة العربيّة بلمسةٍ شاعريَّةٍ، لتكونَ أخف من الهواء عملًا أيقونيًا يُضافُ إلى الخزانةِ العربيَّةِ، ليكونَ في متناول القارئ الشّغُوف بالرّوائع العالميّة، كما تجدر الإشارةُ إلى أنّ رواية أخف من الهواء حائزة على جائزة كلارين للرواية سنة 2009م.
نرشح لك: لأجلك ألف مرة ومرة، مراجعة رواية عداء الطائرة الورقية
[1] .س.فرويد: الهذيان والأحلام في رواية: غراديفا لجينسن، 1971، ص127. [2] -جان بلمان نويل: التحليل النفسي والأدب، ترجمة: حسن المودن، القاهرةن المجلس الأعلى للقافة، المشروع القومي للترجمة، 1997، ص13