بين الجوكر والمجتمع، أين نذهب يا رب؟
يفتتح فيلم الجوكر أحداثه بعرض للحال التي آلت إليها مدينة جوثام/نيويورك في ظل إضراب عمّال النظافة. ثمة علاقة ما بين مشاهد انتشار القمامة في مجتمع وانهياره. لدينا دولة تنسحب من أداء الخدمة العامة لمواطنيها ما يعطي لهم الجرأة على انتهاك المجال المشترك بشكل أوسع وكسر القوانين البسيطة الأخرى.
يمثل فيلم الجوكر تحفة المخرج تود فيليبس والممثل خواكين فينيكس اختراقًا سينمائيًا على أي مستوى من المستويات، من حيث تكامل عناصر الصورة واللون والموسيقى والتمثيل والحكاية ما يكفي لتحويله لتجربة بصرية وسمعية عقلية وروحانيّة مكتملة الأركان. تتعدى كونه مجرد فيلمًا سوداويًا آخرًا لامتلاكه تأثيرات باطنية خطيرة، قد لا تخرج بسهولة من وجدان المتفرج الذي يتلامس معها في أكثر من نقطة على امتداد زمن الفيلم.
قدم خواكين فينيكس في الفيلم عرضًا مبهرًا، وأداء أيقونيًا عظيمًا لا يقل أبدًا عن أداء الراحل هيث لدجر لنفس الشخصية.
امتلك خواكين ناصية التمثيل والتحكم العصبي العضلي ببراعة شديدة، ما جعل الشخصية المقدمة شديدة الكاريزمية والإنسانية. ويمكن التعاطف معها بسهولة مع أداء سينمائي قريب من المسرحية في بعض المشاهد، ويليق تمامًا بمهرج مضطرب كالجوكر.
طبقات الفهم لفيلم الجوكر
الجوكر ليس فيلمًا بسيطًا، بحال ويمكن استقباله على أكثر من مستوى للوعي. المستوى العادي الذي يحكي القصة الحقيقية لتحول (أرثر فليك) من مهرج يحاول نشر الفرحة بين الناس والأطفال المصابين بالسرطان إلى قاتل عنيف لا يرحم. يمكن للمشاهد بسهولة فهم الدوافع وراء هذا التحول في شخصية (أرثر فيلك) كونه يتعرض باستمرار لعنف مستمر في الشارع وللتجاهل والخذلان وغياب الحب والأمل في حياته. بالإضافة لنقطة المرض النفسي الذي يبدو وراثيًا في عائلة الجوكر ما يعطى تبريرات إضافية لشرعنة استخدام العنف من جانب الجوكر.
يعطينا الفيلم أيضًا لمحة عن الصراع الطبقي الطاحن فى المدينة، حيثُ عائلة توماس وين الغنية ليست طيبة بالضرورة كما ظهرت في سرديات دي سي السابقة وحيث يمكننا أن نرى توماس وين شخصًا متعجرفًا أنانيًا ساعيًا للوصول للسلطة على أنقاض مدينة مدمرة، اشترك هو نفسه في وصولها لتلك الحالة المتردية.
من هنا يمكننا الغوص إلى طبقة أخرى من طبقات الفيلم، يمكننا أن نسميها: كسر السردية المطلقة لرواية الواقع، وهو أسلوب خطير جدًا يمكنه أن يشكك ليس فقط في الحتمية المنطقية للواقع؛ ولكن يمكنه أن يشكل خطرًا في بنويته التتابعية القائمة على التسليم برواية مشتركة له، ما يكسر من قيمه الأساسية الحاكمة، ويجعله مُمزقًا بين أكثر من مستوى للرؤية والحقيقة مخلوطًا بالأوهام والأهواء والمظلومية.
من بين تلك القيم المهدورة مثلًا: الحد الفاصل بين الخير والشر، بين الضحك والبكاء، بين السعادة والحزن، بين الحب والتدمير، بين الواقع والخيال مع تمزيق وحدة الخط الزمني واختيار الأمكنة في مشاهد ديستوبية شديدة القتامة تترك أثرًا لا يُمحى عن النفس بسهولة.
طبقة أخرى خطيرة يغوص فيها الفيلم بعد إعطاء المبررات للجوكر لإشاعة الفوضى، وهي تصور الجماهير لوجود فساد محكم في بنية النظام مع غياب أي أمل في إصلاحه، وتبرم الناس من حصرية استخدام العنف من جانب الدولة عليهم فقط.
إن فشل النظامين الاجتماعي والسياسي في تحقيق الحد الأدنى من الرضا للجمهور، ناهيك عن فشلهما فى إعطاء أي معنى لحياة الفرد، جعلته يفقد الثقة في إمكانية إصلاح الأوضاع بالطرق السلمية، ويفقد الجدوى من وجود الدولة بمعناها القومي كحكم عادل بين الطبقات ومنظم محايد لشبكات المصالح المتداخلة.
إنَّ المجتمع في فيلم الجوكر غاضب جدًا، ويشعر بالحزن واليأس ولا يمانع في شيوع مستويات قياسية من العنف لمجرد التنفيس عن الغضب الشديد. كما نرى فى الفيلم أن الجمهور تعاطف مع قتل الجوكر ثلات شبان لتحرشهم بفتاة في المترو بل وشجع عمليات قتل موسعة في صفوف الأغنياء وبين أفراد النظام.
إن مجتمعات كهذه تشعر بالدنو والحقارة الشديدة بحيث لا ترى غضاضة فى إراقة المزيد من الدماء لتطهيرها من الإحساس بالدنس.
والتطهر بالقتل والدم هي فكرة إسطورية دينية قديمة جدًا يستدعيها الجوكر مرة أخرى من الماضي باعتباره مسيحًا مناقضًا بشكل تام.
فالقيم الدينية العادية مثل الحب والحق والخير والسعادة أصبحت قاصرة للغاية عن تحقيق أي شيء نادت به ومثلت فرصة مثالية للأغنياء والسلطة لتدجين الجماهير وسجنهم في دوائر استهلاكية طاحنة.
لكن لكي ينهض ضد مسيح مهرج يلزمه المرور بأكثر من مرحلة تطورية.
قتل الإله
نصل الآن ليكون لدينا كل شيء من الدوافع والتأسيس الفلسفي والمرض النفسي والتشكيك في الواقع، وتهيئة الجماهير الساخطة للعنف القادم، لكن تبقى الأم حجر الزاوية في الاستقرار لأي نظام اجتماعي ولكل شخص سوي.
علاقة (أرثر فليك) بوالدته علاقة ملتبسة جدًا، فهو يظهر بارًا جدًا بها في البداية، أمه الطيبة الحنون التي تنتظر أن يرد عليها أحد خطاباتها توماس وين وهي التي لا تزال تؤمن بمسيح خير ينتشلها هي وابنها من الفقر والمأساة. مسيح قد يتأخر في الإجابة لكنه حتمًا لن يغيب إلى الأبد. لكن توماس الحبيب القديم لا يكتفي فقط بعدم الرد بل يتنكر لها من الأساس مدعيًا أنها سيدة مختلة.
واحتاج الجوكر لكشف عدة ثغرات في سردية والدته مثل كونه طفلًا متبنيًا وليس من دمها وأنها كانت تعالج نفسيًا في الماضي، ثغرات كانت كافية لقتلها في نظره.
هذا آخر ثابت مطلق خير في حياة (أرثر فليك) عليه التخلص منه تمامًا كآخر طور في رحلة تطوره، مطبقًا بذلك قول نيتشة عن قتل الإله، لكي يولد الإنسان السوبر مان أو الجوكر عليه أن يقتل كل الآلهة القدامى باعتبارهم مزيفين وقاصرين أو كاذبين كوالدته. ربما من هنا أيضًا ومن نقطة قتل الإله القديم توماس وين ولد إله آخر بات مان.
يقتل الجوكر أمه، آخر ثابت طيب في الجوكر وينصب نفسه إلهًا جديدًا يليق بمدينة آثمة تمامًا، مسيحها الذي يحاول مسح أخطاءها بالغوص فيها أكثر وأكثر.
إن الفوضى التي أطلقها الجوكر هي موجودة أصلًا تحت الجلد، في قلب كل إنسان كاره وكاذب ومهمل وعنيف وغبي وفي عقل كل سياسي فاسد انتهازى لا يشعر بآلام الناس ويحقر من معاناتهم أو يتاجر بها.
الجوكر لا يمثل (أرثر فليك) وحده! إنه مرحلة التطور الأخيرة لمجتمعات أنانية شرهة ساقطة أخلاقيًا.
لمدن وناس فقدت ربها الخير، تخلّت عنه فتخلّى عنها وفقدت المعنى والجدوى من وجودها، كل ما فعله الجوكر هو مد الخط على استقامته، الخط الموجود أساسًا لولا من بقية خوف في قلوب الناس.
كان (أرثر فليك) يحتاج أن يحتضنه أحد، كان يحتاج أن يرفق أحد بحالته العقلية والنفسية وأن يتلقى أحد نكاته البسيطة بروح طيبة، كان يحتاج مجتمعًا رحومًا وحكمًا رشيدًا لا يقطع عنه الدواء لترشيد النفقات، لم يجد شيء فقرر أن يُمارس الذي لمسه في قلوب الناس وهو يضحك بملء شفتيه ويقول: هذا ليس أرثر فليك هذا أنتم بعدما فرغتم كلّ شيء من معناه!
اقرأ أيضًا الجوكر… دعوة للفوضى أم تحذير منها؟