هل نحن أحرار؟
دائمًا ما كانت الإرادة الحرة مسألةً شائكةً عند فلاسفة العصر الحديث، وقد طرحت الكثير من الفرضيات والتأويلات حولها. وبالرَغم من اختلاف وتشعّب تلك الفرضيّات اجتمعت الكثير من الآراء الفلسفيّة على أهميتها الأخلاقية؛ فبغياب الإرادة الحرة يغيب الدافع الأخلاقي. وقد ناقش الفلاسفة المسألة من زاوية مختلفة؛ فبعضهم (كسقراط وايبنتز وسبينوزا) سلّط الضوء على الجانب الميتافيزيقي للحريّة وقال بأنه: إذا كانت الأحداث في العالم تحرّكها أسباب خارجة عن سيطرة الإنسان، وأن كلّ حدثٍ يحدث لسببٍ معيّن، إذن فكيف يكون لحريّة المرء أي معنى أو بالأحرى وجود هنا؟
وبعضهم ناقشها من الزاوية الدينية: إذا كان العالم تحكمه سنن وقوانين إلهية تصدر من ربّ وخالق هذا الكون؛ فإن ادّعاء الحريّة أمرٌ مشكّك في صحته، ماذا تفيدني حريتي “المزعومة” في الاختيار ما بين تخصص القانون أو الهندسة مثلًا إذا قدّر لي الخالق مسبقًا في كتابه أن أدرس تخصّص القانون؟ كيف يمكن أن يمارس المرء حريته ولا يكون له دورٌ في التأثير على عواقبها ونتائجها؟
وهناك من يحتجّ و يجادل من منظور علمي، استنادًا إلى العلم الذي يقول بأن كل الكائنات تخضع إلى قوانين الطبيعة، والإنسان ليس استثناءً لهذه القاعدة. هنا يشكّك الفلاسفة في طبيعة تلك الحرية المزعومة وما إذا كان يصح أن نُطلق عليها “حرية” أصلًا في حين أنها تفتقر إلى مميزات وصلاحيّات الحرية الأساسية.
بالرغم من اختلاف الزوايا التي انبثقت منها معتقدات وتحليلات هؤلاء الفلاسفة إلا أنه من الواضح أن هناك إجماع بين آرائهم وهو أنه يوجد مصدر أو عامل خارجي، خارج عن نطاق سيطرة الإنسان يتحكّم في أفعاله ويوجهها على نحوٍ معيّن. (١)
تعدُّد آراء الفلاسفة حول الحرية:
قبل الخوض في الآراء الفلسفية عن الإرادة الحرة، علينا أن نفرّق أولًا بين حرية الفعل وحرية الإرادة؛ حرية الإرادة دائمًا ما تسبق حريّة الفعل وهي شرطٌ أساسي لتحقيقها وبلوغها، إذن فحرية الفعل مرهونةٍ بحرية الإرادة؛ حرية الإرادة تقتضي أن يملك المرء القدرة على اختيار مسار حياته أو قراراته بكامل إرادته.. أمّا حريّة الفعل فتعني: أن يتصرّف المرء بما تُمليه عليه تلك الإرادة الحرة بدون أيّ تدخلاتٍ أو عواملٍ مؤثِرة خارجيّة. (٢)
يرى الفيلسوف الألماني سبينوزا أنّه حتّى يكون المرء حرًّا كليًّا لابد أن يكون هو المسبب أو المحرّك الأوّل لأفعالِه ولا يوجد أيّ عاملٍ آخر يحركها وهو يؤمن بأنّ الله وحدَه من يمتلك هذه الصفة لأنّه الخالق ولا توجد قوة فوقه، وبذلك فإنه يرى بأنّ الحرية سِمة من سمات الخالق، أما المخلوق -الإنسان على وجه الخصوص- فتتجسد فيه هذه الحرية فحسب (٣). ونستخلص من ذلك أنّ ـ بحسب اعتقاد سبينوزا ـ حرية الإنسان هي امتداد وانعكاس لحريّة الله. أمّا الفيلسوف اليوناني أرسطو فهو ينفي أيّ مصدرٍ أو عاملٍ خارجي للحرية ويقول: بأن ما يحدد أيّ فعلٍ أو اختيار يقوم به المرء هو معتقداته ورغباته وسماته الشخصية فحسب(١). وبينما ناقش سبينوزا وأرسطو الحرية في نطاق عالمنا المحسوس، يذهب الفيلسوف شوبنهاور بعيدًا عن ذلك ويقول في مقال له عن الإرادة الحرة والقدر: “الحرية الوحيدة الموجودة، هي التي تتسم ببعد ميتافيزيقي، في العالم المحسوس الحرية مستحيلة”، ويقصد بذلك شوبنهاور أن الأفعال التي يقوم بها المرء إنما هي نِتاج إرادته الميتافيزيقية والتي قد تم معرفتها مسبقًا وعلى أساس هذه الإرادة تتشكل رغبات الإنسان وسماته الشخصية والتي بدورها تحرّك أفعاله.(٤)
أهمية الحرية من الناحية الأخلاقية:
لا يكتمل أي نقاشٍ حول الحرية بدون الإشارة إلى الأخلاق، حيث أن الحرية تمثّل جوهر الأخلاق، ذلك أن الأخلاق بطبيعتها أفعال وأقوال تقتضي أن يكون لصاحبها سلطة عليها. إنّ الإنسان مسؤول ومُحاسب على الأفعال التي تصدر منه، وهو يعاقب ويُلام ويكافأ على أفعاله الذاتية التقريريّة-أي التي قرر هو القيام بها بكامل إرادته و حريته-، ومن هنا تنبثق أهمية وخطورة الحرية؛ فالحرية شرطٌ أساسي لأي فعل أخلاقي وبغيابها يسقط التكليف الأخلاقي للإنسان، ويختل الميزان الأخلاقي الذي على أساسه نقوم بتقييم الأفعال، إذ أنه من غير المنصِف أن نحاسب المرء على أفعال ليست خاضعة لسيطرته وتصرفه. إذن الفعل الأخلاقي يقتضي أن يتمتّع الفاعل بحرية الفعل أو اللافعل، أي أن يكون له الخيار في فعل هذا الأمر أو الامتناع عن فعله. ولكن لبعض الفلاسفة رأي مغاير وأحد هؤلاء الفلاسفة الفيلسوف ديفيد هيوم، حيث يرى أن الأخلاق لا تحتاج إلى حرية فعل أو إرادة. ويعزو رأيه أو اعتقاده هذا إلى أن مبادئ الأخلاق إنما تنبع في الأصل من سمات شخصياتنا ومشاعرنا وأحاسيسنا وليست من أفعالنا.(٥)
بين مطرقة الحتميّة السببية و سندان الليبرتارية:
عند الحديث عن الحرية لابد من الإشارة إلى مصطلحين فلسفيين هامين هما الحتمية السببية واللاتوافقية الليبرتارية؛ لما يثيرانه من جدلٍ واسع حول الحرية في الأوساط الفلسفية. الحتمية السببية تفيد بأنّ أفعالنا وكل الأحداث التي تحدث لنا مقدرة مسبقًا وتحركها عوامل خارجيّة لا نملك السيطرة عليها ونتائجها محدّدة ومحتومة الحدوث ويترتب على ذلك أننا لسنا أحرارًا؛ لأن بوصلة خارجية ما ترشدنا دائمًا إلى الطريق الذي نظُن أنَّنا أردنا الوصول إليه بإرادتنا في حين أنه حتى هذه الرغبة لم تكن فعلًا أصيلًا صادرًا منّا، بل فعل حرّكته قوة ما ووجهته تلك القوّة إلى اتجاهٍ معين، أما اللاتوافقية الليبرتارية فتفيد بأن الحرية بطبيعتها تنافي الحتمية؛ يرى اللاتوافقيون الليبرتاريون بأن الحرية تتحقق عندما تؤول أفعال المرء إليه وحده بحيث لا تتدخل أي عوامل خارجية في إصدارها، كما يؤمن الليبرتاريون بأنّ البشر بطبيعتهم أحرار.
قد يرى اللاتوافقيون الليبرتاريون أنّ اللاحتمية أو غياب الحتمية السببية سيؤدي بالضرورة إلى تحقيق الحرية وهي نتيجة تبدو منطقية للوهلة الأولى، ولكن في الفلسفة لا ينبغي للمرء أن يسلّم عقله للتحليلات أو التفسيرات التي تأتيه من “الوهلة الأولى”؛ ذلك أنها كثيرًا ما تكون خدَّاعة. إن اللاحتمية بالنسبة للاتوافقي الليبرتاري مأزق حقيقي لا يقل خطورة عن الحتمية؛ فهو مطالب بإثبات أن الأفعال غير المقررة مسبقًا لم تحدث أيضًا بمحضِ الصدفة وإن فشل في ذلك فإنه يعرّض حرّيته المزعومة إلى التشكيك في حقيقتها؛ ذلك أن الصدفة تنفي حقيقة أن أفعالنا حرةٌ أصيلة تنبع من ذواتنا (٦).
أتمنّى حقًّا ألّا يكون القارئ قد انخدع بصيغة عنوان المقال “الاستفهامية” وتوقع أنه سيجد إجابةً شافية على السؤال “هل نحن أحرار؟” أثناء قراءته للمقال، ذلك أن السؤال نفسه يحمل في طيّاته أسئلةً كثيرةً معقدةً، في كل الأحوال لا توجد إجابة واحدة لهذا السؤال؛ لتشعُّب تفسيرات وتحليلات الفلاسفة له ولكن هذا لا يعني بأنه لا يمكنك الإجابة عليه أو على الأقل أن تخرج من هذا المقال بتحليلٍ منطقي يرشدك إلى الإجابة الأقرب إلى تحليلك.
المصادر: ١) philosoghy of Stanford Encyclopedia https://plato.stanford.edu/entries/freewill/ ٢) كتاب الإرادة الحرة ص ١١-ص١٣ ٣)http://www.inquiriesjournal.com/articles/1354/examining-free-will-through-spinoza-and-descartes ٤) https://ebooks.adelaide.edu.au/s/schopenhauer/arthur/human/chapter3.html ٥) كتاب الإرادة الحرة ص١٥-ص ١٧ ٦) كتاب الإرادة الحرة ص ١٩ ، ص ٢٢