حروب الصين التجارية: من الأفيون إلى الآيفون

أصبح واضحًا أنّ قرارات الرئيس دونالد ترامب بخصوص رفع الرسوم الجمركية على الواردات كانت موجهة بالأساس إلى الصين بعد أن أجّل تفعيل القرار على العديد من الدول وأمهلهم تسعين يومًا للتفاوض، بينما زاد الرسوم على واردات الصين بعد أن ردّت بالمثل لتصل النسبة إلى 145 % في محاولة لإحتواء التنين الذي يحلّق بعيدا فلم تستطع الولايات المتّحدة بكل ما تملك من قوة على ملاحقته. ثم عاد واستثنى واردات شركات التكنولوجيا من هواتف ذكية وأجهزة حاسوب. ما يشير إلى عجز إدارة ترامب على إيقاف مارد التصنيع في العالم.
إنّ اقتصاد الصين ينمو ويزدهر عامًا بعد عام ويزيد قوتها الناعمة في أفريقيا وأمريكا اللاتينية بشكل لافت. أصبح الصينيون مُرحَّبًا بهم للإستثمار والتواجد لإنشاء المصانع وبناء السدود وتشييد الجسور ونقل التكنولجيا الحديثة إلى الدول بأقل كلفة وبشروط بسيطة وميسرة في السداد ما وضع الولايات المتحدة في مأزق أمام الحلفاء والأعداء على حدا سواء.
فهل يستطيع دونالد ترامب إصلاح ما أفسده الدهر؟
لا شكّ أنّ الدول التي تتحكم في عجلة الإقتصاد العالمي تتمتع بالتبعية بنفوذ سياسي يجعلها تستطيع فرض كلمتها في كثير من القضايا الدولية، وإن كانت الصين حتى اللحظة لم تستخدم هذه الورقة بأكثر مما تريد لكنها مع الوقت تستطيع أن تفعل دورها الإقتصادي بشكل سياسي ربما يضر بالمصالح الأمريكية في بقاع ساخنة بعالم مشتعل بالحروب من الشرق إلى الغرب، وهو ما لا تستطيع أمريكا تقبّله واستخدام كلمة حرب وإن كانت تجارية له دلالة على تضارب شديد في المصالح يجعل من الواضح أنّ الأمر يتجاوز حدود فرض رسوم ورسوم مضادة.
في تقرير صدر من وزارة الدفاع الأمريكية في أواخر العام 2024 بدأ بالحديث عن فساد داخل الجيش الصيني تسبب في إقالة مسؤول رفيع المستوى وفتح تحقيق مع 15 ضابط آخرين. تضمّن التقرير عدة نقاط حذر فيها من تعاظم القدرات العسكرية للصين وسرعة وتيرة التسلح وتدريب القوات المسلّحة في ظلّ تفوقها العددي. فالصين كما جاء في التقرير تعمل بشكل سريع على زيادة الرؤوس النووية لديها لتصل إلى 1000 رأس نووي في 2030 حذر التقرير من التقارب الصيني الروسي في المجال العسكري وأكّد أنّ التهديدات الصينية لجزيرة تايوان لازلت قائمة، لكن قدرات الصين العسكرية باتت تتعداها فالصين تبني جيشًا عالميًا وتملك أكبر قوة بحرية في العالم بواقع 395 قطعة حربية وستزيد العدد إلى 435 بحلول 2030 جاء الرد من الخارجية الصينية سريعًا على لسان وزير خارجيتها وانغ يي الذي صرّح أنّ تقرير البنتاجون غير مسؤول ويتجاهل الحقائق وحثّ الولايات المتحدة على عدم التدخّل في الشؤون الداخلية لبلاده للحفاظ على استقرار العلاقات بين الدولتين لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحدّ. نشرت الاستخبارات العسكرية الأمريكية تقرير عن تطوير الصين لصواريخ باليستية تعمل بتقنية الذكاء الصطناعي ستكون قادرة على إختراق الأنظمة الدفاعية الأمريكية.
إعلان
فهل هذه التقارير تعدّ نوعًا من التضخيم للقدرات العسكرية الصينية ومحاولة لخلق عدو جديد للتحفيز على إشعال سباق التسلح ؟ أم أنّ الخطر الصيني بات أمرًا واقعًا يجب التعامل معه بأقصى سرعة من قبل الولايات المتّحدة التي لن تقبل شريكا ينازعها في حكم العالم ويفسد مخططاتها ويشوش رؤيتها.
ربما يفسّر ذلك إشتعال الحرب التجارية بين الصين وأمريكا فتصريحات ترامب هي في الغالب محاولة لجذب الصين بالقوة للجلوس على مائدة المفاوضات التي يحبها كثيرا ويعتقد أنه الأفضل في إدارتها. بعد إظهار القوة والتلاعب بأسعار الأسهم في الأسواق العالمية والتنبيه أنّ أمريكا مازلت سيدة العالم والمتحكمة في قوانين اللعبة مهما حاول الصينيون المضي قدمًا في تطوير قدراتهم العسكرية وتعزيز شراكاتهم الإقتصادية.
ليست هذه هي الهجمة الأولى التي تتعرّض لها الصين فقد دخلت دائرة الحروب التجارية مع الغرب منذ القرن الثامن عشر وبلغت حدود غير مسبوقة من التدنّي الأخلاقي كانت أكثرها إيلامًا حرب الأفيون الأولى والثانية التي أنهكت الشعب الصيني ودمّرت أجيال كاملة.
بدأت القصة عندما قرّرت بريطانيا غزو الأسواق الصينية في عهد أسرة تشينغ لكنها لم تستطع الحصول على ما تريد. فأرسلت اللورد مكارتني إلى بكين في العام 1793 للتفاوض وطلبت فتح موانيء البلاد للتجارة الغربية والتخلي عن جزيرة من مجموعة جزر تشوشان وخفض التعريفة الجمركية على البضائع البريطانية والسماح بنشر الديانة المسيحية. رفضت الصين الطلبات، فتكرّر العرض في العام 1816 غير أنه رُفض للمرة الثانية. فقرّر البريطانيون إستخدام الأفيون الذي يلقى رواجا من قبل الطبقة البرجوازية داخل الصين فتوسعوا بيعه بطرق غير شرعية عن طريق التهريب.
كان الأفيون يدخل إلى الصين بكميات بسيطة للإستخدام الطبي لا تتعدى مئتي صندوق سنويا ليرتفع الرقم عشرات الأضعاف. تبدأ المساومة من قبل البريطانيين الشاي والحرير في مقابل الأفيون. لم تستطع الصين إيقاف التهريب بسبب الرشاوي وخرج الوضع عن السيطرة. دخل الصين 39 ألف صندوق من الأفيون في العام 1837 لم يعد التعاطي قاصرًا على الطبقة الأرستقراطية بل إمتد إلى العوام أكثر من 2 مليون صيني أصبحوا من متعاطي الأفيون. بات الأمر أشبه بالوباء كلف الأفيون الصينيين خمس المتداول من الفضة داخل البلاد مما تسبب في إرتفاع الأسعار وفاقم الأزمة الإقتصادية ووجدت حكومة تشنغ صعوبة في جمع الضرائب مما سبّب عجز لخزانة الدولة.
انقسمت الآراء داخل حكومة تشينغ بين حظر الأفيون بالقوة وبين إيجاد حلول بديلة كإباحته وفرض ضرائب عليه أو السماح بزراعته على نطاق واسع لإيقاف نزيف الفضة من خزانة الدولة وعندما عرض الأمر للتصويت كانت الغلبة للرأي الثاني لكن الأمبراطور أصرّ على محاربته بقوة. فتم ملاحقة المهربين الأجانب وإتلاف صناديق الأفيون فتدخّلت بريطانيا بشكل رسمي ودخلت في مفاوضات مع الحكومة الصينية وعندما لم تجدِ الحلول الدبلوماسية نفعًا تحوّلت للحلّ العسكري فتحرّك الأسطول البريطاني وأجبرت الصين على توقيع معاهدة نانجينغ التي منحت الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس الحقّ في هونغ كونغ وفتحت الموانيء الخمس الصينية أمام البضائع الأجنبية وأجبرت الصين على دفع تعويضات لبريطانيا والسماح لها بإنشاء مستعمرة في شنغهاي. لم يتوقّف الأمر عند هذا الحد ففي العام 1856 طلبت بريطانيا بإلغاء التعريفة الجمركية على البضائع وتحويل تجارة الأفيون إلى تجارة شرعية داخل البلاد، وعندما رفضت الحكومة الصينية المطالب الجديدة شنّت بريطانيا وفرنسا حربًا جديدة على الصين هي الأعنف عرفت بحرب الأفيون الثانية ووصل الأمر إلى إحتلال بكين وإجبار الحكومة الصينية على إبرام معاهدة جديدة قدمت فيها تنازلات عديدة.
ولأنّ ماءً غزيرًا جرى في النهر، استطاع التنين في النهاية الرجوع إلى الساحة العالمية. ففي العام 2000 بلغ الناتج المحلي للصين 1.2 تريليون دولار واستمرّ بالصعود حتى العام 2023 ليبلغ 17.8 تريليون دولار باتت الصين قوة إقتصادية لا يستهان بها تملك حصة تبلغ أكثر من 14% من صادرات العالم. فهل يمكن إيقاف التنين الصيني بعد كل هذه الإنجازات؟ ومن الرابح والخاسر في هذا الصراع؟
تستطيع أوروبا الإستفادة منه بعدما تخلّى ترامب عنهم في الأزمة الأوكرانية ووضع دول الإتحاد أوروبي في موقف صعب. قام رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز بزيارة بكين لتعزيز الشراكة الإستراتيجية التي وقعت بين البلدين منذ عشرين عام وتطلّع لشراكة أعمق مع الصين ودعا الدول الأوروبية للإصطفاف إلى جانب بكين لحماية العولمة التي شكلت أساس للتبادل التجاري ساهم في فتح الأسواق وتدفّق البضائع ودفع عجلة الإنتاج في موقف متقدم وورقة ضغط من الجانب الأوروبي الذي يسعى للجلوس والتفاوض مع الولايات المتحدة خلال الأيام القادمة. الهند أيضًا تستطيع الخروج بمكاسب وهي المرشحة لإحتلال المركز الثالث في الصادرات في 2027 وتحتلّ الآن المركز الخامس بمعدل نمو تجاوز 6 % وتطمح إلى رفعه لمعدل 8% أما الدول العربية فيمكن أن تستفيد إذا امتلكت الإرادة ووضعت حدّ لجموح ترامب وجنون نتنياهو والإسراع في تسوية النزاع في الشرق الأوسط مع التمسك بحلّ الدولتين. وعدم السماح لإسرائيل بالتغوّل. وهو ما رشّح في إجتماع منتدى أنطاليا بحضور وزراء خارجية الدول العربية والإسلامية.
إعلان