دور اللغة في صياغة أدمغتنا وتنظيم حياتنا

إن أهمية اللغة والتواصل تساوي أهمية الغذاء والماء في حياتنا؛ لأننا نتواصل لتبادل المعلومات وإقامة العلاقات وصناعة الفن. وفي ظل هذه الميزة سنرى كيف تعمل اللغة في الدماغ وكيف تنظّم حياتنا اليومية.

جميعنا ولدنا في محيط يتحدث بلغة ما، وبذلك أصبحت لغتنا الأم تلقائيًا. وفي رحلتنا الحياتية قد نكتسب لغة أو لغات أخرى إضافية والتي من خلالها تتكون لدينا القدرة للانفتاح على ثقافات وتجارب جديدة. إن اللغة مسألة معقدة وتتشابك مع مسائل كالهوية والبلاغة والفن.

وكما يلاحظ المؤلف Jhumpa Lahiri متأملًا في روايته  الأراضي المنخفضة: “ما اللغة والهوية والمكان والوطن إلا قطعة واحدة -وهي عناصر مختلفة فقط من حيث الانتماء واللاانتماء.”

ولكن كيف طوّر أجدادنا اللغة المحكية؟ ما هي مراكز اللغة في الدماغ؟ وكيف يؤثر تعدد اللغات على عملياتنا العقلية؟ سوف نتفحّص هذه الأسئلة وأكثر عن الدماغ واللغة في هذا المقال.

ما الذي يميز لغة البشر عن غيرها؟

متى ظهرت اللغة المحكية كأداة للتواصل؟ وبماذا تختلف عن الطرق التي تتواصل بها الحيوانات؟

يشرح البروفيسور Mark Pagel من قسم العلوم الحيوية في جامعة Reading في المملكة المتحدة في مقالة خاصة كتبها على هيئة “سؤال وجواب” لصحيفة BMC Biology:

إعلان

“إن لغة الإنسان لظاهرة فريدة ونادرة في المملكة الحيوانية. فبينما تمتلك الحيوانات رموزًا خاصة للتواصل فيما بينها- للدلالة مثلًا على وجود خطر، الرغبة في التزاوج، أو وجود طعام- فإن هذه الرموز تعتبر “أفعال وسيلية تكرارية” والتي تفتقر للبنية الرسمية لنوع اللغة التي تستخدمها البشر عندما ينطقون الجمل.”

وبالمقارنة، يضيف البروفيسور بيجال بأن لغة الإنسان لها ميزتان وهما:

  1. أنها تركيبية، أي: “أنها تسمح للمتحدثين بالتعبير عن أفكارهم بجمل تتركب من فعل وفاعل ومفعول به.”
  2. أنها مرجعية، أي: “أن المتحدثين يستخدمونها لتبادل معلومات معينة بالإشارة إلى الناس، أو الأشياء، أو المواقع، أو الأفعال.”

 أصل اللغة وأهميتها

وكأناس عاقلين، فإننا نمتلك الأدوات البيولوجية الهامة والتي تمكننا من نطق البنية المعقدة التي تكوّن اللغة، وجهاز النطق، وبنية الدماغ المعقدة والمتطورة بشكل كافٍ يسمح بابتكار مفردات متنوعة ومجموعة قواعد محددة تمكننا من استخدام اللغة بشكلها الصحيح.

ورغم أن النقطة التي بدأ عندها أجداد الإنسان الحديث بتطوير اللغة المحكية يبقى لغزًا، إلا أننا نعلم أن سلف الانسان العاقل ظهر قبل حوالي 150,000-200,000 سنة. لذلك يوضح البروفيسور Pagel بأن الكلام المعقد ظهر منذ ذلك الحين.

ومن المحتمل أيضًا أن معالجة اللغة المحكية قد ساعد أجدادنا على البقاء والنجاح أمام قساوة الطبيعة.

كل الامتنان لهم من ناحية قدرتهم على إيصال أفكار معقدة، ويقول البروفيسور Pagel:

“يستطيع الإنسان التكيف على المستوى الثقافي مكتسبًا المعرفة، ومنتجًا للأدوات، والمأوى، والملابس، وأشياء أخرى يحتاجها للنجاة في الموائل المتنوعة.”

كما يضيف:

 “يمتلك البشر شيفرة عالية الدقة لنقل معلومات مفصلة للأجيال القادمة، والعديد من الأشياء التي نستفيد منها في حياتنا اليومية تعتمد على المعرفة المتخصصة أو المهارات التي ننتجها.”

اللغة في الدماغ

السؤال هنا: أين تقع اللغة تحديدًا في الدماغ؟

لقد استطاع الباحثون تحديد مركزين أساسيين للغة في الشق الأيسر من الدماغ. ويُدعى المركز الأول بمنطقة بروكا والتي تتمثل مهمتها في توجيه العمليات التي تقود لنطق الكلام، بينما يُدعى المركز الثاني بمنطقة فيرينك ودورها الرئيسي هو فك شيفرة الكلام. وإذا تعرّض أحد الأشخاص لإصابة في الدماغ نتج عنها تلف إحدى هاتين المنطقتين، فستضعف قدرته على التحدث واستيعاب ما يقال حوله.

ومع ذلك فقد بينت أحد الأبحاث الحديثة بأن تعلم لغات أخرى -أي تعلمها بشكل متقن- سيؤثر على الدماغ من خلال زيادة حجم ونشاط مناطق معينة فيه منفصلة عن مراكز اللغة التقليدية.

وفي دراسة أجراها باحثون من جامعة Lund في السويد، تبيّن أن طلاب اللغات الملتزمين قد خبروا نموًا في قرن أمون -وهي منطقة في الدماغ مرتبطة مع التعلم والتنقل المكاني- كما خبروا نموًا في أجزاء من القشرة المخية أو الطبقة السطحية من الدماغ.

علاوةً على ذلك، وجدت دراسة –سبق وغطتها صحيفة Medical News Today– دلائل تشير إلى العلاقة الطردية بين تعلم لغات أكثر-خصوصًا في مرحلة الطفولة- ومرونة الدماغ في معالجة وحفظ معلومات جديدة.

على ما يبدو أن تعلم اللغة يساعد في تحسين امكانيات خلايا الدماغ لبناء رابط جديدة بشكل أسرع.

آثار ثنائية اللغة على الفرد

في الحقيقة، استطاع العلماء إيجاد الروابط بين ثنائية أو تعددية اللغة والمحافظة على صحة الدماغ. وبينت العديد من الدراسات أن ثنائية اللغة تستطيع أن تحمي الدماغ ضد مرض الزهايمر وأشكال أخرى من الخرف.

ففي إحدى الدراسات بهذا الخصوص، قام علماء من جامعة Edinburgh في المملكة المتحدة ومؤسسة نظام للعلوم الطبية في حيدر آباد في الهند بالعمل مع فريق من الأشخاص المصابين بالزهايمر، أو الخرف الوعائي، أو الخرف الجبهي الصبغي.

ولاحظ الفريق بأن أولئك الذين تحدثوا بلغة ثانية، فإن بداية الخرف -بأنواعه الثلاثة المستهدفة في الدراسة- قد تأخرت لمدة 4.5  سنوات معهم.

“وتشير هذه النتائج إلى أن ثنائية أو تعدد اللغات قد يكون له أثر أقوى على الخرف من أي دواء تم اختراعه”، كما يقول Thomas Bak  أحد المساهمين في الدراسة.

وفي دراسة أُخرى ظهرت نتائجها العام الماضي في مجلة Neuropsychologia سلّطت بعض الأضواء على السبب الذي يجعل ثنائية اللغة درعًا ضد القصور الإدراكي.

يقول مؤلفو الدراسة بأن هذا يعزى كون التحدث بلغتين يساهم بتطوير الفصوص الصدغية في الدماغ والتي تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل ذكريات جديدة، كما وتزيد من سمك القشرية وكثافة المادة الرمادية والتي تتألف بشكل كبير من الأعصاب. ولثنائية اللغة فوائد أخرى، مثل: تدريب الدماغ على معالجة المعلومات بشكل فعال بينما بالمقابل يستهلك فقط المصادر الضرورية لتأدية المهام القريبة.

كما استنتج باحثون من جامعة Université de Montréal في كندا ومنهم البروفيسورة Inés Ansaldo بأنه: “يصبح الشخص ثنائي اللغة خبيرًا بعملية اختيار المعلومات المرتبطة بالمهام وتجاهل المعلومات التي قد تعطّلها أو تشوشها.”

كيف تغير اللغة طريقة فهمنا؟

ومع ذلك، هل يؤدي التنقل بين لغات مختلفة لتغيير إحساسنا وتجربتنا للعالم المحيط؟

وقد كتبت الصحفية فلورا لويس في مقال رأي لصحيفة The New York Times بعنوان “فجوة اللغة” حيث كتبت:

“خلاصة وجهة نظري كالتالي: ما اللغة إلا الطريقة التي يفكر ويتكلم بها الناس على حد سواء. إن استخدامها يكشف المواقف غير المتعمدة، كما أن الناس الذين يستخدمون أكثر من لغة يجدون أنفسهم مرارًا وتكرارًا يفكرون بأنماط مختلفة وتتغير ردود أفعالهم بناءً على ذلك.”

ويؤكد بحث متأخر بأن تقييمها بلا ريب صحيح -حيث إن اللغة التي نستخدمها لا تقتصر مهمتها على تغيير طريقة تفكيرنا والتعبير عن أنفسنا، بل وعلى طريقة فهمنا وردود أفعالنا تجاه العالم.

على سبيل المثال، في دراسة منشورة على صحيفة Psychological Scienceقامت بوصف الطريقة التي يميل بها ثنائيو اللغة المتحدثين بالإنجليزية والألمانية لفهم ووصف السياق بشكل مختلف بالاعتماد على اللغة التي ينغمسون فيها بلحظة معينة.

فعندما تكلم المشاركون بالألمانية كانوا يميلون لوصف أي حدث بعلاقته بهدف معين. على سبيل المثال “ذلك الشخص يتجه لذلك المبنى”. بالمقارنة، عندما تكلم نفس المشاركون بالإنجليزية كانوا فقط يذكرون الحدث، مثال: “ذلك الشخص يمشي”.

“اللغات أشياء حية”

ما زالت Lera Broditsky- البروفيسور المساعد في قسم العلوم الإدراكية في جامعة كاليفورنيا، سان دييجو، والمتخصصة أيضًا في مجال العلاقة بين اللغة والدماغ ومفهوم العالم لدى الشخص- تقدم تقاريرَ تتضمن نتائجَ متشابهة.

ففي خطاب لها على منصة TED عام 2017، قامت Lera Broditsky بتوضيح نقاشها الذي يدور حول التأثير الكبير للغة على فهمنا للعالم. واستخدمت كمثال قبيلة Kuuk Thaayorre الأسترالية والتي يستخدم أفرادها الاتجاهات السماوية الأربعة لوصف كل شيء.

وتؤكد قائلةً: “عندما أقول كل شيء فأنا أعني حرفيًا كل شيء، فيقولون مثلًا: “أوه! هناك نملة على الجنوب الغربي من قدمك” أو “أزح كأسك شمال شرق قليلًا”.

هذا يعني أنه عند سؤالهم بأي اتجاه يمشي الوقت فإنهم يرونه بالنسبة للاتجاهات الأربعة. لذلك فهم على عكس الأمريكيين والأوروبيين الذين يقومون عادة بوصف الوقت بتوجهه من اليسار لليمين، أي بالاتجاه نفسه الذي يقرؤون ويكتبون فيه؛ فتصف هذه القبيلة الوقت بتحركه من الشرق إلى الغرب.

وتقول Lera Broditsky:

 “إن جمالية تنوع اللغات تكمن في كشفها لحقيقة كم هي ماهرة ومرنة أدمغة الإنسان حيث إنها لم تبتكر عالمًا إدراكيًا واحدًا، بل 7000 عالم بعدد اللغات المحكية بالعالم، كما أننا نستطيع ابتكار أكثر من ذلك. اللغات هي أشياء حية، أشياء باستطاعتنا شحذها وتغييرها لتتناسب مع احتياجاتنا.”

تمتلك اللغة هذا القدر من السيطرة على كل من أدمغتنا، وعمليات اتخاذ القرار، وحياتنا. وتختتم Broditsk بِحثّنا على الأخذ بعين الاعتبار كيف نستطيع استخدامها لتشكيل الطريقة التي نفكر من خلالها بأنفسنا وبالعالم.

إعلان

مصدر MEDICALNEWSTODAY
فريق الإعداد

إعداد: رؤى ريان

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

اترك تعليقا