خالد زيادة: كيف ارتبط بالسلطة؟ وكيف تناول ارتباط المثقف بالسلطة؟

لوحظ في الآونة الأخيرة انهيار مجتمعي على صعيد جميع المستويات التي يمكن القياس عليها، فنرى انحطاطًا أخلاقيًا ومعرفيًا ليس فقط على نطاق ضيق أو حالة محدّدة بل لقد امتدّ حتى وصل إلى كافة الأوطان العربية والإسلامية حتى أصبح مجرّد الحديث عن ذلك الحلم القديم حول وحدة عربية إسلامية واحدة تجتمع تحتها جميع الشعوب متعاضدين ومتكاتفين يدافعون جميعًا عن نفس الهوية ويتمتعون بالأخلاق الإسلامية الحميدة والراقية دربًا من الجنون والخيال لما أصبح جليًا من الانقسام والتشرذم والضياع بين أبناء تلك المجتمعات.
ولعلّ اشتعال الأزمات دائمًا يجعلنا نتساءل عمن بيده الحلّ، فإذا وقعت حادثة في مكان معين مدرسة كانت أو مشفى أو حتى حادثة مرورية أو غيرها يكون أول تساؤل يطرحه العامة “أين المسؤولون؟” أين مدير المدرسة أو وزير النقل؟ ولكن في مثل حالتنا تلك على من يقع التساؤل؟ إذا واجه المجتمع مثل ذلك الانحطاط فعلى من تقع مسئولية الإصلاح؟

في حقيقة الأمر فإنّ أول تساؤل يدور في الذهن هو “أين المثقفون؟” أين طبقة منتجي الأفكار التي من شأنها إصلاح المجتمع وإكسابه الوعي الصحيح لتجاوز الازمة؟ في كتابه كراسات السجن تناول غرامشي في أحد أجزائه دور المثقفين وربطه بإكساب الوعي للطبقة العاملة بالمرحلة التاريخية التي هم فيها وتمكينهم من الانتقال إلى المرحلة التاريخية التالية، وعلى الرغم من اختلاف المسألة هنا إلّا أنّ ذلك الدور “إكساب الوعي” أيًا كانت الطبقة المستهدفة هو ركيزة أساسية في دور المثقف لدى بعض المفكرين والفلاسفة.

ولكن على الجانب الأخر فقد تبنى مفكرون أخرون علاقة ذلك المثقف بالسلطة وكيف ارتبط بها فيؤيّدها أم يعارضها؟ أم يكتفي بالصمت والحديث عن قضايا أخرى جانبية، وبما أنّ الأزمة التي تم الإشارة إليها ها هنا تقع ضمن نطاق العالم العربي والإسلامي فكان من المنطقي اختيار كاتب ينتمي لنفس الأصل لتقريب وجهات النظر ورؤية كيف يمكن للمثقف العربي الذي ينتمي ويعايش تلك الأزمة أن يصف دور تلك الطبقة المنتجة للأفكار وكيف ارتبط بالسلطة أو وصف ذلك الارتباط، وقد وقع الاختيار على المفكّر اللبناني العريق “خالد زيادة” وذلك حيث كان قد جمع في حياته بين الخبرة العملية والمعرفية في علاقة الكاتب بالسلطة فهو قد ارتبط بالعمل الدبلوماسي في فترة من فترات حياته كما تناول علاقة المثقف بالسلطة في مؤلفه “الكاتب والسلطان” فقد جديرًا بتلك المراجعة.

السيرة الذاتية لخالد زيادة

ولد خالد زيادة في عام 1952 في مدينة طرابلس عاصمة محافظة الشمال بلبنان والتي تلقب بعدة ألقاب مثل أم البساتين والفيحاء وعروس الثورة والتي ارتبط بها زيادة كثيرًا وهو ما تم ملاحظته في أحاديثه عنها في لقاءاته المختلفة، كما قد درس في مدارسها الرسمية وانتسب إلى قسم الفلسفة في كلية الآداب في الجامعة اللبنانية ثم أكمل دراسته خارجًا حيث حصل على الإجازة في الفلسفة في جامعة السوربون في باريس كما حصل على الدكتوراه عام 1980.

بدأ زيادة مساره في الشق الأكاديمي بالتدريس في معهد العلوم الاجتماعية بعد حصوله على الدكتوراه حيث قضى هناك ما يقرب من الخمس وعشرين عام بدأت من 1980 وحتى العام 2007 وقد تولّى في تلك الفترة أيضًا مديرًا لكلية الآداب والعلوم الإنسانية – الفرع الثالث في عام 1985 أي بعد خمس أعوام فقط من بدأه رحلته التعليمية، كما أمضى سنة بحثية في برلين بألمانيا بدعوة من معهد الدراسات المتقدمة عام 1997 -1998.
وقد تنوعت أعمال خالد زيادة بين المؤلفات العلمية والأدبية والتي منها “المدينة العربية والحداثة 2019″ و”مدينة على المتوسط 2018″ و”المسلمون والحداثة الأوروبية 2017″ و”سجلات المحكمة الشرعية – الحقبة العثمانية-المنهج والمصطلح 2017″ و”الكاتب والسلطان 2013″ و”حكاية فيصل 1999″ و”الخسيس والنفيس 2008” و”العلماء والفرنسيس 2008” والتحقيقات والتقديمات والتراجم والتي كان منها ترجمة وتحقيق وتقديم: سفارة نامة فرانسة، لمحمد جلبي أفندي، صدر تحت عنوان: “جنة النساء والكافرين 2017″ و”تقديم وتحقيق: رؤى وعبر، سيرة الشيخ حسين الجسر، للشيخ محمد الجسر 2013″ و” تقديم وتحقيق: عبرة وذكرى، الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده، لسليمان البستاني 1978″ وغيرها من التقديمات والتراجم الثمينة.
لم يكن زيادة مجرّد مؤلّف غزير الإنتاج بل كان مفكرًا ومؤرخًا وباحثًا اجتماعيًا حيث عرف بين قراءه بالمؤرّخ والمنقّب عما هو خفي في الوثائق العتيقة والمخطوطات، مما جعله يتلقّى العديد من الشهادات والإشادات من مختلف الكتّاب العرب والغرب وجعلت مؤلفاته مسرحًا للدراسة والتمحيص وإعادة القراءة لما فيها من أهمية.

إعلان

موقع خالد زيادة من السُلطة

شغل الدكتور خالد زيادة منصب سفير لبنان لدى جمهورية مصر العربية والمندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية في الفترة من عام 2007 حتى عام 2016. خلال هذه الفترة، لعب دورًا مهمًا في تعزيز العلاقات الثنائية بين لبنان ومصر، بالإضافة إلى تمثيل لبنان في المحافل العربية الرسمية، خاصة في جامعة الدول العربية.
خلال فترة توليه هذا المنصب، لم يقتصر دوره على العمل السياسي والدبلوماسي التقليدي، بل أولى اهتمامًا كبيرًا للعلاقات الثقافية اللبنانية المصرية، معتبرًا إياها امتدادًا طبيعيًا للعلاقات التاريخية والمجتمعية التي تربط البلدين، كما ساهم في تعزيز التبادل الثقافي والفكري بين لبنان ومصر، مستفيدًا من خلفيته الأكاديمية والفكرية وقد عبر عن تلك العلاقات قائلًا “إنّ العلاقات بين مصر ولبنان هي علاقات امتازت على الدوام بالتفاهم وتفهّم مصر لأوضاع لبنان، وتقوم بين البلدين لجنة عليا تجتمع برئاسة رئيسي الحكومتين وتنظّم سائر الشؤون وتعقد الاتفاقات والبروتوكولات”.

وقد أشار في أحاديثه إلى الدور الذي يجب أن يضطلع به الدبلوماسي حيث قال “بالرغم من تكويني الجامعي، إلّا أنني كنت على إدراك بأنّ الدبلوماسية ليست نظريات تطبّق بالرغم من القواعد الصارمة التي على السفير أن يلتزم بها تجاه صورته أولاً وتجاه الدولة التي يمثلها وتجاه الدولة المعتمد فيها”، وتابع: “المهمة الأولى للسفير هي أن يمثل مصالح بلده خير تمثيل وأن يدافع عن هذه المصالح، وأن يعمل على حسن العلاقة بين دولته والدولة التي هو في ضيافتها، ومهمات السفير لا تقتصر على حسن العلاقة بين البلدين فقط، بل من مهماته النظر في مصالح وأحوال مواطنيه في البلد الذي اعتمد فيه”.

الكاتب والسُلطان: من الفقيه إلى المثقف

في معالجته لمسألة العلاقة بين المثقف والسلطة ضمن كتابه الكاتب والسلطان، يفتتح خالد زيادة نصه بلحظة تاريخية مفصلية تتعلق بإحدى تجلّيات السلطة الشرعية والمعرفية كما تتجلّى في الفصل الأول بعنوان “أليسق العثماني”. حيث ينقل زيادة رأي الفقيه نجم الدين الغزي الرافض لمبدأ أليسق، واصفًا إياه بأنه “ليس من الشريعة بشيء، بل هو جهل بها، ومن عادات علماء الأتراك التي لا يعرفها ولا يقرّها علماء الشام ومصر”، معتبرًا أنّ العمل بأليسق كان بمثابة فتنة دخلت على الدين منذ قدوم الدولة العثمانية إلى مصر والشام.

أما الفصل الثاني والذي كان بعنوان “حرفة الفقهاء” فقد تناول فيه آلية طلب العلماء للعلم بجانب تناوله لتحليل الجهاز الديني في مصر وبلاد الشام حيث رأى أنّ الجهاز الديني يقوم على شبكة واسعة من الوظائف التي لابدّ من القيام بأعبائها حتى تستقيم الحياة الدينية كالأذان والإمامة والخطابة وغيرهم، وأما الفصل الثالث “مجالس المشورة”، فيرصد فيه زيادة الموقف السياسي للعلماء في سياق الحملة الفرنسية على مصر، مبرزًا كيف كانوا يميلون إلى المماليك أكثر من العثمانيين، إلّا أنهم بعد خروج الفرنسيين وانهيار سلطة المماليك، اختاروا الانكفاء والابتعاد عن المشهد العام حفاظًا على امتيازاتهم وقد أدى هذا التراجع منح محمد علي فرصة لتوطيد سلطته دون شراكة العلماء، الذين أُقصوا تدريجيًا من دورهم الأهلي الوسيط.

وفي الفصل الرابع، “كاتب السلطان”، يعرض زيادة تحوّل الكاتب من مجرد موظف ديواني إلى صاحب رأي، حيث كان الكتّاب في القرن السابع عشر يقدمون مشورات وتوصيات للوزراء والسلاطين، مستندين إلى مصادر معرفية جديدة، بما يتجاوز مهماتهم التقنية في الخطّ والحساب. فيعبر بذلك عن الانتقال في بنية الدولة من مجرد جهاز بيروقراطي تقليدي إلى منظومة أكثر تعقيدًا، تحتاج إلى أدوات تحليلية واستشارية تتجاوز الوظيفة التقليدية، أما الفصل الخامس “شريك الرأي”، فيجادل زيادة حول انتقال الكاتب من مجرد محاسب أو صراف أو مدبر لشؤون الأمير إلى مستشار للأمير أو للملك مما عنى ارتفاع مكانة مهنة الكاتب وشأنه.

أما في الفصل السادس فيُحلّل زيادة كيف أنّ المثقف العربي الحديث لم ينشأ كتطوّر داخلي في المجتمعات الإسلامية، بل نتيجة قطيعة تاريخية مزدوجة: مع الماضي، حيث انهارت شرعية العلماء ؛ ومع الحاضر الاستعماري، حيث فُرضت الحداثة كأمر واقع، فيستشهد برأي رئيف خوري حول بداية القطيعة والتي بدأت مع الثورة الفرنسية وحملة بونابرت على الشرق فيرى فيها رمزًا ومغزى، فهي التي ستوقظ الشرق على حدّ تعبيره، وعلى الرغم من حدوث القطيعة إلّا أنها من جهة أخرى قد أخفت وجهًا آخر لها وهو الاتصال بين عالمي الغرب الأوروبي والشرق الإسلامي عن طريق مؤثرات الثورة الفرنسية أو الفكر الأوروبي عامة، ويعرض زيادة بعض أسماء الذين حسبهم في عداد المثقفين في العالم العربي، بحثًا عن ماهية المثقف، أمثال أسعد داغر وإلياس أبو شبكة ومنير موسى وألبرت حوراني وهشام شرابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، ليبدو له أن ظهور المثقف، تبعًا للمحاولات التي عرضها، أتى نتيجة تلك القطيعة بين الماضي والحاضر بجانب تلك القطيعة التي اعلنها الجابري بين الشرق والغرب.

وقد استمر الكاتب باستعراض الأنماط التي صار عليها المثقفين في المراحل التالية في التاريخ تحديدًا التاريخ المصري فتناول تجربة محمد علي ومشروعه الخاص في بناء دولة مستقلة بعيدًا عن قرارات الخلافة العثمانية مما أدى إلى بناء دولة استبدادية تسيطر على المدى الجغرافي المصري دون وساطة وبالتالي فهي لا تتماثل مع “الدولة الأمة” في أوروبا إلا في المظهر، وقد أتم ذلك عن طريق عزل العلماء وضرب الملتزمين في الريف وإلحاق الحرف بالصناعة وإلحاق المتعلمين بأجهزة الدولة مما عنى أن دولة المستبد المتنور والمتمثلة في شخص محمد علي هي نموذج مسبق للدولة المركزية التي تسيطر على المجتمع بأداتها العسكرية ولا تمهّد لنمو رأسمالي مما ترتّب عليه إشارة خالد زيادة إلى هذا النموذج على أنه نموذج أولي لانفصال الدولة عن المجتمع وانقطاعها عنه.
ومن جملة ما ذكرنا في الفقرة السابقة كان إلحاق المتعلمين بأجهزة الدولة وهو ما برز كثيرًا في نموذج رفاعة الطهطاوي الذي كان واحدًا من مئات المصريين الذين درسوا في مختلف العواصم الأوروبية وتعلموا على أيدي الخبراء الأجانب في مدارس محمد علي، فكان واحدًا من المتعلمين والمتخصصين في شئون الجيش والإدارة والطب والهندسة وما إلى ذلك وهم الذين سيّروا أجهزة الدولة وارتبطوا بها بعد أن حلّوا مكان طبقة الكّتاب القديمة.

وقد أشار زيادة إلى الاختلاف في نقطة الارتكاز التي ظهر عليها المثقف بين مصر والشام، ففي الأولى كانت الدولة ترعى بأبوتها إعداد المتعلمين الجدد وتعود لتستوعبهم في مؤسساتها، وقد كان عدد هؤلاء المتعلمين غير كافٍ لإشغال جميع المراكز الإدارية ومع تراجع العملية التعليمية في الفترة الاستعمارية غير أنّ ارتباط المتعلم بأجهزة الدولة ظلّ على حاله ويمكن القول حسب تعبير الكاتب أنّ المتعلّم بجهاز الدولة لا يعي نفسه إلّا من خلالها ومن خلال التماهي معها فيغيب وعيه بنوع الجماعة التي تتشابه معه في أوضاعها؛ أما الوضع في سوريا فقد أخذ منحى مغايرًا حيث أخذت تجارب التحديث في سوريا في الإخفاق المتواصل ولم تكلّل بالنجاح إلّا بدفع من الخارج ومساعدات غير محلية تمثلت في مصر قبل سنة 1840 وتركيا بعدها، بالإضافة إلى أنّ الوظائف الإدارية تم منحها للعلماء وأبنائهم وأبناء التجار والوجهاء المدنيين من مسلمين وغير مسلمين مما عنى أن المتعلمين الذين أنهوا تحصيلهم في المدارس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ما كانوا ليجدوا لهم مراكز في أجهزة الدولة مما جعلهم يتجهون إلى ممارسة التعليم كوظيفة في المدارس التي تخرجوا منها أو إلى أعمال التجارة وخدمة القناصل الأوروبيين بالإضافة سفر البعض منهم إلى مصر في محاولة للدخول في خدمة العاهل والحكومة.
وبعد أن استعرض زيادة التطوّر التاريخي لظهور فئة المثقفين ومكانتها فقد أشار إلى سبب ظهوره حيث ذكر قائلًا: “إنّ ظهور المثقف يأتي على مستوى الوعي حين يدرك المتعلم التناقض بين معارفه وعلومه، وبين دوره في المجتمع والدولة. وعلى المستوى الواقعي، فإنّ ظهور المثقّف يأتي نتيجة لعجز المتعلم عن الانخراط في جسد الدولة، وبمعنى أدقّ غياب الدولة المتجسّدة في تصوراته. إضافة إلى ذلك، فإن هؤلاء المتعلّمين يعجزون عن إيجاد تضامن حرفي والانخراط في وظيفة محددة، على غرار ما كان عليه العلماء في أجهزتهم الفقهية، أو الكتّاب في حرفتهم الديوانية”، وقد شبه زيادة المثقف بالكاتب الديواني الذي خسر وظيفته حيث إنّ العلم الذي لديه لا يصلح إلا إذا وضع في خدمة مشروع، أو حسب تعبير الطهطاوي، في خدمة الدولة خالقة المشاريع والجالبة للمصالح، وأضاف أنّ المثقف ليشعر بعزلة مضاعفة حيث لا يشكّل مع أقرانه سوى أقلية ضئيلة فضلًا عن أن العلوم والمعارف التي يحملها تبدو غريبة في البيئة التي يعيش فيها. فيسعى بذلك إلى إيجاد أشكال تضامن بديلة وأولية، وتدعو تلك التجمعات من المثقفين نفسها ب “حملة الأقلام” فيتشابهون بذلك مع كتّاب الديوان، غير أنّ أهدافهم تعد أدبية وتربوية أكثر منها راديكالية أو تسعى للتغيير.

بالإضافة إلى ذلك فإنّ المثقف كان يرسم نموذجًا لدولة عصرية يضعها بالدرجة الأولى في مواجهة الوعي المديني لدى العلماء، حيث كان الأخيرين أسيري أجهزتهم المعرفية مما أدى إلى بزوغ الأفكار التي أتى بها مفكري نهاية القرن التاسع عشر فتستقطب الأنصار وتحل محل الوعي المديني ذلك فينتصر بذلك مفهوم الدولة على المدينة، مما يعني حدوث قطيعة ثالثة – بجانب القطيعة بين الماضي والحاضر والقطيعة التي عبّر عنها الجابري – بين العروبة التي يؤيّدها العلماء من جهة وبين مبدأ القومية من جهة أخرى، فيتم بذلك استبدال عروبة الثقافة بقومية علمانية تقوم على أساس اللغة والإطار الجغرافي للدولة الوطنية.
وقد قامت ما تسمى طبقة الإصلاحيين في القاهرة ثم الشام في سبعينيات القرن الماضي حيث شاركوا أقرانهم من الليبراليين والعلمانيين في النشاطات المتشابهة مثل الاهتمام باللغة وتكوين حلقات النقاش وتأسيس الجمعيات التربوية وحتى إنشاء الصحف والنشرات، وقد سعى الإصلاحيون إلى إيجاد أشكال تضامن بديلة خصوصًا بعد انكفاء أجهزة العلماء التي وجدوا أنفسهم خارجها أو على هامشها وبذلك يكون قد نشأ لدينا نموذج جديد للعالم يُنسب في وصفه إلى الدعوة التي يدعو إليها فيسمى بـ “الإصلاحي” تمييزًا له عن الفقيه التقليدي.
وقد أشار الكاتب إلى الصراعات التي خاضتها الإصلاحية حيث تمثل أولها في الصراع ضدّ الأجهزة الفقهية والطرق الصوفية حيث يجادل الإصلاحيين بشأن ابتعاد الطرق الصوفية عن تعاليم الإسلام وعجزها عن رفع مستوى حياة المسلم وعن الانفتاح والتجديد، وتقابل تلك الاتهامات نظيرتها من الأجهزة الصوفية التي لم تتورع عن اتهام الإصلاحيين بإثارة الفتن؛ أما الصراع الأخر فكان مع الأفكار الليبرالية والغربية حيث جادل الإصلاحيون حول إثبات مدى ملاءمة الإسلام للعصر، غير أنّ زيادة قد أثار نقطة هامة في هذا الشأن حيث عبر عن قصور الإصلاحية في مجابهة العلم الحديث حيث كانت تستخدم المناهج الكلامية التقليدية في دفاعها، مدللًا على رأيه بآراء العروي الذي يشير في ملاحظته إلى أن هؤلاء المصلحين كانوا وكأنهم ينتظرون الآخرين حتى يحققوا اكتشافاتهم العلمية، ليتحققوا بعد ذلك من مطابقتها من عدمها لمبادئ الإيمان فهي بذلك تخطئ في تحديد منطق العلم الحديث الذي لا يعطي تفسيرات كاملة للظواهر الطبيعية، ولا يجيب عن الأسئلة التي يطرحها المؤمن.

وفي القسم الأخير من الكتاب أشار زيادة إلى ميل الدراسات إلى اعتبار الإصلاحية كردّ فعل على الغرب وأفكاره متناسين بذلك الأصول المعرفية لتأسيسها والصراع بينها وبين الأجهزة الفقهية وطرق التصوف، وعلى الرغم من أن ثنائية المثقف الليبرالي – الإصلاحي تم استخدامها لعرض الصراع بين الإسلام والغرب إلّا أنّ هناك الكثير من الأسس المشتركة بينهما فقد نشئا في نفس المرحلة والظروف نتيجة انحلال جماعات الكتّاب القلمية وانكفاء الأجهزة الفقهية وظهور الدولة كمبدأ مسيطر على المجتمع كما قد سعى كل منهما إلى إنشاء شبكته الخاصة من خلال الحركات والأحزاب السياسية على أنّ ذلك الشكل الأخير كان بمثابة المرحلة المتوسطة بين النشود نحو الدولة المثالية وبين تحقّقها.

وتبدو الدولة في هذا السياق كنقطة ارتكاز في نشأة المثقف في منتصف القرن التاسع عشر حيث يظهر بمظهر الناطق باسم الطبقات الحاكمة وقد لعب المثقف دور الوسيط ليس بين الطبقات ولا بين الدولة والمجتمع بل بين الدولة من جهة والثقافة الغربية من جهة أخرى باعتباره وسيط العلوم والحداثة فقد كان المتعلمون ينقلون العلوم القابلة للتطبيق والاستخدام ويضعونها في خدمة مشاريع السلطة السياسية ليأخذ المثقف بذلك شكل التقني وقد أقر المثقف في هذا السياق بأسبقية الدولة حيث حددت ميادينه وألحقته بمشاريعها حتى حين تستبعده فهو يعي ذاته مما يزيد من ارتباطه بمبدأ الدولة والتأكيد عليه، فيجعلها بذلك سابقة للمجتمع بل لا مجتمع بدونها.

وبما أنّ الحديث كان في أغلبه حول السياق المصري فإنه من الجيد التعرض لمقال أخر يتحدث عن رؤية خالد زيادة لأزمة المثقفين في مصر والتي عرضها في كتابه “مصر الثقافة والهوية” حيث يرى زيادة أن المفردات التي صاغها المثقف المصري حين تحدّث عن الحرية، كانت غالبًا مفاهيم نخبوية ومجردة، لم تجد لها امتدادًا فعليًا في أوساط الجمهور. بمعنى آخر، فإنّ الحرية التي يتحدث بها المثقف المصري لا تنبع من حاجة اجتماعية ملموسة، بل من اشتباك نظري مع الفكر الليبرالي الأوروبي، مما جعلها منفصلة عن الحسّ الشعبي. هذه الملاحظة، في عمقها، تعبّر عن أزمة تمثيل ثقافي يعيشها الخطاب النخبوي في العالم العربي، وهي امتداد للمسألة التي عالجها زيادة في الكتاب السابق، حين فصل بين وظيفة الكاتب/المثقف كناقل للشرعية أو منتج للمعنى، وبين تحوله إلى ذراعٍ للسلطة أو أداة تبرير رمزي.

وفي موضع آخر، يطرح زيادة رؤيته حول تراجع مفهوم “الدولة الوطنية” في الوعي الجمعي، ويرى أن هذا التراجع ليس فقط نتيجة لضغوط خارجية، بل أيضًا نتيجة لفشل داخلي في إنتاج معنى جماعي مشترك حول الدولة، بسبب فجوة بين المتخيّل الثقافي والممارسة السياسية. فالدولة في الوعي الشعبي لم تُقدم نفسها باعتبارها كيانًا راعيًا للحقوق، بل جهازًا متعاليًا، ما جعل الناس ينسحبون من المجال العام أو ينخرطون فيه على نحو مصلحي بحت، كما يشير إلى أن النخبة الثقافية في مصر، على اختلاف أطيافها، كانت دائمًا في موقع مأزوم أمام “الدولة” ككيان سلطوي: فهي إما تُعاني من التهميش أو تُستوعب داخل مؤسساتها دون أن تمتلك تأثيرًا حقيقيًا. مما جعل المثقف ينزلق من موقع الفاعل إلى موقع المتفرج أو المراقب، عاجزًا عن بلورة مشروع ثقافي قادر على خلق وعي عام وهو الذي شهد على أحداث الثورة المصرية في عام 2011 عن قرب فكان بذلك واضح الرؤية وقادر على رصد مشكلات المثقف بشكل دقيق؛ وقد لمح إلى ضرورة إعادة صياغة العلاقة بين المثقف والمجتمع، بحيث تُبنى على فهم واقعي للتحولات الاجتماعية، لا على استيراد شعارات جاهزة. وهو موقف منسجم مع أطروحته الأشمل حول المثقف العربي الحديث، بوصفه كائنًا مأزومًا يعيش بين المعرفة والسلطة، بين الاستقلال والتبعية، بين المشروع الذهني والواقع المنفلت.

نقد الطرح: هل اتفق الدور الذي قدمه زيادة في كتابه مع دوره كمثقف ارتبط بالسلطة؟

إنّ الدور الذي لعبه خالد زيادة في حياته كمثقف يتجاوز التوصيف الأكاديمي البحت، إذ يتجلّى في موقعه كمؤرخ يُنتج معرفة نقدية عن العالم العربي، وفي الوقت نفسه كشاهد على التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها المنطقة، سواء من موقعه الأكاديمي أو من خلال تجربته الدبلوماسية. وما يُميّز زيادة أنه لم يكن يومًا مثقفًا “دعويًا” أو “مباشرًا”، بل انشغل بتفكيك العلاقة بين الثقافة والسلطة بلغة تحليلية تتكئ على أرشيف تاريخي، ومعجم مفاهيمي هادئ.

ففي كتابه “الكاتب والسلطان” الذي تم عرضه، يرسم خالد زيادة سردية طويلة لتحوّلات الفاعل الثقافي في المجال الإسلامي، منذ لحظة الفقيه، مرورًا بكاتب الديوان، وصولًا إلى ما يسميه بـ “المثقف الإصلاحي”. فهذه السردية، وإن اتّخذت طابعًا تاريخيًا، إلّا أنها تحمل في بنيتها تأملًا في الحاضر، حيث يبدو المثقّف الحديث في موقع الالتباس والتناقض: فهو وريث تراث لم يعد صالحًا للشرعنة، وفي الوقت ذاته، عالق في أنظمة سياسية لا تعترف به إلّا كواجهة.

وعند النظر إلى دور خالد زيادة نفسه كمثقف معاصر، يمكن القول إنه يقترب من النموذج الذي رسمه نظريًا، لكن مع تحولات واضحة في موقعه العملي. ففي كتابه، غالبًا ما بدا المثقف إما مُقصًى عن الفعل السياسي أو خاضعًا للسلطة، في حين أن زيادة نفسه مارس دورًا دبلوماسيًا رسميًا (كسفير ومندوب للبنان في جامعة الدول العربية من 2007 إلى 2016)، ما يجعله في موقع تقاطع بين ما يُنظّر له وما يمارسه.

لكن هذا لا يعني تناقضًا مباشرًا أو نفيًا لصدقيته كمثقف. بل يمكن تفسير هذا التعارض الظاهري من خلال فهم المثقف، في تصور زيادة، كموقع دائم التوتر بين المعرفة والسلطة. لقد دخل خالد زيادة جهاز الدولة، لكنه لم يتخلّ عن إنتاجه المعرفي النقدي، بل واصل الكتابة والتفكيك والبحث، ولم يتحوّل إلى “مثقف السلطة” بالمعنى الذي أشار له في كتابه.
بمعنى آخر، فإنه يعترف ضمنًا في كتاباته بأنّ المثقف لا يمكنه أن يبقى نقيًا بالكامل أو خارج المعادلة السياسية. فالدولة الحديثة في العالم العربي تبتلع كل شيء، والمثقف إما أن ينخرط بحذر، أو يُقصى تمامًا. وما قام به زيادة ما هو إلا هذا الانخراط الحذر فقد دخل إلى أجهزة الدولة، لكنه لم يذُب فيها، بل احتفظ بمسافة معرفية ناقدة، واستمر في مساءلة البنى السلطوية التي تحيط بالمثقف، بل وتُعيد تشكيله.

الخاتمة

في مقاله “هل انتهى دور المثقف؟”، يُحلّل خالد زيادة التراجع التاريخي في مكانة المثقف العربي، مبينًا كيف انتقل من موقع الفاعل النقدي إلى موقع المقصي أو المُدجَّن ضمن منظومات السلطة، خصوصًا بعد صعود الأنظمة العسكرية التي قيدت الحريات وأخضعت المؤسسات الثقافية والجامعات والصحافة لرقابة صارمة. فيشير إلى أن المثقف لم يُضطهد دائمًا من الدولة، بل كثيرًا ما واجه ضغوطًا من المؤسسات الدينية، كما في حال طه حسين وعلي عبد الرازق؛ وقد أدّت هذه السياقات إلى إنتاج لغة ثقافية مفرغة ومنفصلة عن الناس؛ ما أفقد المثقف دوره التربوي والنقدي. ويختتم زيادة بتساؤل مفتوح حول ما إذا كان بإمكان المثقف اليوم استعادة وظيفته التاريخية في ظل وجود الاستبداد السياسي والهيمنة الأمنية المستمرة.

وعليه، فإن مشروع خالد زيادة الفكري لا يتوقّف عند حدود التأريخ لوظيفة المثقف كما هو الحال في أغلب كتاباته، بل يسعى إلى مساءلتها، وإعادة رسم موقعها من جديد في عالم عربي فقد الكثير من معالم التوازن بين القوة والمعنى؛ فهو مشروع يفتح الباب للتفكير في جدوى الكتابة، وفي شروط الفعل الثقافي، وفي إمكانيات المقاومة الرمزية في زمن التهميش والاستتباع. ومن هنا، فإن استعادة دور المثقف لا تمرّ فقط عبر إعادة النظر في علاقته بالسلطة، بل في كيفية إنتاجه للمعنى، وقدرته على مساءلة الذات والمجتمع والدولة بلغة مسؤولة، عقلانية، وغير امتثالية.


مراجع عربية:

Al-Arabiya العربية، خالد زيادة – مفكّر وباحث لبناني  الجزء الأول، (فيديو، منصة يوتيوب)، (23:31)، 19 مارس 2021، https://bit.ly/44NvBgz.

خالد زيادة، أسرة معهد العلوم الاجتماعية، مركز الأبحاث – معهد العلوم الاجتماعية الجامعة اللبنانية، https://crss-ul.com/post.php?id=307&cid=136 .

التجربة الدبلوماسية لسعادة السفير الدكتور خالد زيادة، جامعة الجنان، لبنان، 18 مايو 2016، https://www.jinan.edu.lb/pages/ar/news/234?utm_source=chatgpt.com .

– خالد زيادة، الكاتب والسلطان: من الفقيه إلى المثقف، القاهرة، الدار المصرية اللبنانية، 2013.

– “كاتب السلطان” لخالد زيادة: مقاربة تاريخية، العربي الجديد، 10 ديسمبر 2020، https://bit.ly/44NQPe6.

– سيد محمود، خالد زيادة: مصطلحات المثقفين المصريين عن الحرية لا تعني الناس، Independent عربية، 7 مايو 2024، https://bit.ly/4mpKoEf.

– عروبة 22، خالد زيادة، https://bit.ly/4k5hrvQ.

خالد زيادة، هل انتهى دور المثقف (2/2)، عروبة 22، 27 فبراير 2024، https://bit.ly/4dxEH3g.

مراجع أجنبية:

Motiaa Hallak, A Scholar Who Has Explored Arab History Widely, Al – Fanar media, June 25, 2018, https://bit.ly/4dCNuAX.

إعلان

اترك تعليقا