بين الاستشفاء والطب .. هل الطب هو طلب الشفاء من الألم فقط؟

لا شكّ أنّ السائد في عصرنا هذا أنّ من يعاني من ألم، أو وَهَن، أو عَرَض ما، يذهب إلى طبيب يطلب منه علاجاً لما يُحس به؛ ليعيد له عافيته وقوته. ويمكن القول أنه من السهل الاتفاق على أنّ هذا الطلب الذي يقوم به شخصٌ ما ليدفع عنه مرضه، وألمه، ويقوي صحته، ويُرجع عافيته هو تعريف مختصر لـ “الاستشفاء”. لكن الذي ستحاول هذه المقالة نقاشه هو هل للاستشفاء مفهوم مختلف عن المشهور، أم أنه يكون بالذهاب للطبيب فقط؟ وهل ممارسات البشر للاستشفاء ظلّت على ما هي عليه منذ الأزل حتى يومنا هذا؟ تهدف هذه المقالة من وراء تلك الأسئلة للوصول إلى استنتاجات تتعلق بمفهوم الاستشفاء، والعلاقة الناتجة عنها بين الشاكي ومُعالجه، وارتباط هذه العلاقة ونجاحها بعوامل كثيرة لا تقتصر على العلاج المادي المباشر وحسب كأداة للاستشفاء.

تزعم هذه المقالة أنّ مفهوم “الاستشفاء” كان موجودا قبل تبلور الطب بشكله الحالي، أي هو فعل سابق لكل الممارسة الطبية. فطلب الإنسان لما يُخفّف آلامه مغروس في طبيعته، ونفوره مما يضعفه ويعيقه مجبول فيه. فذهاب المريض وأهله إلى مشعوذ يطرد الأرواح الشريرة بتمائمه هو استشفاء، وخضوع مؤمن بالدعاء لربٍ يؤمن به؛ ليغمره ببركاته استشفاء، وتقديم القرابين لآلهة الضر والنفع استشفاء، وسؤال عجوز القرية عن أعشاب تجعله أقوى استشفاء، وكذلك ذهاب مريض لطبيب بمشرطه يستأصل سبب الألم أيضاً استشفاء.

والاستشفاء علاقة بين طرفين: الأولُ شاكٍ، يذهب يحمل ألمه إلى طرف ثانٍ: مُعالج ليخفف عنه هذه الشكوى. وتُستخدم في هذه العلاقة وسائل وأدوات متعددة، إلا أن هدفها النهائي واحد: إزالة أو تخفيف شكوى الطرف الأول. هذه الأدوات تتنوع بين تمائم سحرية، وتراتيل دينية، وحوارات نفسية، وقرابين حية، وأعشاب طبيعية، وعلوم منطقية، وأدوية طبية، وعمليات جراحية. والمُعالج إذاً بناء على ما سبق قد يكون على صور عديدة كساحر أو طبيب أو معالج روحي. لا يهمنا ما هي شكوى الطرف الأول ولا مؤهلات الطرف الثاني ولا تفصيلات الأدوات وآليات عملها، لأنه رغم كل هذه الاختلافات، تبقى ممارسة الاستشفاء في جوهرها واحدة: شاكٍ ومُعالجٌ وأداة.

ومهما تطورت أدوات الاستشفاء عبر العصور، وتغيرت هيئات المعالجين، وتنوعت تفصيلات الشاكين، سيظل مفهوم ممارسة الاستشفاء في جوهره الإنساني ثابتًا. لم تخْلُ حقبة مسجلة في تاريخ البشرية من وجود وصف لسلوك الاستشفاء، والكتب في تاريخ الطب وغيره تحوي الكثير من الأمثلة والتوصيفات. هذا الاضطراد في ظاهرة طلب الشفاء واستمرار ذهاب الشاكي لمن يعيد له صحته على اختلافهم وتنوع أدواتهم العلاجية عبر العصور، يوحي أنّ عيادة المريض للمعالج غير مرتبطة بأداته التي يستعملها للشفاء. فالشاكي ذهب للمُعالج الذي كان يَستخدم السحر، وذهب له حين أصبح يَستخدم المشرط وحبة الدواء. هذا يعني أن المريض إذ يطلب الاستشفاء لا يأتي للمعالج بسبب الأدوات والتقنيات التي يستعملها فحسب، وإنما علاقة الاستشفاء بين المريض ومعالجه أكثر تعقيداً من ذلك ومرتبطة بعوامل خارجة عن التكنولوجيا/الأداة المستخدمة في هذه العلاقة، ومتجاوزة للمظاهر المادية فيها.

وقد يظن القارئ أن ما تناقشه هذه المقالة قد عفا عليه الزمن ولا ينطبق على عصرنا، وأنّ المرضى اليوم يبحثون عن المُعالج الأكثر فهماً للطب والأكثر تفوقّأ أدواتياً، أو الطبيب الأمهر والأقدر والأذكى، يطلبون الطبيب الذي يعمل في المستشفى المليء بأجهزة التصوير المتطورة والمعدات الحديثة. إلا أن خطأ هذا الادعاء يتضح من عدة نواح. ابتداءً، وبكل بساطة، ما زلنا نرى إلى يومنا هذا أن الكثير من المرضى يلجؤون لوسائل كثيرة غير الطب للاستشفاء: من زيارة الشيوخ إلى استخدام الطب الشعبي أو البديل، واستخدام الأعشاب، أو الدعاء. ولا يزال هذا موجودًا في عصرنا وغير مرتبط فقط بثقافة “متخلفة” في دول “الشرق” كما قد يدعي البعض.

إعلان

وتدل هذه الظاهرة على مفهوم الاستشفاء كما وضحناه سابقاً: شاكٍ ومعالجٌ وأداة. كما يتضح خطأ الادعاء كذلك بملاحظة أنّ المرضى قد يفضلون طبيباً على آخر رغم تساوي الاثنين بالمقاييس الأدواتية أو الطبية. فربما تخرج طبيبان من نفس الكلية بنفس المستوى وحصلوا على نفس التدريب وكانوا بنفس القدرة التقنية تقريباً، إلا أن المرضى مع ذلك يفضلون أحدهما على الآخر. وهذا ليس فرضاً خيالياً، بل كل ممارس للطب يعرف أطباءَ يفضل المرضى عيادَتَهم رغم وجود من هم أقدر منهم طبياً بمراحل. وكثيراً ما شاهدنا طبيباً قديراً لا يزوره أحد، وآخر يجانب كل قوانين الطب وعلومه في ممارسته، وعيادته تمتلئ بالمرضى رغم ذلك. هذا يؤكد أنّ علاقة الاستشفاء غير مبنية فقط على التفوق الأداتي، أو أسلوب الاستشفاء المقدم.

وأخيرًا، لو فرضنا أن طلب المرضى للاستشفاء مبنيٌ على اختيارهم للمعالج الأقدر أدواتياً والأكثر تفوقاً علمياً ومهارتياً، ويختارون الأداة الاستشفائية الأكثر فاعلية، فحين نقول بذلك نفترض أن المريضَ قادرٌ على تمييز الأداة الفعالة من غيرها، وقادر على التقدير أنّ أسلوباً علاجياً معيناً أكثر نجاعةً في حالته من سواه. وهذا مخالف للواقع؛ فالمريض غالباً غير قادر على معرفة أي علاج هو أكثر فعالية من غيره بغير مشورة خبير. ولو صحّ أن المريض يميز الأداة الأفضل للعلاج فهو قد يميزها بنتائجها. أي أنّ المريض يبحث عن وسيلة العلاج التي حققت شفاءً عند غيره من معارفه -وهنا نحيلكم لحلقة “عن طريق التسلسل” من مسلسل “ضيعة ضايعة”-. ومن المعلوم أن تحقيق أداةٍ ما للشفاء ليس مقصوراً على أدوات الطب الحديث؛ فجزء كبير من الشفاء ناتج عن “أثر الوهم” أو “Placebo Effect”: وهو أن يتوهمّ المريض أنه أخذ العلاج المناسب، فيتماثل للشفاء بسبب ذلك الأثر النفسي. وجزء من الشفاء سببه أنّ المرض في طبيعته محدود المدة؛ فبعد أن ينهي المريض استخدام علاجه يكون المرض قد شُفي لأن الجسد تغلب عليه بطبعه لا بسبب العلاج، لكن البشر ربطوا خطأً بين العلاج والشفاء؛ لتصادف حصولهما في نفس الوقت وظنوا العلاج سبباً للشفاء.

هذه الظواهر تحصل حين نستخدم أدوات الاستشفاء “الطبية” من أدوية وجراحات، وكذلك تحصل حين نستخدم أدوات الاستشفاء الأخرى من تمائم وأعشاب وقرابين. فبعين المريض، كما يحقق الدواءُ نتيجةً كذلك يفعل السحر.

ومهما يكن، فإن كل ذلك يُقرّ المبدأ الذي قلناه ابتداء: أن علاقة الاستشفاء بين الشاكي ومُعالجه ليست مرتبطة بأداة الاستشفاء وحسب. فالشاكي لا يأتي للمعالج صاحب الأداة العلاجية “الأفضل”، ولا المعالج صاحب التقييم الأكاديمي الأعلى، ولا المعالج صاحب الأداة الأكثر منطقية وعلمية. وإنما هناك عوامل أخرى كثيرة تحدد ذلك، أهمها التواصل الإنساني. لذلك لا معنى لإعطاء الطبيب نفسَه نوعاً من السلطة (وربما الكِبْر) وإحاطته نفسَه بهالة تمييز لأنه “طبيب” يفهم في علل الناس وعلاجها. فالمعرفة بآليات العلاج الطبية -وحدها- قد لا تعطي الطبيب أفضلية على المشعوذ في عين المريض. فكما يمتلك الطبيب نظريات طبية تفسر كيف يعمل الدواء، كذلك عند السحرة نظرياتهم وعند عجائز القرى تفسيراتهم. وكما يدعي طبيب أن حبة دواء كانت سبب الشفاء، فتميمة الساحر قد تسبب الشفاء في عين المريض كذلك.

لذلك لا معنى لفهم الطبيب لعلوم الطب الآلية إن لم يكن هذا العلم وتلك المهارة مقرونتان بما هو أعمق. لا يكفي الفهم الدقيق لفسيولوجيا الجسد إن لم يصاحب ذلك فهماً أعمق لحيثيات العلاقة الاستشفائية بين المريض ومُعالجه في بعدها الإنساني. فكما يدرس الطبيب علوم الطب الآلية، وجب عليه كمُعالج أن يغرف من معارف الطب الإنسانية. وبجوار حفظ علومه وجب تذوق جانبه الفنّي. وإن قصرت الجهات الرسمية من كليات وبرامج اختصاص في ذلك، فهذا لا يعفيك كطبيب من مسؤوليتك. فأنت من أقسمت أن تبذل كل ما في وسعك لتخفف ألم الشاكين، وأنت مَسؤول عن ذلك، ومريضك أنت من سيعاني تبعات ضعفك في هذا الجانب.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: قاسم الشاعر

تدقيق لغوي: بيان

اترك تعليقا