بودلير: بين الألم والمتعة

أنا الروح الفضولية والمعذّبة
اذهب لتبحث عن نعيمك
أشفق علي! وإلا سألعنك!
هذا جزء من رسالة بودلير إلى قارئ ديوان “أزهار الشر” في قصيدة “استهلال من أجل كتاب مُدان”، فهكذا يصف نفسه ويرجو من القارئ أن يشفق عليه، وكيف لا ونحن إذا تأمّلنا حياته سنجده يستحق الدموع والشفقة والرجاء والأعذار والتمجيد والتخليد!
على مقاعد متهالكة مومسات مسنات شاحبات
بحواجب مصبوغة أعينهن مغوية وقاتلة
يبتسمن بتكلّف ومن آذانهن الرقيقة
إعلان
يصدر صليل الحجر الكريم والمعدن النفيس
ويصف بودلير في قصيدته السابقة المعنونة بـ “القمار في أزهار الشر” المشهد الذي ربما رآه مئات المرات، وهو الذي اعتاد أن يكون من رواد الحانات والخمارات، وألِف ممارسة الجنس مع مومسات بمختلف أعمارهن.
يكتب بودلير ويصف كل ما شاهده في حياته في ديوان “أزهار الشر”، ذلك المضطرب المتمرّد العبقري الموهوب ذو الصفات الخاصة الخالصة، الذي عاش حياة غير مستقرّة، وذاق مرارة اليتم مرتين؛ مرة حينما توفي والده أمام عينيه وهو ابن الست سنوات، ومرة أخرى حينما تزوجت أمه من الچنرال الفرنسي أوبيك الذي كان مشاركًا في احتلال الجزائر، ذلك لأنه أحب أمه وأراد أن تكون له وحده دون مشاركة، لكن الأم بالتأكيد لم تفهم ذلك فهي لم تزل في ريعان أنوثتها، مما شكّل صدمة كبرى في صدر بودلير، وعانى من عدم الاستقرار بعد زواج أمه، فراح يتنقل إلى أكثر من مدينة نظرًا لطبيعة عمل الچنرال، الأمر الذي كلفه أنه تأخّر سنة دراسية في الثانوية عند انتقاله إلى باريس؛ إذ إن التعليم في باريس أكثر تقدّمًا وتطورًا، فتعزّزت عنده نزعة الانتقام من زوج أمه.
وقد كان في شبابه يُعَدّ صعلوكًا منغمسًا في الملذات يشرب الخمر ويدخن الحشيش يتناوب على النساء واحدة تلو الأخرى، وهو ما انعكس على فنه وشعره وإبداعاته وفلسفته، ولن أخوض كثيرًا الآن في سيرة بودلير، فهي مُتاحة لمن يريد، لكن مناقشة أعماله وفلسفته هي الأهم بالنسبة إلي على الأقل. وفي الوقت ذاته لم تكن مناقشة كتاباته بمعزل عن تركيبته النفسية.
الحب عند بودلير؟
يطرح بودلير سؤالًا دوَّنه في يومياته كالآتي: «ما الحب؟» ليجيب عنه قائلًا: «الرغبة في مغادرة الذات». هكذا بنزعة صوفية يرى بودلير الحب. ومن وجهة نظري هي نزعة تخص اللحظة التي كتب فيها بودلير هذا، فأراد الفناء في امرأة يعشقها وتحبه، يتطلّع إلى أن يتخلص من آلامه في أحضان امرأة ينام على صدرها، تنتشله من روحه الضائعة الهائمة وذاته المفقودة. فنجده يرى الحب هنا بهذا الشكل الأقرب لفناء الروح في معشوقها، وربما أيضًا للهروب من نفسه التي كثيرًا ما يواجهها، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى انعكاس هذا كله على أدبه وشعره وكتاباته.
وإذا تأمّلنا نفسية بودلير، فسنجد ميله النفسي إلى تدمير ذاته بإدمان الكحوليات والخمور والتسكع في الطرقات، وإنفاق أمواله ببذخ شديد على كل الملذات التي لا طائل منها سوى التدمير. وإذا ربطنا هذا بطفولته المضطربة وجوعه العاطفي وحرمانه من الحب وتعدّد علاقاته، فسنجد أن هناك ميلًا مازوخيًّا لدى بودلير، وهو الأمر البيّن في كثير من قصائده، وبخاصة رسائله، فكان يبعث بقصائد غزل إلى السيدة ساباتيي في جريدة لوموند من دون أن يشير إلى اسمه، وعندما اكتشفت السيدة ساباتيي أنّ الكاتب هو شارل بودلير، عرضت عليه نفسها إلى أن قضى معها ليلة واحدة فقط، كتب فيها بعدها:
قبل أيام، كنتِ بالنسبة إليّ إلهة جميلة، ها أنت الآن صرت مُجرّد امرأة.
ونجد ميوله المضطربة التي لا تستقرّ على حال واضحة أيضًا في علاقته مع چان دوفيل، وهي فتاة لها حديث آخر فيما بعد. ومن يوميات بودلير أيضًا نقرأ:
الحبُّ هو الميل إلى البغاء. بل لا وجود لمتعة مهما كانت سامية، لا يمكن إرجاعها إلى البغاء.
ويسترسل بودلير مرة أخرى عن الحب فنجده يكتب:
فحتى إذا كان العشيقان متيمين ومفعمين بالرغبة المتبادلة؛ فإن أحدهما سيكون دائمًا أكثر هدوءًا وأقلَّ تفانيًا من الآخر، وأحدهما سيكون الجراح أو الجلاد، أما الآخر فهو الموضوع أو الضحية.
وربما تجده في بعض الأحيان ساديًا فيصبح ذا نزعة سادومازوخية، وهو الأمر الذي نجده في ديوان “أزهار الشر” في قصيدة “الماسوشي” وفقًا لترجمة سلمى الغزاوي، فيبدأ القصيدة كالآتي:
سأضربك بلا غضب
وبلا حقد كجزار
كضرب موسى الحجر
وسأفجر من جفنيك كي أروي صحرائي مياه العذاب
ثم يعود على مشارف انتهاء قصيدته:
أنا الجُرح والسكين
أنا الصفعة والخد
أنا الأطراف وعجلة السحق
الضحية والجلاد
أنا مصاص دماء قلبي
أما في قصيدته “مصاصة الدماء” فنجد ما يلي:
أنت التي كطعنة السكين
اخترقت قلبي المتألم
أنت التي أتيت قوية كقطيع
من الشياطين، مجنونة ومتزينة
لتصنعي من روحي المهانة سريريك وملكيتك
ويكمل قصيدته فيكتب في جزء آخر:
أيتها الملعونة، اللعنة عليك!
إنّ الحاجة الكبرى إلى الفناء وتركيبته النفسية شديدة التعقيد، ورغبته في أن تعطف عليه امرأة حتى لو كانت امرأة شاحبة عجوز لا يهم، كل هذا جعل بودلير واحدًا من أهم شعراء فرنسا وأكثرها تمردًا على المألوف، سواء على المستوى الأدبي أم على مستوى حياته الشخصية، فأصبح رمز الحداثة بعد رحيله بفترة حينما تمكن العالم من فهم كتاباته وأدبه.
ولا عجب إذا قلنا إن بحثه الدائم عن الحب وممارسة العلاقات السريرية ربما كانت تجعله يشعر بنوع من الاستقرار اللحظي، فيستلهم شعرًا وأفكارًا من تجاربه، إلى أن يعاوده النمط اللا استقراري مرة أخرى، وهو النمط السائد لدى بودلير بالضرورة. هذا الأخير الذي تعامل مع الحب بفلسفة الألم والمتعة في آن واحد، وهي إذا أُوِّلَت فستصبح نزعة صوفية باطنية شديدة التعقيد.
ويكتب في “الفراديس المصطنعة”، وهو كتاب عن الأفيون والحشيش الذي أدمنه هو نفسه:
والحاصل أريد القول إن الولع المبكر بالمحيط النسائي بكل هذه الأبهة المتماوجة المتلألئة العطرة، هو الذي يصنع العبقريات الفائقة.
ونجد بودلير أسيرًا لرغباته الشهوانية التي لا يقدر على السيطرة عليها، لأن بداخلها حاجة مُلحة لا تكف عن السكون، الأمر الذي كلفه إصابته بالزهري، وهو مرض جنسي بطبيعة الحال.
ولنعد إلى نزعته التدميرية لذاته، ففي قصيدة “الدمار” التي يكتب فيها عن الشيطان أولًا ثم يستكمل ليصوره على هيئة امرأة فيقول:
أحيانًا –يقصد الشيطان- يتخذ هيئة أكثر النساء إغواءً
كونه يعرف عشقي الكبير للفن
وتحت الأعذار الزائفة للكآبة
يُعَود شفتي على مشروبات مشينة
وفي ختام قصيدته نقرأ:
ويُلقي أمام عيني الناضحتين بالحيرة
ملابس مُدنسة وجراحًا غائرة
والآلة الدموية للدمار.
الجمال لدى بودلير
أوّلًا: لا يمكن فصل الجمال عن الحب عند بودلير، مثلما لا يمكن فصل الحب عن الجنس عنده، هذا من ناحية. كما لا يمكن فصل الجمال عن الرعب والقبح والشيطان من ناحية أخرى. فالمرأة الوحيدة التى أحبها حقًا وكان يعود إليها في كل مرة حتى بعد ممارساته السريرية هي چان دوڤال، التي كان يرتاح عندها من قلقه الذي لا يفارقه، وهو الذي كتب لها في ديوانه “أزهار الشر”: «إنها تضمد الجراح التي في عقلي»، وما أبلغه من تعبير وما أدقه من وصف مكثّف لا يخلو من الحداثة.
وجان دوفال التي تعرّف إليها في مسرح صغير، كانت تمثّل على خشبته آنذاك، وحدث له انجذاب شديد إليها منذ أن رآها، وقد استأجر لها بيتًا، واستمرّت علاقاتهما معًا طويلًا، ولكن الخيانة كانت لدى دوفال أيضًا متأصلة، تحديدًا عندما لم يستطع بودلير توفير احتياجاتها المادية مثل السابق، لكنه على الرغم من ذلك كان يحبها ولا يستطيع الاستغناء عنها، تحديدًا عندما نقل لها مرضه الجنسي “الزهري”، فتشكلت في نفسه آلامًا فوق الآلام. ولم تكن جان دوفال فاتنة الجمال بالمعايير الجمالية وقتها، فكانت ذا بشرة سوداء، والجميع يعلم ماذا يعني هذا وقتها فقد كانت عرضة للتنمر طوال الوقت، لكن بودلير الذي لا يكترث لشيء، المتمرد بطبيعة الحال، استمر في عشقه لدوفال.
لقد عثرت على تعريف الجميل -الجميل عندي- إنه شيءٌ ما متأجّج وحزين..
فيطبق فكرته هذه على وجه امرأة فيقول: «إنه يجعلنا نحلم بالنشوة والحزن في الوقت نفسه، ولكن من دون تمييز. إنه يحتمل فكرة الحنين والإنهاك وحتى الاكتفاء، وفي الوقت نفسه، الفكرة المضادة، أعني حيوية متأججة ورغبة في الحياة، مع مرارة منحسرة وكأنها قادمة من الحرمان أو اليأس. الغموض والندم أيضًا هما من مميزات الجميل». ولعلّ لهذه الأسباب أحب بودلير جان دوفال، فليس الجمال بالضرورة يشعرك بالبهجة أو الراحة أو السرور، ربما يكون على النقيض تمامًا، وربما يكون الجميل جميلًا لذاته ليس إلا. وهذا ما بدا في يومياته عندما كتب:
أعتقد أن الفرح حلية من أكثر حلى الجمال سوقية، بينما الكآبة هي إذا صح القول قرينة الجمال الرفيعة.
الجمال؟
يكتب بودلير:
سأحبه عن طيب خاطر، لو كان ربّةً، وخالدًا.
ربما يقصد هنا المرأة، المرأة التي يريد أن يقع فريسة لها ويتعلق ويتشبث قلبه بها، هنا ستكون ربة خالدة بالنسبة إليه، وربما لأنّ جان ديفول كانت تعلم بطبيعة مرضه أيضًا، ولكنها رفضت أن تتخلّى عنه، فكانت إلهة لبودلير الذي كان بطبيعته متمردًا على الدين. ولا يمكننا أن نغفل أنّ الجمال في الفرنسية هو مؤنث بالضرورة. ففي “أزهار الشر” يكتب:
أيها الناس الفانون… أنا جميلةٌ جمال حلمٍ من حجر
إني أجلس على عرش السماء… كأبي هولٍ غامضٍ
وأجمع إلى جانب بياض الإوزة قلبًا كالجليد
ولا أعرف مُطلقًا الضحك ولا البكاء.
إنّ الجمال شيء يصعب الوصول إليه، أو امرأة يصعب الوصول إليها، لأنها في مصاف الآلهة، كما أنها مليئة بالتناقض والقسوة والرقة، العنف واللين. هكذا الجمال عند بودلير أو هكذا المرأة أو هكذا أمه، فلا يمكن فصل جوانب بودلير النفسية عن أي ما يكتبه تحديدًا في ديوانه “أزهار الشر”.
ويمكن أن يكون الجمال في الجحيم أو الشيطان؛ مثل قصيدة “نساء ملعونات” في “أزهار الشر” كما سنرى:
آه أيتها العذراوات آه أيتها الشياطي آه أيتها المسوح
آه أيتها الشهيدات، أيتها الأرواح العظيمة المزدرية للواقع
أيتها الباحثات عن اللا نهاية التقيات والسرقات
المليئات حينًا بالصراخات وحينًا آخر بالدمعات
أنتن اللاتي تبعتكن روحي إلى جحيمكن
أيتها الأخوات المسكينات أحبكن بقدر ما أشفق عليكن
من آلامكن الرتيبة وعطشكن الذي لا يرتوي
إنّ الجمال عنده له معان كثيرة وتوصيات كثيرة ومختلفة، لكنه لا يمكن أن يخلو من الحزن والرعب والكآبة! وفي الأخير، هو لمحة من لمحات طفيفة أوردتها من حياة بودلير وعن فلسفته. هذا الشاعر والكاتب الذي لم يعرف قلبه الاستقرار، ولم تعرف روحه الاطمئنان، ولا جسده الراحة، ولا نفسه السكينة.
إعلان