دواعش عبر التاريخ.. ماكسميليان روبسبير نموذجًا

سفاح فرنسا المستبدّ من الفقر وحتى الإعدام

“لم -ولن- أخطئ أبدًا”
_ روبسبير

كل الطغاة والمستبدين والمتطرفين والمتشددين والإرهابيين، والمجانين أيضًا، ينطقون دائمًا هذه العبارة: لم -ولن- أخطئ أبدًا؛ حتى وإن لم ينطقوها بلسان المقال فإنهم دائمًا يكررونها ويؤكدونها بلسان الحال. هذه البوابة الذهبية، وذلك الباب الملكي الذى يعبر منه أي طاغية متطرف، من حالة القلق وتأنيب الضمير واللوم النفسي، إلى حالة الراحة التامة واليقين الكامل وموت الضمير وصمته للأبد.

هذه الكلمات الأربع كانت سببًا في موت الآلاف والآلاف على يد هذا السفاح روبسبير، موضع الحديث وموضوع المقال.

لن أسهب كثيرًا فى تفاصيل حياة هذا السفاح، فليس هذا موضوعنا وليس هذا محط الاهتمام، وإنما نهتم به نموذجًا لكل مستبد طاغية سفاك للدماء من أجل أفكاره ومن أجل رؤيته للحكم والحكومة.

وُلد روبسبير لأسرة فقيرة يعولها أب مسرف مدمن كحول، وماتت أمه أثناء طفولته فنشأ الفتى في وسط مفعم بالألم والحسرة والإهمال والفوضى، ولكنه كان فتىً ألمعيًّا مُفَوَّهًا، سريعَ الخاطرة، حاد الذكاء، واسع الاطلاع؛ فتم اختياره لإلقاء كلمة في حفل تتويج الملك لويس السادس عشر عام 1775، وكان وقتذاك لم يكمل عامه السابع عشر. لفتت فصاحته وبلاغته الأنظار، فتم اختياره عضوًا بالجمعية الوطنية التأسيسية المكونة من ممثلي الشعب، وذلك إبان الثورة الفرنسية عام 1789، ثم ترأس حزب اليعاقبة المعارض بشدة للملكية والمتطرف في كل آرائه.

حينما قامت الثورة ووصل الثوار لقصر الملك قال روبسبير لمندوب الملك: “قل لسيدك الملك: إننا هنا بأمر الشعب ولن نتزحزح من أماكننا إلا على أسنة الرماح”

إعلان

انتُخِب مندوبًا لباريس في المؤتمر الوطني، وفيه كان يحرض دائمًا على إعدام لويس السادس عشر هو وعائلته بقوله: “يجب على لويس أن يموت، لأن الأمة يجب أن تعيش”

مع أن هذا السفاح نفسَه كان ينادى ويناضل -من قبل- لأجل وجوب إلغاء عقوبة الإعدام؛ قال ذات مرة: “إن عملية حزّ المنتصر لرؤوس أسراه هي عمل يتصف بالبربرية؛ أمر وحشيٌّ أن تذبح طفلًا ضالًّا يمكن إصلاحه ومعاقبته”.

تخيل -عزيزي القارئ- أن هذا الرجل، المناضل من أجل الحرية والمنادي بالعدالة والمساواة وإلغاء الإعدام، هو نفسه من كان ينادى بإعدام كل من يعارض أفكاره وآراءه، وكل من يشك -ولو للحظة- في أنه مخالف لآرائه وطروحاته.

في عام 1792 عُين عضوًا في الهيئة التنفيذية العليا ولجنة الأمن العام، فبدأ ما يُعرف تاريخيًّا بـ “عهد الإرهاب”، إذ كان الإعدام الفوري هو العقوبة السائدة لمجرد الشك في الشخص المتهم، أو الوشاية به، أو التلفظ بكلمة أو الإتيان بحركة يفسرها البعض على أنها تعاطف مع الضحايا أو معارضة لتلك الوحشية!

أنشأ محكمة الثورة، وأصدر قانونًا سُمِّي “قانون الاشتباه”، وكانت التهم الجاهزة هي الخيانة، وسب الثورة، وبث روح اليأس لدى المواطنين، وترويج الأخبار الكاذبة، وإفساد الضمير العام، وتعكير براءة وطهارة الثورة. التهم ذاتها، والمفردات ذاتها -تقريبًا- في كل أنظمة الطغيان والاستبداد.

بدأ روبسبير بأقرب الناس إليه، زملاء الثورة ورفاق الكفاح: دانتون، هيبير، ديمولان.

وبدأت تسيل الدماء وتُزهَق الأرواح من أجل الثورة والنقاء الثوري، حتى إنه أعدم بالمقصلة نحو 16 ألف ضحية فى 9 أشهر فقط، وأعدم نحو 6 آلاف ضحية في 6 أسابيع، أي بمعدل ألف ضحية أسبوعيًّا، أي أكثر من 130 يوميًّا؛ وبلغ به التوحد والعنف أنه كان يقول: “سأجعل خط الحدود بيني وبين أعداء فرنسا من حولنا نهرًا من الدماء”. وكان روبسبير يعتقد أن الرؤساء الصوريين للنظام القديم خصوم ناشطون ضد الثورة، ويعملون على تفكيكها واغتيال جنودها، فكتب يقول: “إذا كان ربيع الحكومات الشعبية وقت السلام هو الفضيلة، فإن ربيع الحكومات وقت الثورة هو الفضيلة والإرهاب؛ الفضيلة التي بغيرها يكون الإرهاب مميتًا، والإرهاب الذي بغيره تكون الفضيلة عاجزة، ليس الإرهاب سوى العدالة عاجلةً، صارمةً، حازمةً، فهو -بالتالي- انبثاق من الفضيلة، فهو ليس بالمبدأ الخاص بقدر ما هو نتيجة للمبدأ العام، للديمقراطية، مطبقًا على أشد احتياجات بلادنا إلحاحًا”.

أرأيت كيف كان الإرهاب انبثاقًا من الفضيلة ونتيجةً للديمقراطية؟!

الأكاذيب ذاتها والمغالطات ذاتها.
ثم يقول مرةً أخرى: “دعوا المستبد يحكم بالإرهاب أتباعه المتوحشين، فهو مُحق كمستبد؛ أخضعوا بالإرهاب أعداء الحرية، حكومة الثورة هي استبداد الحرية ضد الطغيان. هل صُنِعت القوة من أجل حماية الجريمة فقط؟”

وكان روبسبير رجلًا غريب الأطوار، يؤمن بكائن علوي يتخذه ربًّا ولا يؤمن بالأديان؛ وحاول فرض هذه الديانة الجديدة التي تقدس العقل فقام بتحويل 2400 كنيسة في أرجاء فرنسا كافةً إلى معابد لهذه الديانة الجديدة، وقام بقطيعة شاملة مع كل الموروث المسيحي الفرنسي الأرستقراطي، فغيَّر حتى أسماء الشهور والأيام، فمثلًا: قسّم العام لأربعة مواسم، في كل موسم ثلاثة شهور، وجعل الشهر ثلاثة اسابيع، في كل أسبوع عشرة أيام؛ وكان يطلق على أشهر الخريف أسماء: فنديمير وبرومير، ويطلق على شهور الشتاء: نيفيوز وبلوفيوز، وعلى شهور الربيع: جرمينال وفلوريال وبريريال، أما شهور الصيف فكانت: تترميدور وفروكتيدور.

في عام 1794، وفي ذروة عهد الإرهاب، أصدر روبسبير قانونًا سُمِّي بـ “قانون بريريال”، والذي يرفع بمقتضاه الحصانة عن أعضاء المؤتمر الوطني، وهو ما عدّه الكثيرون بمثابة تمهيد لمحاكمتهم وإعدامهم، فقام تاليان وباراس، زميلاه فى المؤتمر، بالتخطيط والاتفاق على خلعه والقبض عليه ومحاكمته وإعدامه.

تم تجميع عدد كبير من الجنود الذين حاصروا دار البلدية، حيث كان يخطب روبسبير في أتباعه، وهاجمته القوة العسكرية فحاول المقاومة والتحصن بالداخل، لكنه أُصيب برصاصة في فكه وقُبِض عليه وهو يصرخ من الألم، وحُبس في ذات الزنزانة التى حُبست فيها ماري أنطوانت قبل إعدامها. بعد سويعات قليلة اقتيد، هو واثنان من معاونيه، إلى المقصلة داخل عربة مكشوفة تجرها الخيول، بينما يتابعه الجمهور بالتصفيق والصيحات، وكانوا يقذفونه بالخُضَر والفاكهة المعطوبة. صعد على المنصة، ونزع الجلاد الضمادة التي حول فكه المصاب، فصرخ بشدة وفزع، ثم قُيّد من الخلف وأُرقِد على اللوح الخشبى، ومُدَّت رأسه وحُجِزَت بين قطعتي الخشب الدائريتين، وسقطت المقصلة لتقطع ذلك الرأس، وتُسكت ذلك اللسان، وتُنهي ذلك العهد.

تُرى كم روبسبير نقابله كل يوم، وكم روبسبير يعيش بيننا؟

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: محمد محمود

تدقيق لغوي: محمد ثروت

اترك تعليقا